الخميس، مايو 19، 2016

كيف تأسس حزب العدالة والتنمية التركي

تناولنا في المقالات السابقة: قصة المؤسس، وفريقالمؤسسين، والانفصال عن حزب الفضيلة، والرؤية الفكرية.. ونرى في السطور القادمة كيف عالج حزب العدالة والتنمية تحديات: الكوادر البشرية، والأموال، وبرنامج الحزب.

الكوادر

توحي روايات من كتبوا عن تجربة الحزب أنه لم تكن ثمة معاناة في مسألة الكوادر، ذلك أن شعبية أردوغان من جهة ثم إغلاق حزب الفضيلة من جهة أخرى وفَّر للحزب كثيرا من الكوادر ساعة انطلاقته[1]، بالإضافة إلى كوادر أحزاب اليمين الوسط كحزب الطريق القويم وحزب الوطن الأم الذين لم يعد لهم ممثل قوي في الساحة السياسية[2]، بل إن عملية اختيار رؤساء فروع الحزب بالمحافظات كانت تأخذ فترة طويلة لأن "المرشح لهذه الوظيفة لم يكن يكلف بتوليها إلا بعد أن يخضع لبحث وتقص جادين. وكان لا يُعانَى من نقص في قاعدة البيانات" ويعتمد قبوله على استطلاعات الرأي السابقة بالإضافة إلى مميزات الشخص نفسه[3]، وقد ضم الحزب يمينيين وقوميين وليبراليين بالإضافة إلى أردوغان ورفاقه[4] مما زاد في نفى صفة "الإسلامية" التقليدية عنه، وألصق به أحيانا صفة كونه "ائتلافا من فصائل مختلفة لا حزبا متجانسا"[5].
ابتعد البرنامج تماما عن ذكر صريح للإسلام ونصَّ على "الديمقراطية المحافظة" وقَبِلَ بالحداثة "إلى حدِّها الأقصى"، وكان ترجمة للهوية السياسية التي اعتمدوها بما تحتويه من غموض وأسئلة غير مجاب عنها بنظر البعض[6]. إلا أن أمورا ميَّزت برنامج الحزب، أبرزها ما كان في جوهره ردًّا على بقية الأحزاب، فمن ذلك انحياز واضح نحو تجديد الدماء فيما يبدو أنه ردٌّ على ما جرت به عادة الأحزاب الأخرى العلمانية والإسلامية على السواء، إذ حددوا مُدَدَ من يقوم بنيابة الشعب بحيث لا تزيد على ثلاث دورات، وبحيث لا يرأس الحزب شخص واحد أكثر من خمس دورات[7].

واهتم البرنامج اهتماما خاصا بالملف الاقتصادي الذي كان "واجب الوقت" وأكثر الملفات إلحاحا، لما وقعت فيه تركيا من أزمة تضخم كبرى أسفرت ضمن أمور أخرى عن الانتخابات المبكرة، وقد تولى هذا الملف علي باباجان، وهو رجل اقتصاد من عائلة لا تعمل بالسياسة ولم يتعرف على أردوغان إلا في مرحلة متأخرة، وكانت أبرز العوائق التي تواجههم وينبغي وضعها في البرنامج: الديون، صندوق النقد الدولي، السوق التركي المضطربة[8]. واختفى من برنامجهم "الصناعة الوطنية الثقيلة" التي كانت في برامج أربكان وحلَّ مكانها مفهوم اقتصاد السوق الحرة الذي يأخذ بعين الاعتبار مصالح الطبقة الوسطى[9]، وكان أبرز ما قاموا به في هذه الفترة أنهم روجوا لهذا البرنامج لدى عدة جهات في الخارج: لندن ونيويورك[10] وحققوا بذلك عدة أهداف لا ريب أن أهمها التسويق السياسي قبل الاقتصادي لدى هذه الجهات وعلى رأسها صندوق النقد الدولي ومحاولة استشراف اتجاهات خارجية قد تؤثر في وضع الخطط والبرامج والخطاب السياسي.

وكانت من أبرز ملامح البرنامج وضع "خطة الأعمال العاجلة" التي تحدد برنامج الأيام الأولى، فقد حضَّروا في فترة التأسيس "عشرات من المشاريع الإصلاحية الجاهزة للتنفيذ فورا"[11]، وكانت خطة طموحة أثارت دهشة بعض السياسيين، غير أنهم كانوا واثقين من قدرتهم على تنفيذها[12]، ولعل ذلك كان بأثر زياراتهم الخارجية المتعددة التي ساهمت في تسويق السوق التركية للاستثمار.

وأكثر ما لفت أنظار المراقبين في البرنامج هو الرغبة الصريحة الواضحة في الانضمام للاتحاد الأوروبي والتي تعبر عن مفارقة للفكر المعتاد للأحزاب الإسلامية السابقة[13].


