الأربعاء، مايو 01، 2019

قصة قسطنطين صروف


روى الطبيب السوري إياد الأسعد قصة سجنه الطويل في سجن تدمر السوري الرهيب الذي هو رمز السجون العربية المعاصرة، والسجون العربية هي الشاهد الأمثل الأوضح على هذه الحقبة العربية السوداء. وقصة إياد الأسعد خرجت للجماهير في رواية "يسمعون حسيسها" للروائي الأردني أيمن العتوم الذي تولى هذا الأمر.

ومن بين مشاهد القصة لا أحسب أن قارئا قد ينسى قصة قسطنطين صروف!

إنه مسيحي شيوعي، وكان قياديا بالحزب الشيوعي، إلا أن أباه كان قد أيقن أن اللغة العربية ترفع صاحبها، فأرسله إلى الكُتَّاب صغيرا فحفظ القرآن، ولما كبر درس العربية فأتقنها، فإذا هو فصيح اللسان حاد الذهن فضلا عن طبع مرح وروح متعاونة!

وحيث كانت المصاحف والأقلام والدفاتر ممنوعة في السجون، تولى حُفَّاظ القرآن تحفيظ من شاء من المساجين، ولم يكن في ذلك المهجع (الزنزانة الكبيرة) من يستطيع منافسة قسطنطين صروف ولا حتى مقاربته، وكان يعرض خدماته قائلا: "مين بدّو ياخد السند مني؟!".

وفيما تحرج كثيرون من المسلمين أن يحفظوا القرآن على يد غير مسلم، اضطر آخرون أن يأخذوه عنه لقلة البدلاء ولكفاءته، وكان أشهر تلاميذه: عامر الزعيم. وعامرٌ هذا له قصة أخرى، إذ هو من عتاة المجرمين وقد كان عريقا في الإجرام: قتل وسرق وزنى وسكر وتاجر في المخدرات، إلا أنه وبدافع الحمية حاول تهريب برميل مازوت إلى داخل حيِّه المحاصر ليعين المخبز الوحيد الذي يتعيش عليه الناس الذين يتضورون جوعا ويشرفون على الموت، فاعتقل واتُّهم بأنه قائد تنظيم الإخوان في هذا الحي، ونزل سجن تدمر.

كان عامر بليدا لا يستطيع الحفظ، لم يتمكن أن يحفظ خمس آيات من سورة طه (وآياتها قصيرة) حتى صار يحفظ آيتين فآيتين، وبدأ الطريق ينفتح له حتى أتم حفظ سورة طه بعد ثمانية أشهر (وهو زمن طويل بالنسبة لهذه السورة السهلة لا سيما لمسجون يكاد أن يكون متفرغا)، وربما احتاج ليردد اللفظ الواحد مائة مرة كي يستقيم في لسانه، إلا أنه مع الصبر والدأب والإصرار أتم حفظ القرآن كله، على يد شيخه المسيحي الشيوعي: قسطنطين صروف.

ثلاثة آخرون من الحُفَّاظ في المهجع استنكروا أن تكون له حلقة، إذ كيف يؤخذ القرآن عن مسيحي شيوعي، لكن لم يكن ثمة رفاهية لتطوير الخلاف في السجن الرهيب، فحَكَمَت ظروف القهر والاضطرار أن يبقى رابعهم في تحفيظ القرآن، وكان مما يتميز به على سائرهم أنه –وياللعجب!- يحفظ القرآن بأكثر من قراءة، ما دفع صاحبنا الراوي أن يعتقد أنه مسلم في السر! سيظل لغز إسلام قسطنطين صروف بلا حل، حتى لحظة وفاته، فقد كان يتهرب من الجواب فلا هو يثبت ولا هو ينفي.. لا هو يحضر الصلاة مع المصلين ولكنه يحرك شفتاه عند الصلاة كهيئة الذي يصلي! اللهم إلا مرة واحدة: وقف إلى جوار الصف في صلاة الجنازة على شقيق صاحب التجربة: إياد الأسعد، فقد كان أخاه معتقلا أيضا في تدمر ثم أُعْدِم ولم يستطع أحدهما أن يقابل أخاه رغم تجاورهما في الزنازين!!

بعد قليل كان قسطنطين قد زاد أصحابه مفاجأة أخرى: إنه يحفظ المُعَلَّقات (وهي قصائد طويلة من الشعر الجاهلي تزيد الواحدة منها عن مائة بيت، وهي في صدر البلاغة العربية). هذا وهو في السبعين من عمره!!

كانت له حلقتان في اليوم، الأولى بعد الفجر حتى الإفطار والثانية من السادسة حتى موعد النوم، وقد حافظ عليهما بلا كلل ولا ملل طوال السنين التي قضاها مسجونا، وبعد خمس سنوات حفظ القرآن كاملا أربعة على يد قسطنطين، فضلا عن خمسين حفظوا منه، وهذا مع استنكاف عدد من الإسلاميين أن يأخذوا القرآن عنه إذ كيف يكون في سندهم إلى النبي وجبريل رجل مسيحي شيوعي؟!

كان هارون تلميذا لقسطنطين، قضى ليلته في قراءة سورة البقرة غيبا على شيخه المسيحي، حتى وصل إلى قوله تعالى (ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أمواتا، بل أحياء ولكن لا تشعرون)، فما هو إلا أن طرق الباب جندي فنادى اسمه، ثم ساقه إلى الإعدام في ساحة تدمر!! شَعَر قسطنطين بالفجيعة، ذلك أنه هو الذي ألزمه بالقراءة عليه في هذه الليلة، فحسب في لحظة الهول والذهول أنه قد يكون مسؤولا بذلك عن اختيار لحظة موته!

في مرة أخرى كان تلميذه وليد يقرأ عليه سورة المؤمنون، لقد حفظ عليه يديه ثمانية عشر جزءا إذن، إلا أن وليدا ما إن وصل إلى قوله تعالى (ثم إنكم بعد ذلك لميتون) حتى توقف ولم يستطع مجاوزة الآية! استغرب قسطنطين وسأله، قال وليد: الآية تقول لي أن الموت صار قريبا مني. وما هي إلا ساعات حتى نودي اسم وليد للإعدام!.. بقي قسطنطين بعدها عشرة أيام صامتا لا يُكَلِّم أحدًا!

فيما بعد، ونظرا لظروف السجن القذرة، أصيب قسطنطين بالتيفود، وأخذ يذبل ويذوي ويضمر وينحف وتأكله الآلام رويدا رويدا حتى مات كأول مصاب بهذا المرض وهو في الثمانين من عمره، عمَّ الحزن على الجميع لكن وقع معه آخر خلاف في شأنه: هل نصلي عليه أم لا؟ ثم صلى عليه خمسة كان إمامهم صاحب الرواية الذي كان يرجح أنه مسلم.

إنها قصة واحدة من ملايين القصص التي تُكتَب في أدغال الزنازين وكهوف القهر وأقبية الذل، وشبيهاتها كثير، ولأن سجون بلادنا في هذه الحقبة مُعَدَّةٌ للصالحين فكم ضمَّت بين جدرانها علماء وفقهاء ومفسرون وحفظة، إلا أني لم أقصد من إيراد هذه القصة إضافة مقال جديد في بيان نكبتنا وحسرتنا الحالية، بل قصدت إلى غرض آخر.

هذا الإنسان مكنوز بالطاقات، إلا أنها لا تتفجر إلا تحت إلحاح قوي من الرغبة أو الرهبة، فلقد قصد والد قسطنطين أن ينيل ابنه مقاما رفيعا في الدنيا بتعلمه القرآن والعربية، كانت رغبته قوية حتى جعلت ولده مثالا في حفظ القرآن على مسيحيته وشيوعيته، كذلك كانت رغبة "الزعيم" في الحفظ مع بطء حفظه وعسرة لسانه واعتياده على حياة لا موضع فيها للقرآن.

هذه أيام شهر رمضان قد أقبلت، وهي أيام القرآن التي يكثر فيها تلاوته وإذاعته وسماعه، والجدير بالمسلم الذي يرجو ثواب الآخرة أن يكون له من الرغبة والطموح والهمة ما يجعله حريصا على القرآن حفظا وتلاوة وسماعا، وفهما أيضا.. بل هذا الفهم والتدبر هو المقصود الأول من كتاب الله، فإنه كتاب هداية.

وهذه أيام عصيبة عسيرة على الأمة كلها، ففي أقصى الشرق يُعذَّب المسلمون في تركستان الشرقية، وحتى الغرب يواجه المسلمون مؤامرة على ثورتهم في الجزائر، وما بين المشرق والمغرب طيف متصل من المآسي والعذاب، وتوشك هذه الأيام أن تطالعنا بصفقة القرن المنتظرة، ومن ثَمَّ فليس للمسلم في أيام المحن القادمة إلا أن يمتلئ عقليا ونفسيا، فكريا وروحيا، من كتاب الله تعالى، عسى الله أن يهديه به في ظلمات الفتن فلا يسقط فيها ولا يضل.

وأولى بالمسلم أن يستفزه ويثير حميته أن قد حفظ القرآن قبله رجل مسيحي شيوعي لغرض من أغراض الدنيا، ورجل كان عريقا في الإجرام لا يعرف للقرآن طريقا بل يعسر عليه التلفظ به. وما تيسر لهما هذا إلا بصدق الهمّ وعلو الهمّة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق