الخميس، يوليو 18، 2019

الوطن الأول!


تزوج معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه من امرأة بدوية، فنقلها من شظف العيش إلى دار الإمارة في عاصمة الدنيا: دمشق، ولكن المرأة البدوية اشتد بها الحنين إلى موطن البدو، فأنشدت بضعة من الأبيات الرقيقة التي صارت من عيون الشعر العربي، وبها خلد اسمها في عالم الأدب. قالت:

لبيتٌ تخفق الأرواح فيه .. أحب إلي من قصر منيف
وأصوات الرياح بكل فجٍّ .. أحب إلي من نقر الدفوف
وبكر يتبع الأظعان صعب .. أحب إلي من بلغ ذفوف
وكلب ينبح الطُرَّاق دوني .. أحب إلي من قطٍّ ألوف
ولبس عباءة وتقر عيني .. أحب إلي من لبس الشفوف
وأكل كسيرة من خبز بيتي .. أحب إلي من أكل الرغيف
خشونة عيشتي في البدو أشهى .. إلى قلبي من العيش الظريف

وقد ملك عبد الرحمن بن معاوية الأندلس، وأقام فيها دولة قوية فتية، جددت شباب الإسلام، ومع ذلك لم ينس الشام، ويسميها أرضه وبعضه، ولم تنس كتب التاريخ والتراجم أن تذكر لوعته وهو ينشد قائلا:

أيها الراكب الميمم أرضي .. أقرئ من بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرضٍ .. وفؤادي وساكنيه بأرضِ
قُدِّر البيْن بيننا فافترقنا .. وطوى البيْن عن جفوني غمضي
قد قضى الدهر بالفراق علينا .. وعسى باجتماعنا سوف يقضي

لم تستطع لذة الملك ولا منازل السلطان أن تنسي لذة البلد ولا أن تذهب بالحنين إلى البلدان!

وقد كانت معاناة الاغتراب والحرمان من القوة والقسوة بحيث أنطقت الشعراء بأعذب الشعر، وليس هذا من المواطن التي يصدق فيها قولهم: أعذبه أكذبه، بل أعذبه –هاهنا- أصدقه!

وما لنا نذهب بعيدا، وهذا بلال بن رباح قد أنشد مشتاقا إلى مكة، مع أنه في خير دار وخير جوار، في المدينة المنورة، في جوار الأنصار (وهل في الناس ناس كالأنصار حفاوة وإيثارا ونبلا وكرما؟!)، وفي جوار رسول الله.. كل هذا معه وأنشد ملتاعا مشتاقا لبلد مسَّه فيها العذاب:

ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة .. بوادٍ وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة .. وهل يبدون لي شامة وطفيل

نعم، لطالما استغربت واستبشعت بيت القائل:

بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة .. وأهلي وإن ضنوا عليَّ كرام

بل وحاولت أن أنسج ردا عليه، فقلت:

بلادي لئن جارت عليَّ لئيمة .. وأهلي لئن ضنوا عليَّ لئام

على أني بعد أن ذقت الاغتراب أجد لذلك القول مذهبا، وأجد له في صدري متسعا.. وصرتُ إذا هجا بلاده مقيم فيها عذرته، وإذا امتدحها مغترب عنها عذرته، فإذا مدحها مقيم فيها توقفتُ فيه فإن كان مرتاحا فيها فالأغلب أنه منافق، وإن كان يعاني فالأغلب أنه صادق، وكذا إذا هجا بلده مغترب عنها توجستُ منه، فإن كان طريدا مظلوما عذرته، وإن كان غير ذلك لم أستسغ منه هذا ورأيتها شعبة من اللؤم!

ولقد تعلمنا في المدرسة قصيدة شوقي في حب مصر: سلوا مصرَ هل سلا القلب عنها، وتعلمنا أنه قال فيها بيتا فيه مبالغة غير مقبولة، وذلك قوله:

وطني لو شُغِلتُ بالخلد عنه .. نازعتني إليه في الخلد نفسي

واستنكرنا مع من درسونا هذه المبالغة المذمومة، رجلٌ في جنة الخلد ثم يرى أنه سيشتاق وهو فيها إلى قطعة في الأرض!! ربما هنا يصدق في بيته قولهم: الشعر أعذبه أكذبه!

وما علينا من ذلك، سواء أكان صادقا في هذا أم لم يكن، إلا أن جوهر الإشكال هنا لم أفهمه إلا مع ابن القيم رحمه الله..

كتب ابن القيم كتابا عجيبا رقيقا مثيرا للأشواق فيه وصف الجنة، وسمَّاه "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح"، وكان هذا الكتاب قرينا لأصحابنا أيام المراهقة، حيث كنا نغالب المراهقة والفتن بحديث الصبر وحديث الحور العين، وفي هذا الكتاب نظم ابن القيم قصيدته الشهيرة وقال فيها:

فحيِّ على جنات عدنٍ فإنها .. منازلنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى .. نعود إلى أوطاننا ونسلم

في غربتي انتبهت لأول مرة إلى لفظ (أوطاننا) في أبيات ابن القيم رغم أنه قد مضي على حفظي لهذا البيت أكثر من عشرين سنة، وبهذا اللفظ انحل الإشكال الذي نشأ في بيت شوقي!

أولئك الصالحين عندهم من الإيمان واليقين وقوة الروح ما جعلهم يصلون إلى الحقيقة الأولى الكبرى، حقيقة أن منازلنا الأولى وأوطاننا الأصلية إنما كانت في الجنة، الجنة التي أُخْرِج منها أبونا آدم عليه السلام، ولذلك لا يزال دأب الصالحين أن يتشوقوا للجنة تشوقهم للوطن الأول والمنزل الأول!

نَقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى .. ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى .. وحنينه دوما لأول منزل

لم ينس الصالحون أول القصة الكبيرة، قصة الجنة التي كانت أول الأمر ومبتداه، لم تبدأ قصتهم مع الأرض في لحظة المولد، لذا كان تعلقهم واشتياقهم بالمنزل الأول: الجنة التي أسكنها الله آدم عليه السلام!

لهذا يكثر في كلامهم حديث السفر والغربة، لا عن الدار والبلد التي هي في الأرض، بل الغربة في هذه الأرض، ولذا لما سُئل الإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة!

ولما حضرت بلالٌ الوفاة تهلل وجهه وقال: غدا ألقى الأحبة، محمدا وصحبه!

ولما خُيِّر رسولنا الأعظم –صلى الله عليه وسلم- بين أن يخلد في الدنيا ملكا أو أن يتوفاه الله، اختار الوفاة، وقال: بل الرفيق الأعلى.. بل الرفيق الأعلى!

وترك لنا قبل وفاته –صلى الله عليه وسلم- وصايا حافلة بمعنى الغربة والصبر فيها، فأمسك يوما بمنكبي عبد الله بن عمر وقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"!

ولما رآه الصحابة يوما ينام على حصير قاسٍ ترك أثره في جنبه –صلى الله عليه وسلم- قالوا له: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وِطاءًا، فقال: "ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها".

ومما سمعته من مشايخنا أن الرجل إذا ركب مواصلة فرأى في كرسيه قطعا أو خرقا، لم يأبه له كثيرا، ولم يقض وقته يحاول إصلاح الخرق ورتق الفتق، ولم ينفق على ذلك من ماله ولم يبذل فيه همَّه، ذلك أنه يعلم أنها مجرد مواصلة لن يلبث أن ينزل منها، قال الشيخ: فكذلك الدنيا!

ثم مما قرأناه على صفحات شبكات التواصل أن أرقى ما تكون الأخلاق بين المسافرين، يتبادلون الابتسامات ويتحلون بالذوق ويتجملون، يعرف كل منهم أنه لقاء عابر ولحظات سريعة، كان زهدهم في العلاقة دافعا لهم إلى التجمل فيها، فكذلك الدنيا أيضا!

لئن كان المرء بطبعه وفطرته يشتاق إلى بلد لم يخرج منها إلا مطاردا مضطرا، مهما كانت حالة بلده من البؤس والسوء، فكيف ينبغي أن يكون الشوق للموطن الأول والمنزل الأول وهو منزل الراحة والسرور، وهو موضع رضا الله ونعمته على عباده؟!

اللهم ارزقنا يقينا نعلم به أن وطننا الأول هو الجنة!


هناك 3 تعليقات:

  1. بصراحة كلام كبير اوي يمس شغاف القلوب لحنينا لبلادنا وهي موطننا الثاني فما بالنا بموطننا الاول الجنة اللهم ردنا اليها ردا جميلا

    ردحذف
  2. مقالة رائعة كعادتك يا استاذ محمد إلهامي

    ردحذف
  3. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف