الأحد، أغسطس 17، 2014

كيف أفسدنا الاحتلال: بالدعوة أم بالسلطة؟

من أخطر الأزمات الإسلامية في التاريخ الحديث والمعاصر هو ما انتشر في أوساط كثير من الحركات الإسلامية من أن الإصلاح يبدأ من الفرد أو من المجتمع قبل السلطة، بل ذهب بعضها بعيدا فامتنع تماما عن إصلاح السلطة وغرق في محاولات إصلاح الفرد والمجتمع. 

بينما طريق التغيير (الإصلاح أو الإفساد) يبدأ من السلطة قولا واحدا، وكل مرحلة الدعوة إنما تستهدف إنشاء الشوكة (القوة) التي تتمكن من صراع السلطة وتغييرها ثم بعدئذ إصلاح المجتمع من خلال السلطة. 

وذلك ما فعله أعداء الإسلام حين اخترقوا بلادنا، فهم لم ينفقوا أموالهم وأوقاتهم في علمنة الناس أو تنصيرهم أو إلحادهم تحت ظل "سلطة إسلامية"، بل على العكس تماما، بدأوا في إفساد السلطة والنخبة، وعبر نجاحهم في هذا الإفساد تسرب الفساد إلى المجتمع، فسادٌ بقوة السلطة وسطوة ونفوذ النخبة. 

أمريكا -ومن قبلها انجلترا وفرنسا- لا تسيطر على بلادنا لأنها تسيطر على الشعوب، بل لأنها تسيطر على الحكام وعلى مفاصل القوة (السلاح، المال) وهؤلاء يقومون بدورهم في إفساد المجتمع وحرب كل حركة إصلاح فيه حتى وصلوا إلى درجة لم تخطر ببال أحد (منع الصلوات وإغلاق المساجد ومنع الدعاء على الظالمين).. أي أنهم حاربوا في صميم مساحة الشعائر. 

تخيل ماذا سيحدث لو كان العكس: اقتنعت حركات الإسلام بإصلاح السلطة أولا وبذلت في هذا جهدها حتى نجحت (مهما تكن التضحيات) واقتنعت أمريكا وأوروبا بإفساد المجتمع شيئا فشيئا وبالتدرج وبالصبر وسعت في بث دعاتها تحت ظل السلطة الإسلامية.. ساعتها: من الذي سينجح ومن الذي سيفشل. 

بالمناسبة: حتى الإمام البنا لم يكن منهجه هذا التدرج: الفرد ثم الأسرة ثم المجتمع ثم السلطة.. كلمة "ثم" هذه تحريف لقوله وتغيير لقصده، وهو الأمر الذي تم في السبعينات حيث تم تدجين الجماعة ودخولها في المسار السياسي وتطليقها للمسار المقاوم، فجرت عملية طمس أو تأويل لكل ما في تراث البنا من منهج مقاومة صريح وواضح. 

البنا قال: "الفرد المسلم والبيت المسلم والشعب المسلم والحكومة المسلمة والدولة التي تقود الدول الإسلامية"، وهي أهداف وغايات ليس فيها ما يدل على الترتيب، فضلا عن هذا الترتيب الصارم الذي يمنع من تجاوز مرحلة إلى غيرها. 

وأوضح من هذا أن البنا نفسه أسس النظام الخاص، فلئن كان منهجه هو الفرد ثم الأسرة ثم المجتمع فليس ثمة محل ولا ضرورة ولا غاية من إنشاء هذا النظام. والبنا تحدث عن القوة، وليس في هذا المنهج -إن صحَّ- أي شيء يدعو إلى القوة، إذ هو تدرج طبيعي وتنقل سهل وسلس من مرحلة إلى مرحلة. 

ثم إن الإخوان أنفسهم لم يلتزموا بهذا التدرج حين اشتعلت الثورة، بل قفزوا إلى "مرحلة الحكومة المسلمة" قبل أن يستكملوا مرحلة "المجتمع المسلم".. لقد كانت ضرورات الواقع أوضح من هذا الالتزام النظري بمنهج غير واقعي. 

ابحث في التاريخ، وأتحداك إن وجدت نموذجا واحدا لحركة إصلاحية نجحت بهذا التدرج.. لن تجد تغييرا تم فبدأ من الفرد ثم الأسرة ثم المجتمع ثم نجح المجتمع في إفراز حكومة. (وخذ وقتك في البحث والسؤال) 

النموذج السائر في التغيير هو فرد ثم مجموعة قوية تمتلك شوكة ثم صراع مع السلطة، ومن خلال السلطة يتغير المجتمع. لأن العقدة في هذا الطريق هي "المجتمع لا يستطيع إفراز حكومة تمثله" بينما "الحكومة تستطيع صنع مجتمع على نمطها ومنهجها" والدليل الواضح على هذا أنه كم من حكومات أقلية تحكم مجتمعات أكثرية، ولا تستطيع أكثرية المجتمع إفراز حكومة تشبهها أو تمثلها. كثير من البلاد الإفريقية تحكمها منذ رحيل الاحتلال أقلية نصرانية رغم أن الأكثرية مسلمة، وبلاد العرب كلها تحكمها أقليات عسكرية أو عشائرية ولا تستطيع أكثرية المجتمعات إفراز حكومات تمثلها أو إزاحة حكومات تعاكسها. 

والاحتلال حين رحل ترك في بلادنا عملاء ليكملوا مهمتهم، لكن أين تركهم؟ تركهم في "السلطة" ولم يتركهم في الشوارع والجوامع والمقاهي ليقوموا بدعوة الناس إلى منهجهم طمعا في إنشاء مجتمع غربي الهوى ليفرز بعد عقود حكومة غربية الهوى تندمج بإرادتها الحرة -المعبرة عن إرادة شعبها المتغرب- في الحضارة الغربية. 

نسأل الله أن يلهمنا رشدنا وأن يفقهنا في سننه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق