الاثنين، فبراير 18، 2019

مذكرات الشيخ رفاعي طه (11) هكذا شاهد جيلنا حرب أكتوبر وانكسرت أحلامه في التحرير


مذكرات الشيخ رفاعي طه (11)
من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية
هكذا شاهد جيلنا حرب أكتوبر وانكسرت أحلامه في التحرير

·      هتفنا في أول لحظات الحرب: لا وقف للحرب إلا بعد تحرير فلسطين
·      لم نكن في غمرة الانتصار نصدق وسائل الإعلام المصرية
·      كان الانتقال من القرية والمدرسة إلى المدينة والجامعة صدمة كبيرة
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

لقراءة الحلقات السابقة:
الحلقة السادسة: قصتي مع التصوف
الحلقة السابعة: قصة ثورة في المدرسة

حين أتذكر اليوم الأول من حرب أكتوبر أتذكر أن أول بيان صدر من القيادة العسكرية المصرية يقول: قامت طائرات من العدو الإسرائيلي بضرب قواتنا شرق (!) وغرب القناة، وأن طائراتنا المصرية قد تصدت لهذا العدوان وطاردت الطائرات الإسرائيلية حتى فوق سيناء.

كانوا فيما يبدو قد بدأوا يتعلمون فن صياغة البيانات التي تمهد للفكرة أو التي تجعل الموقف العسكري يبدو قانونيا منطلقا من حق الدفاع عن النفس، فكانت الصياغة تحمل معنى أن الأمر بدأ دفاعا لكنه تطور إلى مطاردة الطائرات الإسرائيلية حتى شرق القناة فوق سيناء، وبعد زمن جاء البيان الثاني الذي يتحدث عن نجاح قواتنا في ضرب قوات العدو، وأنها الآن موجودة في سيناء وأنها تمكنت من عبور قناة السويس. هذا البيان هو الذي كان بمثابة الإعلان عن اشتعال الحرب وهو الذي أشعل الروح المعنوية في صفوف الشعب المصري، وانطلقت الحناجر تهتف باسم القدس ولرفض إيقاف الحرب قبل تحرير فلسطين.

سرى هذا النداء الفطري التلقائي بين الناس في اللحظات الأولى، كأن ثمة شعورا خفيا يجمع بينهم في أن هذه الحرب ستتوقف قبل القدس!! ربما يعود الأمر إلى الثقة المفقودة بين الشعوب العربية وحكامها وهو الأمر الذي يدفعهم لئلا يصدقوا حتى في لحظة الحرب أنها حرب صادقة وحقيقية وستستمر إلى بلوغ هدفها، وربما لهذا الأمر تفسيرات أخرى نتركها لعلماء الاجتماع وعلم النفس السياسي.

لكن المهم هنا أنني وجدتني مع ثلاثة أو أربعة من الطلاب من كليات مختلفة: هذا في كلية العلوم وهذا في كلية التجارة وهذا في كلية الهندسة، وجميعنا في اليوم الأول من الجامعة، وفي لحظة المعنويات المرتفعة، ومع ذلك، فسرعان ما اتفقنا على أن ننظم غدا مظاهرات بالجامعة تطالب باستمرار الحرب، لكن وقفت أمامنا مشكلة غير متوقعة: أن الحرب مستمرة بالفعل! جاء اليوم التالي والحرب مستمرة، ثم اليوم الثالث والحرب مستمرة.. وهكذا لم يعد للمظاهرات التي تطالب باستمرار الحرب أي معنى لأن الحرب مستمرة بالفعل!

طفق الناس يفكرون فيما ينبغي لهم فعله خلاف التظاهر، ومن نافلة القول أن الهبة الشعبية فعلت في الساعات الأولى ما كان ميسورا لها، لقد تدفق الناس كالسيل على المستشفيات للتبرع بالدم، كان الناس يتبرعون بدمائهم بانهمار غريب يمكن حتى وصفه بالجنون، إن التهاب المشاعر جعل الذين لم يحاربوا يسارعون في "سفك" دمائهم –إن صحَّ التعبير- تضامنا مع أولئك الذين يجاهدون الآن في سيناء.. ومع مرور الأيام الثلاثة والحرب مستمرة والناس تتبرع بالدم ظهرت وانتشرت وسادت أفكار التطوع للقتال ومساندة الذين على الجبهة!

ومع هذا كله فلقد كان جدار الثقة لا يزال غير مكتمل، كان الناس يتابعون الأخبار عبر الإذاعات الأجنبية، يتأكدون من حقيقة العبور وانتشار القوات المصرية من إذاعات لندن وأمريكا ومونت كارلو، بعضٌ من أثر الخديعة الإعلامية في 1967 لا يزال حيًّا في النفوس، لكن الأمر يبدو وكأنه حقيقي هذه المرة، ها هي القوات المصرية تتوغل بعمق عشر كليومترات في شرق سيناء، وها هي الجولان تتحرر ويتقدم فيها الجيش السوري، وتفيد الأنباء أن القوات المصرية تستعد لمواصلة زحفها إلى ممرات متلا!

رغم أن القوات المصرية –كما عرفنا فيما بعد- لم تخطط ولم تنو أن تتقدم بعد هذه الكيلومترات العشر، ولم يكن في خطتها أصلا الوصول إلى ممر متلا إلا أن الإذاعات الأجنبية نقلت أحيانا خبر الزحف أو الوصول إلى ممرات متلا، حتى تلك المصادر لم تكن دقيقة، أو لعلها أرادت إعطاء المبرر والزخم لمعركة الدبابات التي كانت إسرائيل تحشد لها. فالصورة التي كانت تصلنا أن قواتنا في تقدم إلى وسط سيناء وأن إسرائيل تحاول عرقلتها ومدافعتها.

وقد عرفنا فيما بعد أن مصر لم تكن تمتلك أكثر من أربعمائة دبابة، لكن الأخبار والإذاعات كانت تتحدث عن أكبر معركة دبابات تدور الآن، عن ألف دبابة مصرية تواجه ألف دبابة إسرائيلية في سيناء، وكل هذا كان يعطي مزيدا من الزخم للمعنويات المرتفعة في الشعب المصري، والتي تسكب عليها الشعوب من نفسها مبالغات أخرى. ثم تنتهي معركة الدبابات هذه بأسر القائد الإسرائيلي عساف ياجوري والذي عُرضِت صورته وصورة بعض جنوده على الصحف والشاشات في مصر مما بلغ بمعنويات الناس عنان السماء، وأثبت لهم أن الأمور تسير على ما يرام أو حتى تسير بأفضل من المُتَوَقَّع.

لا شك أنه سقطت من ذاكرتي أشياء مهمة عن هذه المرحلة، لكن الذي أتحقق منه أن معنويات الناس ظلت في ارتفاع حتى خطاب السادات الذي ألقاه في مجلس الشعب (16 أكتوبر) بعد عشرة أيام من الحرب، وفيه طرح مسألة السلام وعقد مؤتمر سلام. هنا انكسرت معنويات الناس ودخلنا في مرحلة أخرى جديدة، مرحلةٌ صرنا نسمع فيها قول الناس: سنخسر دماء الشهداء ونحوها من العبارات التي تصب في نفس المعنى.

لم يلبث الأمر إلا ساعات بعد خطاب السادات إلا وبدأت تتسرب أنباء الثغرة، وبأن القتال صار عند حافة قناة السويس بعدما كانت الآمال تتابع تقدمه من وسط سيناء إلى ما وراءها، وبدأت الإذاعات تنقل أنباء استعادة الإسرائيليين لمناطق الجولان مرة أخرى، بدأ ميزان المعركة ينقلب وبدأت إسرائيل تستعيد زمام المعركة، ثم جاءت الأنباء بأن القتال يحدث في السويس، ونقلت الشاشات والإذاعات أن جولدا مائير تزور قواتها في الجبهة وتعلن أنها تقاتل من قارة إفريقيا!!

خرج السادات مرة أخرى على الإعلام وقلَّل من أهمية الثغرة، والإذاعات تنقل أن قوات مصرية شرق القناة في سيناء ولكن ثمة قوات إسرائيلية أيضا غرب القناة، إذن فعلى الأقل لم نعد منتصرين والأمر ليس محسوما، برر السادات هذا الوضع وقال بأنه تكتيك وأن ما حققه الإسرائيليون ليس انتصارا استراتيجيا وأنهم محاصَرين أكثر مما هم مُحاصِرين، وأكد على الوضع المتفوق للقوات المصرية.

لكن الذي أستطيع تأكيده أن البيانات العسكرية كانت مهتزة بوضوح في أيام 22 و23 و24 أكتوبر، وكان يتضح فيها استصراخ العالم لوقف إطلاق النار، كان الشاب منا في تلك الفترة يستطيع أن يميز بسهولة حالة الهلع التي كان عليها الإعلام المصري آنذاك، ولست أدري ما إن كانت هذه هي الحالة العامة الموجودة في الجيش آنذاك أم لا، إلا أنها على كل حال –وكما عرفنا فيما بعد- كانت تعكس الحالة على الأرض، إذ كانت القوات الإسرائيلية قد استطاعت التقدم على طريق السويس واستطاعت حصار الجيش الثالث في جنوب غرب سيناء، وكان النظام المصري ملهوفا على وقف إطلاق النار. وبدا بشكل لا ريب فيه أن إسرائيل امتصت الضربة الأولى وأنها استعادت زمام الموقف.

ذلك ما أتذكره بوضوح من تلك الأيام، بالإضافة إلى الحالة النفسية العامة التي تدهورت بعد قبول وقف إطلاق النار، وبعد تسرب الخلافات التي كانت موجودة في قيادة الجيش كما عرفنا تفاصيلها بعد ذلك مما كان بين رئيس الأركان سعد الدين الشاذلي وبين وزير الحربية أحمد إسماعيل والسادات، وما سوى ذلك لا أستطيع الآن تذكره بوضوح.

منذ لحظة وقف إطلاق النار، بل منذ لحظة بدأ السادات الحديث عن السلام، وبدأت المعارضة تتصاعد ضده، وكانت الجامعة واحدة من أهم المسارح التي شهدت المعارضة الشرسة للسادات.

قاد التيار اليساري حملة ضخمة تنكر أن يكون السادات بطل حرب أو حتى بطل سلام، وأنه إنما سيبيع القضة للأمريكان، وقد دُعِم هذا الكلام حين خرج السادات فيما بعد وصرَّح قائلا بأن 99% من أوراق اللعبة بيد الأمريكان، ثم دُعِم أكثر حين زار نيكسون الرئيس الأمريكي القاهرة في ربيع عام 1974م كنوع من الدعم والتأييد لموقف السادات، لكنها الزيارة التي أثبتت أن مصر قد تحولت إلى المعسكر الأمريكي وتخلت تماما عن المعسكر السوفيتي، وأن حرب أكتوبر التي استبشر بها الجميع قد انتهت إلى النتيجة التي لم يتوقعها أحد، وهنا تختلف التفسيرات: هل كانت من البداية حرب تحريك لا تحرير وكان مصيرها هذا مخطط سلفا عند قادة السياسة الكبار؟ أم أنها بدأت حرب تحرير ثم انتهت حرب تحريك وتمهيد لإنهاء ملف الصراع مع إسرائيل بل ولفتح ملف التطبيع والسلام معها؟.. هذا أمر نتركه للمؤرخين.

والشاهد أن دخولي إلى الجامعة ارتبط بهذه الحرب، وارتبطت أيامي الجامعية بالمعارضة التي انبثقت في أرجائها اعتراضا على سياسة السادات، ولقد كان ذلك يمثل لي تطورا دراميا شديدا، لقد كان خروجا من عصر عبد الناصر الذي كانت معارضته تكلف كثيرا في قرية نائية إلى عصر السادات الذي كانت معارضته ممكنة وصاخبة في ساحة ضخمة ومركزية كالجامعة.

وقد ترافق هذا مع تطور درامي آخر على مستواي الشخصي، فهذا ابن القرية النائية المغمورة وجد نفسه فجأة في مدينة ضخمة مثل أسيوط، نقلة أشبه بالصدمة الحضارية، وهذا ابن المدرسة الصغيرة المحددة الحصص والمحكومة النظام وجد نفسه في الجامعة الفسيحة المتراخية النظام والقيود، وهذا ابن الفصل الصغير يجد نفسه في المدرج الواسع المهيب، وهذا التلميذ الذي قد اعتاد التعامل مع أستاذ الفصل في المدرسة يجد نوعا آخر من الأساتذة في شخصية وأسلوب وطباع أستاذ الجامعة، وهذا ابن القرية المنضبطة أخلاقيا والتي ينتصب فيها حاجز واضح بين الرجال والنساء يجد هذا الاختلاط بين الشباب والفتيات في الجامعة وفي ظل انعدام رقابة أبوية لطالما اعتاد عليها حتى شكَّلت جزءا من نفسيته وتفكيره وإذا هي الآن غائبة مفقودة.

لولا وجود "السيكشن" لانتفى كل شبه بين المدرسة والجامعة، لكن هذه "السكاشن" ذَكَّرتنا بفصول المدرسة الصغيرة وأعداد الطلاب المحدودة.

كنت أحتاج وقتا حتى أستوعب هذا التغير في حياتي وأتعرف على هذا المجتمع الجديد كليا على تصوراتي، لكن الحياة لا تترك لأحد وقتا، وسرعان ما دخلت في المعمعة، ووجدتني في أيام الجامعة الأولى أخوض اشتباكا مع أستاذ القانون حول الشريعة الإسلامية!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق