الأحد، سبتمبر 14، 2025

درس مهم في مستقبل أفغانستان

أبدأ هذا المقال باعتذار لإخواني في الإمارة الإسلامية بأفغانستان، فلقد شغلتنا المصائب القريبة في مصر وفلسطين ومنطقتنا العربية عن متابعة أحوالهم والعناية بها على النحو اللائق. على أن لهذا النسيان جانب طيب، وهو ما لدينا من الثقة في قيادة هذا البلد، تلك القيادة التي أنجزت التحرير، وأنجزت معه معركة التفاوض.. ومن طبيعة المرء أن ينشغل عن الأمر الذي يتولاه الكفء ثقة فيه، ثم يذهب للاعتناء بالأمر الذي لا يجد الأكفاء!!

وقد بدأت بهذا الاعتذار، لأنني سأذكر في هذا المقال أمورًا لستُ أدري ماذا تكون سياسة الإمارة الإسلامية فيها: هل هم يعرفونها ويقومون بها، أم ثمة قصور في المعرفة أو في التطبيق. فإن كان الأمر على ما يرام فالحمد لله رب العالمين، وإن كانت الحاجة إليه قائمة، فتلك السطور هي أهم ما يرى مثلي أنها أمور أحق بالعناية بها.

لقد احتفلنا –وحق لنا الاحتفال- بالتحرر الأفغاني من الاحتلال الأجنبي، وقد مضى من الوقت ما يكفي لأن ننتقل من مقالات الاحتفاء والاحتفال إلى مقامات النصح والبيان، فالدين النصيحة، وهو واجبٌ علينا في كل وقت.

وإن من أشد ما أخشاه للتجربة الأفغانية، بل ولكل تجربة إسلامية أخرى أدركت التحرر، أن تذهب في اتجاه: بناء دولة حديثة مركزية، كما هو النموذج الشائع في العالم كله، وإن نموذج "الدولة الحديثة" هو نموذج شديد الإغراء لكل منتصر وزعيم، وذلك أنه يوافق لذة نفسه في تمكين سلطته، وهو يوافق النظام العالمي القائم، وقد يرى المنتصر المُحَرِّر أن إقامة هذا النموذج هو الذي يحقق بالفعل مصلحة البلد ويقيها أخطار التمزق والتفرق! وقد يجد في علماء المسلمين من يتقبل نموذج الدولة الحديثة هذا ويرى له تخريجا إسلاميا يجعله غير مخالف للدين.. وهكذا.

أريد أن أقول هنا إن من أعظم مزايا الإسلام، ومن أعظم معجزاته في بنائه لنظامه السياسي أنه كان ضد فكرة الدولة الحديثة ومنطقها، حتى قبل أن توجد هذه الفكرة في واقع الناس!

لقد حرص الإسلام على بناء سلطة قوية نعم، لكنها سلطة محدودة الصلاحيات، تهتم بجوانب الأمن والدفاع وما يتعلق بهما، وأما بقية الجوانب والأنشطة من الاقتصاد والتعليم والثقافة وغيرها، فهي من شأن المجتمع الذي ينطلق لخدمتها وإشباعها، فالسلطة لا تهيمن عليها ولا تتحكم فيها، إنما تدعمها وتراقبها.

ومن هاهنا اهتم الإسلام كثيرا بتقوية المجتمع وتمتينه وتعميق روابطه: روابط الإسلام والأرحام والجوار، وكانت عبادات الإسلام وشعائره وأحكامه ميدانا خصبا لتنمية هذه العلاقات وتقويتها، بحيث ينشط المجتمع من تلقاء نفسه ولا يكون رهينا بالسلطة!

إن شرح هذا يطول، ولعل من أراد الاستزادة أن يرجع إلى كتابيّ "منهج الإسلام في بناء المجتمع" و"سبيل الرشاد".

ومن أهم ثمرات هذا الوضع أن الحضارة الإسلامية واصلت ازدهارها حتى في أوقات ضعف السلطة أو انهيارها، ومن أهم الثمرات أيضا أن السلطة إذا انهارت كان المجتمع قادرا على مقاومة المحتل الأجنبي واستئناف مقاومة شعبية، كما أنه كان قادرا على تدبير شؤون نفسه وإدارتها بمعزل عن سلطة الاحتلال أو سلطة العملاء.

وتلك كانت العقدة التي واجهت الأمريكان في احتلال أفغانستان، والتي عبَّر عنها صُنَّاع القرار عندهم، إن قوة المجتمع وضعف السلطة الأفغانية جعل الاحتلال الأجنبي لا يعرف كيف يقضي على المقاومة، ولا كيف يمسك بخناق هذا الشعب الباسل، إن المقاومة روح عامة سارية، والشعب يمكنه أن يدير نفسه دون احتياج إلى السلطة، وبذلك فشلت محاولاتهم في إنشاء سلطة مركزية على نمط الدولة الحديثة، تلك السلطة التي تستطيع أن تكبل المجتمع وتقيده.

سأذكر بعض تلك الأقوال التي سجلوها بأنفسهم في كتبهم، لكي يطِّلع إخواننا الأفغان على أهمية هذا الأمر، ومن خلاله يطَّلعون على خطورة أن يذهبوا باتجاه إقامة دولة حديثة ذات سلطة مركزية مهيمنة، وذلك كي تبقى مسيرة بناء الحكم الجديد متسقة مع الإسلام أولا، ونافعا للشعب الأفغاني ثانيا، ومخالفة لهوى الأعداء ثالثا..

أوردت كونداليزا رايس –وقد شغلت منصبي وزير الخارجية ومستشارة الأمن القومي الأمريكي- في مذكراتها أن بول وولفوتيز، معاون وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد، اقترح أن يكون البدء بضرب العراق لا أفغانستان، مع أن العراق لا علاقة له بأحداث سبتمبر، والسبب في ذلك أن مواجهة جيش نظامي في العراق سيكون أسهل كثيرا، مما يمكن معه تحقيق نصر سهل وسريع تحتاجه المعنويات الأمريكية! لم يؤخذ برأيه في نهاية الأمر لأسباب سياسية، لكن الرجل قد كشف عن السرِّ، وهو السر الذي تحقق بالفعل كما نراه جميعا[1].

لقد كان تركيز الأمريكان، كما يقول روبرت جيتس الذي تولى منصبي مدير المخابرات الأمريكية ثم وزير الدفاع بعد رامسفيلد، هو: "في إنشاء حكومة مركزية قوية في بلد لم يسبق له عمليا أن كانت فيه حكومة"[2].

والأمريكان يحبون تسمية الدولة غير المهيمنة على كل شيء باسم قبيح، "الدولة الفاشلة"، لا لكونها تفشل في خدمة شعبها، بل لكونها ثغرة في جدار النظام الأمني العالمي الذي يخدم أمريكا، تقول رايس: "تبين لنا أن الدول الضعيفة والفاشلة تشكل تهديدا أمنيا خطيرا على الولايات المتحدة. فهي لا تستطيع السيطرة على حدودها، وقد تصبح الملاذ الآمن للإرهابيين، لذلك فإن إعادة بنائها يشكل مهمة ضخمة وهامة في آن... ومع أن هذه الفرق (فرق الإعمار الإقليمي) كانت متنوعة التركيب والنشاط إلا أن لها جميعا هدفا واحدا، هو مد سلطة الحكومة الأفغانية المركزية"[3].

وهذه العبارة الأخيرة ذاتها يقولها أيضا روبرت جيتس، "كانت عشرات الدول والمنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية منخرطة في محاولة مساعدة الأفغان على تأسيس حكومة فاعلة"[4].

وقبيل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان كان هنري كيسنجر متأسفا على الخطأ الذي قام به أوباما حين حدد مواعيد نهائية لانتهاء المهمة في أفغانستان، وذلك أن كيسنجر يرى أن هدفا مثل تأسيس حكومة مركزية في بيئة أفغانية هو شيء لا يمكن أن يُلتزَم فيه بالوقت، لكونه يحتاج أمدا طويلا.. والسبب في هذا أن أفغانستان لم تتعود على هذه الحكومة المركزية، يقول: "فقدنا التركيز الاستراتيجي. لقد أقنعنا أنفسنا أنه في نهاية المطاف، لا يمكن الحيلولة دون إعادة إنشاء القواعد الإرهابية إلا من خلال تحويل أفغانستان إلى دولة حديثة ذات مؤسسات ديمقراطية وحكومة تحكم البلاد بطريقة دستورية. ومثل هذا المشروع لا يمكن أن يكون له جدول زمني قابل للتوافق مع العمليات السياسية الأمريكية"، ويواصل قائلا: "إن بناء دولة ديمقراطية حديثة في أفغانستان، بحيث تسري أوامر الحكومة بشكل موحد في جميع أنحاء البلاد يعني ضمنا أن يكون هناك إطار زمني يمتد لسنوات عديدة، بل عقودا؛ وهذا ما يصطدم مع الطبيعة الجغرافية والعرقية الدينية لأفغانستان. لقد كان تناثر مناطق أفغانستان، وعدم إمكانية الوصول إليها وغياب السلطة المركزية هي على وجه التحديد التي جعلت منها قاعدة جذابة للشبكات الإرهابية في المقام الأول"[5].

وكان هنرى كيسنجر نفسه، حين بدا له الانسحاب الأمريكي وشيكا من أفغانستان، قد أراد تحريض سائر دول المنطقة ليكملوا هم ما فشل فيه الأمريكان، فنادى على باكستان وإيران وروسيا والصين، أن انهضوا للحفاظ على أمنكم بعد أن يرحل الأمريكان عن أفغانستان، فأنتم أشد حاجة من أمريكا إلى هذا الأمان[6].. وصدق الذي قال: برز الثعلب يوما في ثياب الواعظين!

تحتاج التجارب الإسلامية اليوم إلى اجتهاد ذكي ومنضبط، يراعي تنزيل الشرع الإسلامي على أرض الواقع غير الإسلامي، وفي بيئة المنظومة الدولية التي شكلتها الهيمنة الكُفرية على العالم، فإنه لن يمكننا الانخلاع من العالم ولا من تقاليد الحكم فيه مرة واحدة، كذلك لن يمكننا تطبيق الإسلام كما كان في عهد النبي والراشدين دفعة واحدة. يجب على الأقل أن نعرف ماذا نريد وأن نحث السير إليه، حتى لو كانت الظروف لا تسمح بتطبيق ما نريد على النحو الذي نريد.

وفق الله رجال الإمارة الإسلامية لما فيه خير البلاد والعباد.. وأسأل الله تعالى كما أيدهم بالنصر على أعدائه وأعدائهم أن يؤيدهم بالنصر على أنفسهم وأن يستعملهم في مرضاته وأن يُمَكِّن لهم خير ما يمكن به لعباده الصالحين.

نشر في مجلة الصمود - الناطقة بلسان الإمارة الإسلامية في أفغانستان - سبتمبر 2025



[1] كونداليزا رايس، أسمى مراتب الشرف، ص114، وما بعدها.

[2] روبرت جيتس، الواجب، ص238.

[3] كونداليزا رايس، أسمى مراتب الشرف، ص139.

[4] روبرت جيتس، الواجب، ص248.

[5] مقال هنري كيسنجر في الإيكونوميست بتاريخ 25 أغسطس 2021م.

[6] هنري كيسنجر، النظام العالمي، ص313، 314.

الخميس، سبتمبر 04، 2025

ماذا كان يمكن أن يفعل الفلسطينيون غير 7 أكتوبر؟


محمد إلهامي[1]

يندهش العرب والمسلمون دهشة شديدة من هذه الدهشة الشديدة التي يبديها الغربيون –الأوروبيون والأمريكان- إزاء حدث السابع من أكتوبر. كأن هذا الحادث شيء لا يمكن تفسيره، بينما يبدو مثل هذا الحادث شيئا متوقعا لأي إنسان يقرأ التاريخ أو يقرأ الواقع؟!

ربما تكون الدهشة حقيقية إزاء الجرأة التي أبداها المقاتلون في قطاع غزة، وإزاء قدرتهم على تنفيذ هجوم بهذا الاتساع في ظل فارق هائل بين قدراتهم التقنية وبين القدرات الإسرائيلية، لكن هذا جزء فني تفصيلي لا يتعلق بتفسير الحدث وفلسفته، بل يتعلق بإجراءاته وأدواته، بمعنى أنه إذا أخفق المقاتلون من غزة في هجومهم هذا تماما، فلن يكون المدهش هنا هو: لماذا فعلوا هذا وأقدموا على هذا الهجوم الانتحاري؟

إن العالم كله –بخلاف الغربيين بالطبع- يفهم تماما لماذا قام المقاتلون في غزة بهجوم السابع من أكتوبر، بل الواقع أن هذا الهجوم كان متوقعا تماما، بل لم يكن يمكن توقع شيء آخر، فهذا هو منطق التاريخ، ومنطق الطبيعة البشرية، ومنطق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، ومنطق الصراع حين لا يمكن حله بالوسائل السلمية، ومنطق كل إنسان متدين حين يرى مقدساته الدينية واقعة تحت التهديد. إن كل شيء كان يقول: سيقع مثل هذا الحادث، إن لم يكن في السابع من أكتوبر 2023م، فربما في الثامن من نوفمبر 2024م، أو في التاسع من ديسمبر 2025م، أو في أي تاريخ آخر.

"التاريخ لم يبدأ في 7 أكتوبر"

هذه هي الجملة الأشهر المتداولة في الإعلام الغربي على لسان المتحدثين المتفهمين لهذا الحادث، تبدو جملة بديهية وطبيعية ومفهومة، لكن تكرارها وشهرتها وتداولها يدل في الحقيقة على أذن غربية صماء وعلى عقل غربي مصمت لا يريد أن يسمع ولا أن يفهم. نعم، التاريخ لم يبدأ في 7 أكتوبر، فلماذا يحاول الغربيون تجاهل التاريخ؟!

إسرائيل كيان لم يكن موجودا قبل 1948م، مؤسسو إسرائيل أنفسهم كانوا يحملون جوازات سفر كُتب عليهم أنهم من "فلسطين"، العملات النقدية التي لا تزال موجودة ويمكن ببساطة البحث عن صورها على الانترنت مكتوب عليها "فلسطين"، طابور من الأدلة لا يمكن دحضه، أي كتاب قد صدر قبل 1948، أو أي أطلس للخرائط لا يكتب فيه شيء عن "دولة إسرائيل"، بما في ذلك الخرائط الغربية نفسها!

فما الذي حدث إذن؟!

الذي حدث بكل وضوح أن الاحتلال الغربي، البريطاني تحديدا، سيطر على هذه المنطقة وقرر أن يمنحها لليهود، في تجاهل تام لكون هذه الأرض يحيا عليها شعب آخر عريق لم ينقطع وجوده منذ بدأ التاريخ المعروف. وإذن، كيف برر الغربيون ذلك؟ ببساطة شديدة اعتبرهم تشرشل مجرد حيوانات، وقال مقولته الشهيرة: إن الحظيرة لن تكون أبدا ملكا للثور لأنه نام فيها طويلا!

تفاصيل كثيرة يعرفها المؤرخون والباحثون، بمن في ذلك المؤرخون الإسرائيليون، خلاصتها: جرى تهجير وإبادة عدد من القرى والمدن الفلسطينية، والإتيان بأمواج وأفواج من المهاجرين اليهود من كل بلاد العالم، وقبل نهاية المشهد كان لا بد من غطاء قانوني لهذه العملية الإبادية الإحلالية، فخرج قرار تقسيم فلسطين من الأمم المتحدة، ليكون أول قرار فريد من نوعه يتحكم في مصير شعب، وينشئ دولة غريبة على أرضه، دون الرجوع إليه ولا استفتائه ولا معرفة رأيه!

وهكذا جاء شعب آخر، غُرِس في هذه الأرض بقوة السلاح، بعد سلسلة من المذابح المشهورة، ثم بعد حرب هزلية خاضتها قوات عربية محدودة كانت واقعة تحت الاحتلال البريطاني نفسه، بقيادات عسكرية بريطانية، لتثبيت قرار إنشاء الدولة اليهودية.

حسنا.. فماذا حصل بعدها؟!

حتى الآن، وربما هذه معلومة لا يعرفها الغربيون، لا تعترف إسرائيل بحدودها، بل –ويا للطرافة- ترسم على علمها وتكتب في وثائقها ويتكلم الكثير من المسؤولين فيها بأن حدودها تمتد من النيل إلى الفرات!.. أي أن حدود 1948م، لم تكن إلا قطعة الأرض الأولى التي ستتوسع منها الدولة.

لا يعرف الغربيون أيضا –فيما عدا الباحثون والمؤرخون- أن إسرائيل لم تُهاجَم أبدا من قبل أي دولة عربية، إن طبيعة الأنظمة العربية من جهة، وطبيعة الدعم الغربي المتدفق دائما من جهة أخرى، كان يجعل إسرائيل دائما في موقع الهجوم والاستيلاء على الأرض. ويمكن لأي قارئ لا يصدق أن يرجع إلى أرشيف الأمم المتحدة، ويمسك بأي تقرير لتقصي الحقائق عن الخروقات لخطوط الهدنة بين الدول العربية وإسرائيل، وسيرى ذلك بنفسه!

بعد نحو عشرين عاما من التأسيس جاء التوسع الثاني؛ في 1967م احتلت إسرائيل سائر فلسطين التي لم يكن بقي منها حينئذ إلا قطاع غزة (تحت الإدارة المصرية) والضفة الغربية (تحت السيادة الأردنية)، وشبه جزيرة سيناء المصرية، وهضبة الجولان السورية. وجاء توسع ثالث في 1982 لتحتل إسرائيل الجنوب اللبناني، ولا تزال بعض المناطق اللبنانية خاضعة للاحتلال.

استطاع المصريون شنّ هجوم مفاجئ في 6 أكتوبر 1973م، ثم مدوا أيديهم بالسلام، ووقعوا اتفاقية السلام (1979م)، ولم يحصلوا على كامل أرضهم إلا بعد عشر سنوات في (1989م) بعد مفاوضات مضنية وتحكيم دولي، وتنازلوا عن بعض أرضهم مثل قرية أم الرشراش، وعن سيادتهم على أراضٍ أخرى متاخمة لإسرائيل (في نسختها التوسعية الثانية). كذلك تنازل الأردنيون عن الضفة الغربية (1988م)، ووقعوا اتفاقية سلام أخرى (1994م)، وما زال السوريون لم يسترجعوا أرضهم حتى هذه اللحظة!

إذا وضع القارئ نفسه مكان الفلسطيني الذي جرى احتلال أرضه، ويجب ملاحظة أن الأرض الفلسطينية تحتوي على مقدسات إسلامية ومسيحية تهم الجميع، ولئن كان المسيحيون الغربيون قد تخلوا عن مقدساتهم فيما يبدو، فهذا الأمر لم يفعله المسلمون حتى الآن. في الواقع لدى الغربيين نفاق فظيع فيما يخص إسرائيل تجعلنا في العالم العربي نرى إسرائيل كنسخة أخرى من الممالك الصليبية في القرون الوسطى، بل أسوأ، لأن إسرائيل تعتدي بالفعل على المقدسات المسيحية دون أن يهتم الغربيون لهذا كثيرا.

ليس هذا موضوعنا الآن، ولكن: الفلسطيني الذي يريد تحرير أرضه، كما هي طبيعة كل إنسان يقع تحت الاحتلال، لا بد له أن يقاوم، حتى لو كانت مقاومته هذه تبدو عبثية وغير ذات فائدة، هذا هو الأمر الذي فعلته كل الشعوب عبر التاريخ. ليس شيئا عجيبا ولا غير متوقع! يعرف من قرأ التاريخ أن الاحتلال الإحلالي الإبادي الذي يريد سحق شعب وإسكان آخر مكانه، إما أن ينجح في الإبادة (كما فعل الأوروبيون في الأمريكتين وأستراليا) أو سيبقى يواجه موجات متجددة من المقاومة، مثلما أخفق نفس هؤلاء الأوروبيون في سائر المناطق الأخرى عبر العالم واضطروا إلى تصفية الاستعمار والبحث عن بدائل أخرى توفر لهم الهيمنة دون الوجود العسكري والحكم المباشر. كما هو الحال الآن!

في أواخر الثمانينات من القرن الماضي انطلقت انتفاضة شعبية، تبدو عبثية تماما، ماذا يفعل شعب ليس عنده إلا الحجارة أمام دولة إسرائيل المدججة بالسلاح، يمكن للقارئ أن يبحث قليلا في الانترنت ليرى كيف كان الجنود يُمسكون الفلسطيني فيكسرون ذراعه لئلا يلقي بالحجارة مرة أخرى! سيرى خلال بحثه كيف أن المرأة العجوز تحمل طفلا صغيرا بيدها اليسرى وتلقي الحجارة بيدها اليمنى! يبدو المشهد عبثيا حقا، حتى إن كثيرا من جنود الاحتلال الإسرائيلي كان يطلق النار ثم يضحك عائدا لرفاقه!

غير أن هذه الانتفاضة، لأنها تنسجم مع الدين والتاريخ والطبيعة البشرية، كانت واسعة وشاملة ومفاجئة، سرعان ما تطورت إلى عمليات –تبدو عبثية أيضا- للرمي بالمقلاع والطعن بالسكين ووضع الحجارة في طريق مدرعات الاحتلال. ساعتها فكر الإسرائيليون والغربيون في امتصاص هذه الانتفاضة عبر تكوين سلطة فلسطينية، تتولى هي تأمين المناطق الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، التأمين هنا بمعنى حماية الاحتلال، وتتولى إدارة الشؤون اليومية لهؤلاء، هذا هو الذي يُعرف باتفاق أوسلو. فرض على الفلسطينيين تأمين إسرائيل مقابل مفاوضات مفتوحة لم تنجح أبدا!

سار ياسر عرفات في هذا المسار عشر سنين، ولم يحقق شيئا، بل الأغرب، أن الحكومة الإسرائيلية التي تأتي بها الانتخابات كانت تملك أن توقف مسار المفاوضات أو تلغيه، وبالفعل: قدم عرفات كل ما يمكن تقديمه لإيهود باراك في كامب ديفيد الثانية (2000م)، ولكن باراك لم يُرضه هذا. وفشلت المفاوضات. ومنذ ذلك الوقت كانت الحكومات الإسرائيلية ضد فكرة الدولة الفلسطينية أساسا!

قُتِل عرفات بالسُّمّ في (2004م)، ولم يستفد عرفات أي مكسب من القمع الذي سلطه على الفلسطينيين لتأمين إسرائيل، وجيئ بعده بمحمود عباس الذي يبدو أكثر "مرونة" واستعدادا للتنازل عن أي شيء، لكن محمود عباس لم يجد أبدا أي شريك للتفاوض، مع أنه منذ عشرين سنة يعمل بكفاءة تامة في قمع الفلسطينيين ومطاردة من يريد مقاومة إسرائيل، وتعمل أجهزة الأمن الفلسطينية بكفاءة نادرة في التعاون مع الأجهزة الإسرائيلية، وكثيرا ما جرى تسليم فلسطينيين لإسرائيل، أو قتلهم تحت التعذيب في سجون السلطة الفلسطينية!

لكن عباسا كان يريد أن يحوز نوعا من الشرعية، فأجريت انتخابات فلسطينية –برضا إسرائيلي- (2006م) غير أنها جاءت بمفاجأة صاعقة: لقد فازت حركة حماس في الانتخابات. وساعتها حدث مشهد جديد لم يكن يتوقعه أي مراقب في العالم: الغرب الذي يعتنق دين الديمقراطية رفض الاعتراف بالانتخابات النزيهة، وقرر مقاطعة الحكومة المنتخبة وفرض حصارا على فلسطين.

حاول المهزومون في الانتخابات اغتيال الفائزين بها، نفذت السلطة حركة انفلات أمني واسعة، ولكن حركة حماس –القوية في غزة- استطاعت صد الأجهزة الأمنية في غزة عن محاولاتها، فقرر محمود عباس الانقلاب على الانتخابات فحلَّ الحكومة المنتخبة وانفرد بحكم الضفة الغربية.

ومنذ ذلك الوقت (2007م) وحتى (2023م) عاشت غزة تحت حكم حماس حصارا هائلا أدى لكثير من الوفيات فضلا عن الحياة التي لا تطاق، لقد كانت أكبر سجن في العالم.

وفوق ذلك، حكومة نتنياهو التي يعاد انتخابها دائما، تخطط لكثير من الإجراءات التي تهود المسجد الأقصى وتقرر اقتراب البدء بهدمه، وتسمح للمستوطنين والجماعات الدينية المتطرفة بتنفيذ طقوس شعائرية تشي بقرب تحطيمه!

إن كنت أنت مكان الفلسطيني، بالذات لو كنت في غزة، أخبرني إذن.. ماذا كنت ستفعل؟!

ماذا ستفعل، وقد فشلت محاولات السلام، فشلت المفاوضات، انسحبت الدول العربية الداعمة من المعركة، يقترب هدم المسجد الأقصى، تعيش في حصار لا نهاية له!!

إن كان لديك جواب غير السابع من أكتوبر.. تفضل أخبرنا به!

نشر في مجلة أنصار النبي - سبتمبر 2025



[1] طلبت هذا المقال صحيفة أوروبية واسعة الانتشار، ثم لم تنشره! وها هو ينشر الآن على صفحات مجلة "أنصار النبي صلى الله عليه وسلم"