فوض أردوغان صديقه رجل الأعمال جنيد زابصو في اختراق هذه فئة رجال الأعمال، ووعده بأن أي شخص سيأتي به منهم سيجعله في مجلس المؤسسين، وقد نجح جنيد في ضم عشرين منهم وُصِفوا بأنهم يساوون مليار دولار، كذلك كان الباب مفتوحا أمام مساعدات "أصحاب المحال الصغيرة، ومن التجار، ومن المتبرعين" الذين يمثلون القاعدة الشعبية الكبرى للحزب، مع الحرص على الابتعاد عن رؤوس الأموال التي تحاول شراء نفوذ سياسي[14].

إلا أن أهم ما في الموضوع هو في كون الحزب قد طرح نفسه باعتباره ديمقراطيا محافظا يمثل يمين الوسط ومنشقا عن الفكر السياسي الذي مثَّله أربكان، فلقد فتح هذا طريقا أمام عدد كبير من رجال الأعمال المتدينين "الشباب[15] الذين يمثلون رؤوس الأموال في الأناضول، وبمعنى آخر كانوا من الطبقات الاجتماعية التي استهدفها انقلاب 28 فبراير/ شباط ثقافيا واقتصاديا. وأراد هؤلاء الشباب التخلص وفي أسرع وقت ممكن من العبء الأيديولوجي الذي حمَّلتهم إياه (حركة الفكر الوطني) إذ رأت هذه الحركة أن هؤلاء الشباب يمنعون تحقيق مطالبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كما أنهم كانوا على قناعة تامة بأنهم لن يحصلوا على أي نتيجة من الأرجوحة التي يحركها أصحاب السلطة لسنوات وفقا لمصالحهم. ولكل هذه الأسباب كانوا يشعرون بالحاجة إلى كيان سياسي جديد يمنع الصدام بينهم وبين الحكومة المركزية، ويضع في اعتباره حساسية الحكومة تجاه بعض الأمور من ناحية ومطالبهم من ناحية أخرى"[16]. وكانت هذه الطبقة الناشئة من رجال الأعمال قد تجاوزت أعمالها الشركات الوسيطة لتصبح شركات كبرى وصارت منظمتهم "الموسياد" (رابطة الصناعيين ورجال الأعمال المستقلين) الأكبر والأسرع نموا في تركيا، وقد كانوا من داعمي حزب الرفاه إذ وجد كل طرف مصالحه عند الآخر[17]، ويقسِّم بعض الباحثين هذا القطاع إلى قسمين: الموسياد الذي صار يُحسب فيما بعد على العدالة والتنمية، وقسم آخر عُرف فيما بعد باسم "تحالف توكسون" وهو تابع لجماعة فتح الله كولن[18].

وقد "كانت هناك أوساط –منها (جمعية توسياد) التي تمثل اتحاد رجال الأعمال الأتراك- على استعداد لدعم كيانات جديدة يمكنها أن تملأ الفراغ السياسي للحكومة المركزية، ويمكنها أيضا أن تجد إجابة للبحث عن هوية أكثر ليبرالية، وأكثر جماعية، ومستقلة في الوقت نفسه عن مفهوم الفكر الوطني الذي رجح أن يظل صامتا حتى يتلاشى غضب انقلاب 28 فبراير"[19].

في المقال القادم بإذن الله تعالى، ننظر كيف اجتاز الحزب تحديات: الجمهور والقاعدة الشعبية، وكيف تعامل مع الواقع الإقليمي والدولي عند لحظة التأسيس، فالله المستعان.

نشر في تركيا بوست



[1] Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 29.
[2] Aydin, Çakır: Political Islam in Turkey, p. 2.
[3] بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص336.
[4] برنامج تحت المجهر: "العثمانيون الجدد"، قناة الجزيرة، بتاريخ 26 يوليو 2007
[5] Aydin, Çakır: Political Islam in Turkey, p. 2.
[6] Aydin, Çakır: Political Islam in Turkey, p. 2.
[7] بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص323.
[8] بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص365 وما بعدها.
[9] Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 29.
[10] بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص369.
[11] برنامج تحت المجهر: "العثمانيون الجدد"، قناة الجزيرة، بتاريخ 26 يوليو 2007
[12] بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص370.
[13] http://www.akparti.org.tr/english/akparti/parti-programme
[14] بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص312، 337.
[15] أبرزهم: مجاهد أرسلان، عمر تشاليك، فاروق كوجا، أحمد توبراق، يافوز سليم أراس. بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص307.
[16] بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص307؛ Ömer Taspinar: Turkey’s Middle East Policies, p. 13; Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 28.
[17] Heinz Kramer: A Changing Turkey, p. 67-8; ; Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 20-1.
[18] Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 52-3.
[19] بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص308.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق