النورمان هم القوم الذين ظهروا "فجأة" على مسرح التاريخ في لحظة عجيبة، كانوا قوة عسكرية فتية استطاعت أن تستولي على المناطق الإيطالية التي كانت متفرقة ومتوزعة بين نفوذ البيزنطيين ونفوذ البابوية في روما، وسجلوا انتصارات قوية على كليهما، ثم إنهم أخرجوا المسلمين أيضًا من صقلية بعد حكم دام قرنين من الزمان، وهما القرنان اللذان جعلا لهذه الجزيرة اسمًا مذكورًا في كتاب التاريخ. ثم إن النورمان هاجموا كذلك وانتصروا على المسلمين في إفريقية (تونس الحالية)، واحتلوا بعض الأراضي، وكانت سيطرتهم على المتوسط في هذه الفترة كاملة.
شيءٌ مثير ميّز النورمان الذين طردوا المسلمين من صقلية عن الأسبان الذين طردوا المسلمين من الأندلس، وعن المغول الذين اكتسحوا المسلمين في وسط آسيا وغربها؛ ذلك أنهم استسلموا وبرحابة صدر للتفوق الحضاري الإسلامي، ولم يكن لديهم مانع من أن يرثوا حضارة صقلية الإسلامية، وأن يستفيدوا بمجتمع العلماء والمهندسين والأطباء المسلمين، فكان الحكم للنورمان حكمًا إسلاميًّا في الإدارة والثقافة ونظام البلاط، حتى إن ملوك النورمان كانوا يرتدون الملابس الإسلامية التي كتبت عليها الآيات القرآنية بخطوطها الساحرة، ظنًّا منهم أنها مجرد زينة وزخارف. بل إن بعض العلماء المسلمين عاشوا وأنتجوا في صقلية، وأشهرهم الجغرافي المسلم العالمي الكبير الشريف الإدريسي، صاحب أول مجسم للكرة الأرضية.
ليس يعني هذا أن النورمان كانوا أهل سماحة، فالحقيقة أنهم لم يتسامحوا إلا في جانب الحضارة هذا، فهم قوم متوحشون لا حضارة لهم، ظهروا كقوة عسكرية مرتزقة استعملها بعض الأمراء في أوربا، ثم بلغت قوتهم أن اقتطعوا لأنفسهم مملكة من بين أنياب بيزنطة وروما والمسلمين (الذين انشغلوا بصراعاتهم الداخلية في صقلية، ثم بالصراع الناشب بين العبيديين (الفاطميين) والصنهاجيين في شمال إفريقيا)، وفي كل اقتطاع كان النهب والسلب والذبح شعارًا أثيرًا لهم، إلى الحد الذي دفع باتجاه تعاون الأعداء التاريخيين -قسطنطينية البيزنطيين وروما البابوية- ضد النورمان، فأرسل البابا إلى قيصر القسطنطينية يقول: "يكاد قلبي يتفطر من الأخبار المحزنة التي أنبأني بها رسل ابني أرجيروس، فعزمت على تطهير إيطاليا من ظلم هؤلاء الأجانب النورمان المردة الأشرار الزنادقة، الذين لا يحترمون شيئًا عند اندفاعهم، والذين يذبحون النصارى ويسومونهم أشد العذاب، غير راحمين ولا مفرقين بين الجنسين والأعمار، والذين ينهبون الكنائس ويحرقونها ويهدمونها، والذين يعدون كل شيء فريسة يباح سلبها، والذين أكثرت من لومهم على فسادهم وإنذارهم بسوء أحكامي، وخوّفتهم من سخط الرب، فلم يزدهم ذلك إلا عتوًّا... ولهذا عزمت على شن الحرب الدينية المشروعة على هؤلاء الغرباء الثقلاء الذين أمعنوا في الظلم، وصار أمرهم لا يطاق، وهذا دفاع عن الشعوب والكنائس"[1]. إلا أن الخسارة كانت من نصيبهما.
بقيت -إذن- حضارة الإسلام في صقلية وإن غاب عنها المسلمون، وحدث المشهد الذي تكرر بعد قرنين من الزمان مع المغول؛ لقد أسرت الحضارة الإسلامية من غَلَبُوا المسلمين على أرض القتال والسياسة، وما إن سقطت صقلية وراحت من المسلمين حتى بدأ تغير كبير يطرأ على أخلاق النورمان، لا سيما في عهد الملك روجر. ويمكننا أن نستدل على هذا بكثير من أقوال المؤرخين، غير أننا نفضِّل التقاط فقرتين من المؤرخ الأمريكي الكبير ول ديورانت الذي قال: "ولما فتح أهل الشمال (النورمان) صقلية (1060- 1091م) أعانوا بفتحهم الزمان على محو آثار المسلمين في صقلية، وها هو ذا الكونت روجر Count Roger يفخر بأنه قد سوَّى بالأرض المدائن، والقلاع، والقصور العربية التي بذل المسلمون في إقامتها أعظم الفنون وأعجبها"[2].
هذا في مرحلة الهمجية، فلما استسلموا للحضارة الآسرة كان هذا مسلكهم، "واستعان [روجر الثاني (1101- 1154م)] بمن في صقلية من النابهين المسلمين، واليونان، واليهود، لتنظيم أداة حكومية مدنية وبيروقراطية إدارية أفضل مما كان لأية أمة أخرى في أوربا وقتئذ... ومنح المسلمين واليهود واليونان والكاثوليك حريتهم الدينية واستقلالهم الثقافي، وفتح أبواب المناصب العليا لذوي المواهب على اختلاف أديانهم وطبقاتهم، ولبس هو الثياب الإسلامية التي يلبسها رجال الدين المسلمون، وعاش معيشة ملك لاتيني في بلاط شرقي، وظلت مملكته جيلاً من الزمان أغنى دول أوربا، وأعظمها حضارة"[3].
--------------
[1] جوستاف لوبون: حضارة العرب ص304، 305.
[2] ول ديورانت: قصة الحضارة 13/280.
[3] المصدر السابق 15/254.
نشر في قصة الإسلام ومنارات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق