الجمعة، يونيو 06، 2025

أمة تحج وتجاهد.. وكاتبون وكتائب.. ومداد ودماء!


تلك خمسة أمور قد اجتمعت، فتمثل فيها اجتماع الحاضر بالتاريخ، والنازلات بالذكريات، والخاص بالعام.. فتأمل!

 

(1)

أتم الله الكريم نعمته على عباده، وهذا العدد من مجلة "أنصار النبي ﷺ" هو بداية عامها الرابع، فنسأل الله تبارك وتعالى أن تكون عملا طيبا وأن يكون ما بثته من العلم علما نافعا خالصا لوجهه الكريم.

وتلك المجلة، هي جندي في كتيبة "الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ"، وقد جرى تأسيسها وإطلاقها قبل ثلاث سنوات من الآن، ضمن السياسة العامة للهيئة، والتي تبتغي أن تكون نصرة النبي ﷺ عملا دائما لا موسميا ولا ردة فعل.

وقد ابتدأت المجلة بثلاثة أقسام، وهي الآن مع انطلاقتها الرابعة تصل إلى سبعة أقسام..

بدأنا بثلاثة أقسام، هي: قسم يكتبه علماء الهيئة ومن سواهم من العلماء وأهل الفضل. والقسم الثاني "أئمة الهدى" تخيرناه من كتابات العلماء والدعاة الراحلين في القرنيْن الأخيريْن، أولئك الذين هم جمٌّ غفير وجليل ولكنه مهضوم الحق في عالمنا المعاصر الذي لا تحتفي فيه الدول بأهل العلم ولا بتراثهم وذكراهم. والقسم الثالث "الصادعون بالحق" تخيرناه من كتابات العلماء والدعاة الأسرى الذين كلفتهم كلمة الحق معاناة الأسر، فأخذنا على عاتقنا أن نذكر بهم ونبث صوتهم وننشر إنتاجهم.. وما أكثر أهل الفضل الأسرى في بلادنا.

واليوم مع انطلاقة العام الرابع قد أضيفت إلى مجلتنا المباركة أقسام جديدة، وهي:

قسم "سفراء النبي ﷺ"، وفيه ننشر مقالات السادة الأفاضل الذين أخذوا على عاتقهم أن يكونوا ممثلين للهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ في بلدانهم، وأن تكون مهمتهم في ديارهم هي بث فكرة النصرة ومعانيها وواجباتها، وللهيئة العالمية الآن شبكة من السفراء الذين يحملون هذه المهمة، بلغوا ثمانين سفيرا في خمسين دولة، وما زال العدد يزداد، وما تزال مهمة نصرة النبي ﷺ والتعريف به تحتاج إلى المزيد.

وقسم "بصيرة"، وفي هذا القسم نقتطف بعض ثمرات من إحدى مشاريع الهيئة العالمية، وهو مشروع "بصيرة" الذي يعني بهداية غير المسلمين، من خلال تعريفهم بالإسلام ودعوتهم إليه وإدخالهم فيه، ثم إدراجهم في مستويات تعليمية لتعلم الإسلام. وهذا المشروع يقوم الآن على ثلاث لغات، ويجتذب إليه شهريا نحو مائة مسلم جديد. فطلبنا إلى بعض هؤلاء المهتدين كتابة قصص اهتدائهم، وما الذي جذبهم في الإسلام وكيف دخلوا فيه، وعزمنا أن ننشر بعض هذه القصص فإنها مما يحيى النفوس، ويحفز الدعاة، وينشر بركة الدين للقارئين والسامعين.

وقسم "المنصفون"، وفيه عزمنا على أن ننشر مقالات لبعض من أنصفوا النبي ﷺ من غير المسلمين، سواءٌ أكانوا من المستشرقين أم من العرب والمشارقة غير المسلمين، فإن "الفضل ما شهدت به الأعداء"، وإن الشهادة أبلغ ما تكون حين يشهد "شاهد من أهلها"، وكثيرٌ من أبناء المسلمين لا يعرفون ما هم فيه من النعمة لكونهم نشؤوا ودرجوا في رحاب الإسلام وظله، فالنعمة عنها معهودة معتادة، ولكن غير المسلمين الذين نشؤوا في الجاهلية وخبروها يستطيعون من موقعهم هذا أن ينتبهوا في محاسن الإسلام إلى ما لا ننتبه له نحن المسلمين.

ثم نختم بقسم بريد القراء، وهو القسم المفتوح لمن شاء من قرائنا الكرام أن يشاركنا بما تجود به قريحته، وما يسيل به قلمه!

وما زلنا في إطار التفكير والتخطيط لأقسام أخرى، مثل: قسم للأطفال والناشئين، وقسم للغات الأخرى غير العربية.. وما نزال نحتاج من عموم القارئين دعمهم وإسنادهم: بالدعاء أولا وآخرا، وبالنشر والترويج للمجلة، وبترجمتها إلى غير اللغة العربية ليتسع انتشار ما فيها من الخير فيكون ذلك في ميزان حسنات من ترجمها، وبما سوى ذلك من أنواع الدعم والمساندة.. وأجر ذلك كله عند الله!

فالآن يرى القارئ هذا العدد الجديد، في ثوب مختلف قشيب، سائلين الله عز وجل أن يبلغ عنا وأن يجعل ذلك كله خالصا لوجهه الكريم.

 

(2)

قبل أيام من صدور هذه المجلة، نفذ الصهاينة اقتحاما جديدا للمسجد الأقصى المبارك، ومَكَّنوا قطعانا من المستوطنين من إقامة شعائر تلمودية في ساحته، وتبع ذلك كله احتفال وهيجان، وفيه قام أولئك الصهاينة –لعنهم الله- بسبٍّ جماعي لنبينا المعظم الأكرم ﷺ.

وبعدها قام أحدهم في الكنيست ليسخر هازئا من أجهزة الأمن الإسرائيلية التي كانت طوال سنوات سابقة تمنع المستوطنين من تنفيذ مثل هذه الشعائر، وتبرر ذلك بأنه لو صلى يهودي واحد في المسجد الأقصى لانفجر الشرق الأوسط كله. يقول هذا بين الشماتة والسخرية: ها قد صلى آلاف اليهود وليس يهوديا واحدا ولم يحدث شيء!

لم يعد مشهد اليهود وهم يقيمون صلواتهم في الأقصى، ولا مشهدهم الجماعي وهم يسبون نبينا ﷺ مشهدا جديدا، لقد صار مشهدا متكررا..

وهو مشهدٌ يخبرك بحقيقة الحال الذي وصلنا إليه، وعلى الأخص والأدق: وصلت إليه هذه الأنظمة العربية والإسلامية وحُكَّامها. ذلك أنه يُمكن تفهم أن هذه الأنظمة عاجزة ضعيفة لا تقوى على مجابهة الصهاينة ومواجهتهم وإيلامهم. وليس هذا التفهم بعذر أبدا، فإن أغلب هؤلاء الحكام مستقرون في بلادهم وممالكهم منذ سنين: عشر سنين وعشرين سنة وربع قرن ويزيد، فلو كان فيهم مخلص صادق يعمل بجد على نهضة بلده وشأنه ليجعل منها قوة حقيقية غير مستذلة ولا مرهونة للصهاينة، لكان الآن في حال آخر يتمكن معه من الأخذ والرد والمساومة والقول والتهديد! غير أنهم لما كانوا خالين من الوطنية والانتماء فإن بلادهم زادت بهم ذلا وخزيا وعارا!

أقول: يمكن تفهم أن هذه الأنظمة عاجزة عن تهديد الصهاينة ومنعهم من تدنيس الأقصى ومن سبّ النبي الأكرم ﷺ، فهل يمكن إذن تفهم أن تستمر العلاقات السياسية والاقتصادية بينهم وبين الصهاينة بعد هذا كله. إنه لو كان عندهم دينٌ يحركهم، أو كانت في قلوبهم محبة حقيقية للنبي ﷺ، لظهر ذلك على تصرفاتهم وسلوكهم.

لكن العجيب الغريب، وما هو بعجيب ولا غريب على من يعرف حقيقتهم، أن تلك الأنظمة وهؤلاء الحكام –ومنهم اثنان ينتسبان بالنسب إلى النبي ﷺ، وما هما من أهله- يزيدون في التعاون مع الصهاينة رغبا ورهبا، إيمانا واحتسابا.. فأحدهما يواصل إمداد الصهاينة بما يحتاجونه من غذاء وسلع وأجهزة عبر معابره المفتوحة للبضائع المغلقة على المُقاومين، والثاني يستقبل لهم السفن التي تحمل الأسلحة والذخائز القاتلة للمسلمين فينزلها في موانئه للتزود بالوقود والصيانة ولوازم استكمال الرحلة! ثم هو الآن ينفذ معهم تدريبات عسكرية مشتركة يُطوِّرون فيها قدراتهم على قتل المسلمين في غزة!

إنها حوادث كاشفة فاضحة، والحديث عن أن هؤلاء الحكام مثلهم مثل الظلمة الجائرين من حكام المسلمين قديما هو حديث خرافة، فلا نعرف في أخبار السابقين –من الجائرين الظالمين- من كان يُجهَر بسبِّ النبي أمامه ثم هو لا يزال يوالي عدو الله وعدو رسول الله، ويحرص على إمداده بما يحتاج من مال وسلاح ومؤامرات!

وذلك الحال يضع على عاتق العلماء وعاتق الشعوب مهمة ثقيلة ثقيلة في ضرورة إزاحة هؤلاء وإقصائهم وعزلهم وخلعهم عن مناصبهم، إن لم يكن بالواجب الشرعي الذي يستشعره المسلم دينا ويُحاسب عليه في الآخرة، فلضرورة الحياة الكريمة الطبيعية في الدنيا، وهي الأمر الذي يحرص عليه حتى العلماني الذي لا يطلب إلا الدنيا.. فإن استمرار هؤلاء الحكام، وإن انكسار المقاومة في فلسطين، سيجعل هؤلاء الصهاينة يتمددون ليسبوا رسول الله ﷺ في الأزهر الشريف وفي الجامع الأموي وفي المسجد النبوي.. كيف لا، وهم يعلنون أن أرضهم تمتد من النيل إلى الفرات؟!!

إن الحفاظ على الحياة الدنيا، حتى لمن لم يرد إلا الحياة الدنيا، له ولأبنائه من بعده، لتدفعه دفعا نحو مكافحة هذه الصهيونية السرطانية الخبيثة أن تتمدد إلى ما سواها من البلدان! وهي مكافحةٌ من ضروراتها وحتمياتها ولوازمها: إغاثة المقاومة في فلسطين بكل سبيل، وإزاحة هذه الأنظمة بكل سبيل أيضا.

(3)

وحيث وصلنا إلى ذكر الصمود وضرورته.. فإنه تظللنا في هذه الأيام ذكرى فتح القسطنطينية، التي فُتحت في 29 مايو 1453م، قبل حوالي خمسة قرون وسبعين عاما. وفي هذه الذكرى صمودان يستحقان التوقف عندهما توقفا مليا..

أما الصمود الأول فهو صمود القسطنطينية ذاتها، لقد صمدت أمام المسلمين ثمانية قرون، ولم يستطع المسلمون فتحها لا في عهد الأمويين ولا العباسيين، ولو أنها فُتِحَتْ في الموجة الأولى للفتوح لكان التاريخ قد انقلب وكان الإسلام قد عمّ أوروبا كلها خلال قرن أو اثنين على الأكثر!

لكن صمود هذه المدينة، التي كانت قلعة المسيحية الأرثوذكسية العتيقة، لثمانية قرون وفَّر الفرصة لأوروبا، وللمسيحية الغربية أن تقوى ويشتد عودها وتنبت لها قرون أخرى من القوة وعواصم أخرى فتية تستكمل مهمة مواجهة الإسلام. فعندما انهارت القسطنطينية لم تنهَر العقبة النصرانية، بل بعد سقوطها بأربعين سنة فقط كانت قوة النصرانية في إسبانيا تستكمل طرد المسلمين من الأندلس، وتكتشف الأمريكتين وتحوزها، وتلتف لتحتل بلاد المسلمين في غربي إفريقيا وشماليها وجنوبيها وجنوبي آسيا! وكان لذلك كله نتائج كارثية على المسلمين لا تزال حتى الآن.

وأما الصمود الثاني فهو صمود محمد الفاتح نفسه وإصراره على فتح المدينة العنيدة، كان إصرار الفاتح على فتح القسطنطينية لا يهتز، ومع أنه لقي في حرب فتحها من العنت والشدة والإخفاقات ما يجعل أي متابع يفكر في تأجيل المعركة وإعادة الكرة بعد فترة، وهو الأمر الذي اقترحه عليه فعلا بعض وزرائه وقادة حربه، ولكنه أبى وبشدة.. وبسبب هذا الإصرار الملح على فتح هذه المدينة، فتح الله عليه بالفكرة العبقرية غير المسبوقة ولا الملحوقة، وهي تسيير السفن فوق الجبل للنزول بها في خليج القرن الذهبي وتجاوز عائق السلسلة الحديدية التي تغلق مجرى المضيق، وبهذا تم له الفتح!

إن الصمود في موقف واحد قد يغير خريطة التاريخ لسنين أو لقرون أو للأبد.. وكذلك الصمود في موقف مقابل قد يحفظ خريطة التاريخ لسنين أو لقرون أو للأبد..

ويمكن ضرب الكثير من الأمثلة على هذا.. إن التاريخ ينقلب وتتغير مساراته بالمعارك، والمعركة الضخمة هي سلسلة من المواقف، وقد يكون الرجل الواحد في الوقت المناسب والمكان المناسب فارقا في حركة التاريخ..

هذا ما تصنعه الآن غزة.. وهذا ما تفرط فيه الآن سائر الدول العربية والإسلامية! فلغزة كل ما ينبني على المعركة من الأجر والفوز والظفر، ولهؤلاء المتخاذلين كل ما سينبني عليها من الفوت والخسارة والفرصة الثمينة الضائعة!

 

(4)

وما دمنا في حديث الذكريات التي تفرض حضورها في الواقع، وفي الواقع المرّ الذي يجذب أشباهه من الماضي، فقبل نحو ألف سنة إلا خمسين عاما، وفي مثل هذا الصيف كان الشام يعيش آخر صيفٍ إسلامي قبل أن تجبهه الحملات الصليبية..

ويكفي للقارئ أن يعلم من ذلك التاريخ شيئا واحدا واضحا: إن الحملات الصليبية التي غيرت التاريخ ولا تزال حاضرة وحية حتى الآن، إنما هي ثمرة لنجاح حملة صليبية واحدة هي الحملة الأولى.. وأما بقية الحملات الصليبية السبعة فكلها قد فشل وعاد مهزوما!

لكن انتصارهم الأول وهزيمتنا الأولى شجعهم وحرضهم على المحاولة المستمرة لثماني مرات أخرى عبر قرنين من الزمان.. لقد كشفت الهزيمة الأولى أمام الحملة الصليبية الأولى أننا أمة ضعيفة ممزقة يمكن أن تُهزم ويمكن أن ينتزع منها بيت المقدس!!

ولو استطاع المسلمون يومها صدّ هذه الحملة الأولى ودحرها فأقل الأحوال أن أوروبا كانت سترجع عن فكرة الحملات الصليبية لقرن واحد على الأقل، قبل أن ينسيها هذا القرن الذكرى ودرس الهزيمة لتحاول مرة أخرى.

والقارئ لتاريخ الحملات الصليبية يعرف جيدا أن هزيمة هذه الحملة الصليبية الأولى كان ممكنا غاية الإمكان، ولولا ما كان فيه المسلمون من التفرق والتمزق لاستطاعوا إبادتها بسهولة، ولقد سنحت فرصٌ كثيرة لإبادة هؤلاء ولكن فشلت جميعها لا لفارق القوة ولا العدد، بل لشيوع التنازع والتحارب بين المسلمين، وتلك تفاصيل مريرة لا يتسع لها المقام، وكلها تفاصيل مؤلمة ومحرقة!

الحرب بين قلج أرسلان والحكيم الدانشمند مَكَّنت الصليبيين من احتلال عاصمة السلاجقة المسلمين في آسيا الصغرى ثم اخترقوها إلى أنقرة، ثمانية أشهر صمدها أمير أنطاكية يطلب نجدة المسلمين فلم ينجدوه مع أن الصليبيين الذين يحاصرونه قد هلكوا من الجوع، وهو نفسه هذا الأمير لو صمد ثلاثة أيام أخرى فحسب لكان قد رأى جيش الموصل قد وصل، وجيش الموصل نفسه لو لم يكن تلكأ لكان قد وصل قبل سقوط أنطاكية، ولو أن قائده لم يكن عنيدا متعجرفا لكان قد انتصر على الصليبيين واستعاد منهم أنطاكية بعد أيام من اقتحامها، ولو أن العلاقة بين قائده ورجاله، أو بين قائده وبقية الأمراء في الشام كانت أحسن حالا لاستطاع سحق الصليبيين، وإنقاذ الشام كله.. ومائة "لو" تخبر بها كتب التاريخ، كانت الواحدة منها لتحفظ بلاد المسلمين من هذا الشر المستطير الذي سُفكت فيه ملايين الدماء وما لا يعد ولا يحصى من الخسائر الأخرى، ولا تزال أمتنا حتى يوم الناس هذا تدفع أثمانا كانت بدايتها تلك الأيام من الحملات الصليبية.

إن في قصة هذه الحملات وفي قصتنا المعاصرة شبه كبير.. سواء في البطولة أو في الخيانة، في العدو وفي الصديق، في الشعوب وفي الحكام، في الغرب وفي الشرق..

وهذه المعركة القائمة في غزة تخبرنا أن الطرف الذي سينتصر فيها سيفتح لنفسه صفحة قوية في التاريخ.

(5)

يجتمع هذا الماضي وهذا الحاضر بالعبادة السنوية المتجددة والمستمرة.. الحج إلى بيت الله الحرام.. وبهذه الأيام العشر الأوائل من ذي الحجة، والتي هي أفضل الأيام عند الله، والتي ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله منه في هذه العشر!

وإن من الفقه العميق الذي يخبرك عن ذكاء الصحابة هو سؤالهم هذا الذي سألوه لما سمعوا هذه المعلومة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟!

لقد كان القوم يفقهون ويعرفون أن الجهاد هو ذروة الأعمال كلها، وهو قمتها السامقة، ولقد أخبرهم النبي أن ذروة الجهاد وصورته النهائية هي التي تعدل العمل الصالح في هذه العشر، وهي صورة الرجل الذي ضحى بنفسه وماله وكل ما عنده في سبيل الله!

وبه نعرف أن الجهاد في هذه العشر هو ذروة ذرى الأعمال كلها، وأن من أتيح له الجهاد فيها فقد حاز الشرف الذي لا يُطال ولا يُرام.

إن في هذه الأمة أصولا وجذورا وبذورا تعيد بها وفيها إحياء نفسها، وهذا الموسم العام الذي يعم الأمة (العشر الأوائل)، وتلك العبادة التي يجتمع إليها المسلمون في مكان واحد من كل فج عميق، هذا الموسم وتلك العبادة هي الأصول والقواعد التي تجدد الأمة فيها نفسها.

فالذي يصلي في المسجد الحرام أو المسجد النبوي لا بد أنه سيتذكر المسجد الأقصى!

وأولئك الذين اختلفوا في كل شيء ثم لم يجتمعوا هنا إلا للإسلام ستنبت فيهم –شعروا أو لم يشعروا- أنهم أمة واحدة عصية على التقسيم والتمزق، حتى لو ارتفعت الأسوار وتكاثرت الحدود!

والذي يخلع الثياب ليبقى في ثوبين، ويرجو الله والدار الآخرة، تُنْزَع من نفسه شدة التعلق بالدنيا، ليعرف أنه فيها عابر زائل، وأنه لن يبقى له في مثل يوم الحشر هذا إلا عمله الصالح!

والذي يرى حوله الألوان والأشكال واللغات العديد وقد صاروا إخوانه من حوله، يعبدون الله كما يعبد، ويطوفون كما يطوف ويسعون كما يسعى.. الذي يرى هذا لن يستطيع أن ينسى إخوانه الذين يعانون في البلاد القريبة والبعيدة!

الحج هو طاقة الشحن الإيمانية السنوية التي تحيي في عروق هذه الأمة كافة ما أريد لها أن تنساه وأن تهجره.. وبه يظل الإسلام عميقا متجذرا، ناضرا متجددا، مزهرا متوردا.

وقريبا تجتمع الكتائب كما اجتمع الحجيج.. وقريبا يتحرر الأقصى ويُصلى فيه كما صُلِّي في البيت الحرام.

نشر في مجلة أنصار النبي - يونيو 2026

الأحد، مايو 04، 2025

الخديعة العظمى.. الدعاة على أبواب جهنم!


ما إن أصدر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فتواه الأخيرة حتى انبعثت أبواقٌ آثمة مجرمة تنهش في الاتحاد وعلمائه وترميهم بأنواع الزور والبهتان، وبعض هذه الأبواق لبث الثوب الشرعي واستعمل في مضادة فتوى الاتحاد لسان أهل العلم وألفاظهم، فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون!

وما كانت فتوى الاتحاد العالمي شيئا جديدا، بل لقد يُقال إن الفتوى تأخرت كثيرا، فلا تزال الحرب مشتعلة في غزة منذ عام ونصف العام، بل هي جارية لا على أصول الشرع ومعهود قول العلماء فحسب، بل هي امتداد طبيعي لفتاوى المؤسسات العلمية الرسمية ذاتها قبل سنوات. وللتدليل على هذا فقد خصصنا قسم الراحلين من عدد المجلة هذا لفتاوى الأزهر الشريف في ذات الشأن، وفيه ترى أن فتوى الاتحاد العالمي لا تخالف ألبتة فتاوى علماء مشيخة الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية، بل إن فتوى الاتحاد في بعض وجوهها أقل لهجة وصرامة من فتاوى هؤلاء السابقين.

من رأى انتفاضة أبواق السوء هذه، أو من يسميهم شيخنا القرضاوي رحمه الله "علماء السلطة وعملاء الشرطة"، يحسب أن الاتحاد قد جاء بشيء جديد مستنكر، وما كانت فتوى الاتحاد إلا أنها تعلن وجوب الجهاد على الدول الإسلامية في فلسطين، ووجوب إمداد المجاهدين بالمال والسلاح اللازميْن لهم في معركتهم الإسلامية الخالصة، وفي الامتناع عن التعاون مع الصهاينة وإمدادهم بالمال أو السلاح أو الطعام والشراب.. وذلك كما ترى أقل الواجب الذي على المسلمين لإخوانهم المذبوحين.

ولستُ في هذا المقام بوارد التعليق على هذه الفتوى ونصرتها، وإنما أريد أن أبذل للقارئ شيئا من باب التاريخ يزيد في وضوح الحالة التي نحن فيها، والتي توضح لماذا انتفضت أبواق السلاطين فزعا لهذه الفتوى الطبيعية.. فأعرني سمعك وبصرك وعقلك وقلبك!

 

(1)

رسم لنا النبي مراحل تاريخ الأمة في خمسة مراحل كبرى، كما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ:

«تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة»([1]).

والمُلك العضوض، أي: يصيب الرعية فيه عسْفٌ وظُلْم، كأنَّهم يُعَضُّون فيه عَضًّا([2]). وأما الملك الجبري، فهو القهر والعتو والجبر، من الجبروتية والعظموتية والعلُوّ، إذ يغلب الظلمُ والفساد([3]).

وهذا الحديث، كغيره من أحاديث الفتن، قد وقع الخلاف بين العلماء في تفسيره وإيقاعه على المراحل التاريخية للأمة، ولكن يكاد أن يتفق العلماء المعاصرون على أن:

-      المُلك العضوض هو الذي يمتد من بداية الدولة الأموية مع عهد معاوية رضي الله عنه، وحتى نهاية الدولة العثمانية وسقوط الخلافة

-      الحُكم –أو المُلك- الجبري هو الذي تعانيه الأمة بعد سقوط الخلافة، وحتى الآن.

ولهذا يستبشر المعاصرون بأن المرحلة القادمة هي مرحلة الخلافة على منهاج النبوة.

ويُساعد على صحة هذا الفهم، ما جاء في كثير من الروايات الأخرى، من أوصاف إضافية لفترة الملك العضوض والحُكْم الجبري، والروايات وإن كانت لا تخلو من ضعف على جهة الرواية، إلا أن انطباق وصفها على أوضاع هذه الأحقاب يحمل على تصديقها، فمن ذلك مثلا:

1. حديث أبي عبيدة بن الجراح أنه ﷺ قال: «إن الله عز وجل بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة، وكائنا خلافة ورحمة، وكائنا ملكا عضوضا، وكائنا عنوة وجبرية وفسادا في الأرض، يستحلون الفروج والخمور والحرير»([4]).

ففي هذا الحديث المراحل الأربعة متطابقة مع حديث حذيفة، وزاد في التفصيل على ذلك أن مرحلة المُلك العضوض خيرٌ من مرحلة الحكم الجبري الذي وصفه النبي بـ «العنوة والجبرية والفساد في الأرض»، كما يزداد فيه الابتعاد عن الشريعة أو تركها، حتى يصير الزنا والخمر والحرير حلالا، إما بالاستحلال: أي أن تكون مباحة ومُقَنَّنة (وهذا هو نبذ الشريعة والانخلاع منها)، أو أن يكون الاستحلال كناية عن كثرة الممارسة (وهذا هو الاستخفاف بالشريعة والاستهانة بأحكامها)، وهذا الوصف يدل في نفسه على أن مرحلة الملك العضوض لم تكن على هذه الصفة، كما يدل على أن أسوأ المراحل التي يمر بها تاريخ الأمة هو مرحلة الجبرية.

وهذا الأمر سيزيد تفصيلا في الحديث التالي، وهو:

2. حديث ابن عباس أنه ﷺ قال: «أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكا ورحمة، ثم يكون إمارة ورحمة، ثم يتكادمون([5]) عليه تكادم الحُمُر، فعليكم بالجهاد». وفي رواية: «ثم جبروتا صلعاء([6]) يتكادمون عليها تكادم الحمير». وفي رواية: «ثم جبروت صلعاء، ليس لأحد فيها متعلق، تضرب فيها الرقاب، وتقطع فيها الأيدى والأرجل، وتؤخذ فيها الأموال»([7]).

ويُروى هذا الحديث موقوفًا على عُمَر كما عند أبي نعيم والحاكم، ولكن وقفه أو رفعه لا يؤثر هنا، فإن الحديث من علم الغيب الذي لا يرويه الصحابي إلا على جهة سماعه من النبي ﷺ، فليس هو من باب الرأي.

وفي هذا الحديث نرى أن مرحلة الملك العضوض وُصِفت بالرحمة، بينما وُصِفت مرحلة الملك الجبري –أو: الحكم الجبري- بتشبيه فظيع، وهو الجبروت الواضح الظاهر الذي تُضرب فيه الرقاب وتُقَطَّع فيه الأيدي والأرجل، وتؤخذ فيه الأموال؛ أي أنه عصر قتل وترويع وإذلال.

3. حديث جابر الصدفي عن أبيه عن جده أنه ﷺ قال: «سيكون بعدي خلفاء، ومن بعد الخلفاء أمراء، ومن بعد الأمراء ملوك، ومن بعد الملوك جبابرة، ثم يخرج رجل من أهل بيتي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا»([8]).

وهذا الحديث يسرد ذات الترتيب، مع تفصيل زائد في مرحلة الأمراء والملوك، فكأنه ﷺ يشير بها إلى عصر الفتنة، حيث استقل بعض الأمراء بما تحت أيديهم، كما فعل معاوية بالشام ثم بمصر، وكما فعل مروان بن الحكم بالشام أيام عبد الله بن الزبير، ثم اجتمع الأمر مرة أخرى للملوك. ومن بعد الملوك الجبابرة، الذين هم أصحاب المُلك الجبري، ثم يأتي بعدهم المهدي الذي يملأ الأرض عدلا، فتكون خلافته هي الخلافة الأخرى التي هي على منهاج النبوة.

وهذه الأحاديث الأربعة هي وصفٌ عجيب ودقيق لأحوال عصرنا، عصر الجبرية، والفارق بينه وبين عصر الملك العضوض، الذي كان عصر رحمة وإن شابه فساد وانحراف عن الخلافة الراشدة!

وتتشابه هذه الأحاديث مع أحاديث أخرى صحيحة، لكن لم يرد فيها وصف المُلْك العضوض أو الحكم الجبري، من أهمها: حديث حذيفة بن اليمان، يقول:

«كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»([9]).

فهنا يظهر التناظر واضحا بين هذا الحديث، وبين حديث الخلافة والملك العضوض والجبرية:

- فالخير الأول هو النبوة والخلافة الراشدة

- والشر الأول هو عصر الفتنة بين الصحابة

- ثم يأتي الملك العضوض وهو الخير الذي فيه دَخَن، حيث لم يلزم الملوك سنة النبي ﷺ بحذافيرها، لكنهم ظلوا قائمين بالحق في أبواب أخرى، ولذا وُصِفوا بهذا الوصف «يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر»

- ثم يأتي بعدهم الشر الكبير، وهو المُلك الجبري أو الحُكم الجبري حيث وُصِفوا في هذا الحديث بأنهم «دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها»، وهم أيضا: «من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا». وهذا الوصف الأخير لا يُعرف أنه تحقق في تاريخ المسلمين إلا في هذا العصر منذ ضعف الخلافة العثمانية وسقوطها.

ومما يستفاد من هذه الأحاديث:

1.    أن الملك العضوض وقع فيه نقص وترك لبعض الدين، وشابته مظالم وانحرافات، ولكنه لا يزال في الجملة مُلْكًا فيه دين ورحمة.

2.    أن مرحلة المُلك الجبري أو الحكم الجبري هي التي يحصل فيها الخروج عن الدين والانخلاع منه، فيكون عصر ترويع وإذلال واستحلال للمحرمات وفرقة شديدة، حتى إن زعماءَه هم دعاة على أبواب جهنم.

وبالتأمل في نصوص الشريعة ووقائع التاريخ نستنتج الفارق بين هذه المراحل على هذا النحو:

§        الخلافة الراشدة تحقق فيها الرُكْنان الكبيران: تحكيم الشريعة، واختيار الأمة للأمير.

§        والملك العضوض تحقق فيه ركنٌ وتخلف ركنٌ؛ فقد بقي حكم الشريعة، ولم تعد الأمر تختار أميرها.

§        وأما المُلك الجبري فهو الذي انهدّ فيه الركنان؛ فلا بقي حكم الشريعة، ولا اختارت الأمة أميرها.

وقد كان معظم التاريخ الإسلامي واقعا في زمن الملك العضوض، وشهدت الأمة في تلك الحقبة مراحل من قوتها وتفوقها السياسي والحضاري وازدهارها العلمي والأدبي. بينما جاءت مرحلة الحكم الجبري بالذل والاستضعاف والتأخر في سائر وجوه الحياة([10]).

 

(2)

ومن وقائع التاريخ يسعنا أن نحدد بداية التحول الكبير من مرحلة الملك العضوض إلى مرحلة الملك الجبري في اللحظة التي سيطر فيها محمد علي باشا على الحُكْم في مصر، فتلك هي البذرة التي تمددت وتوسعت في ظل الاحتلال الأجنبي ونفوذه حتى سادت على الأمة كلها عند لحظة سقوط الخلافة العثمانية، ولا نزال فيها حتى الآن.

فنحن إذن نعيش مرحلة، قد وصف النبي ﷺ حكامها بهذا الوصف الجامع، كما في حديث حذيفة في الصحيحيْن، "دعاة على أبواب جهنم"، هذا مع أنهم "من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا".

وأريدك أيها القارئ الكريم أن تتوقف معي طويلا عند هذا الوصف الذي هو أصل أصول المخادعة والخطورة في واقعنا المعاصر.. أن القوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا!!

هنا مركز الخداع الضخم الكبير، الخداع الذي يشل العقول ويُخَدِّر التفكير ويشوش الصورة ويطمس الحقيقة.. القوم في ظاهرهم مسلمين، عرب، وطنيين.. يتكلمون بلسان المسلمين العرب الوطنيين.. من رآهم وسمعهم لم يشك في أنهم من أبناء هذه الأمة وأنهم ينطقون عن غاياتها وآمالها ويعبرون عن مصالحها ويرعون شؤونها وأحوالها!!!

هذا هو الخداع الضخم الذي يجعل النقاش حول هؤلاء طويلا ومريرا ومتفرعا وكثيرا.. فليست أحوالهم الظاهرة دليلا على حقيقتهم.. فتأمل في داعية يدعوك إلى جهنم، ولكنه يكلمك عن جهنم فيجعلها جنة موعودة وفردوسا منشودا، ولئن كنتَ تراها نارًا وجهنما فإنما هي فترة محدودة، وإن ما فيها من العذاب والعنت والمشقة إنما هو في سبيل المصلحة وطنية، وإنما هي تضحية محمودة، وإنما هو أمرٌ تفعله لأجل الأجيال القادمة، وضريبة تدفعها في طريق التقدم والنهضة، وعمل سيخلده لك التاريخ!

نعم، أخي القارئ الكريم.. قف واستعمل خيالك كله، في تصور رجل داعية يقف على باب جهنم يدعو إليها، وتصوَّر: ماذا كان سيقول في ترويج بضاعته وجذب الناس إليها؟!

ولا بأس أن تتوقف عن القراءة ثم اسرح بخيالك.. ولكم وددتُ أن تكون لي موهبة السيناريست الروائي أو الشاعر ذي الخيال الجامح، لفعلتُها ويسَّرت الأمر على نفسي وعليك!

 

(3)

على أني مطمئنٌ أنه مهما بلغ الخيال بك وبي وبالروائي المنشود والشاعر المفقود فلن نبلغ وهدة الواقع الذي نحن فيه..

ها أنت ترى في الواقع نفسه كيف انتفضت أجهزة الأمن الأردنية لاعتقال بعض الشباب الذين نهضوا لمحاولة مساعدة إخوانهم في الضفة الغربية وتهريب السلاح لهم، فاتهمتهم بالإرهاب والسعي في تخريب الوطن، وسجنتهم ونشرت ما قالت إنه اعترافاتهم لتمهد بذلك حملة على كل شيء فيه دعمٌ للمقاومة في فلسطين.. وكل ذلك باسم الوطن!

ومع أن جماعة الإخوان المسلمين سارعت بالتبرؤ من هؤلاء المتهمين وأنهم إنما فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم وأن الجماعة لم تكن على علم به ولا حتى تؤيده، إلا أن السلطة الأردنية أصدرت قراراتها بحل الجماعة ومصادرة ممتلكاتها ومحاكمة من يروج لأفكارها!

ونستطيع أن نسرد طويلا طويلا طويلا طويلا مجهود النظام الأردني ودوره المهم في إقامة إسرائيل أولا، ثم في حمايتها ثانيا، ثم في تسليم الأرض لها ثالثا، ثم في قتل ومطاردة من يعمل على مقاومتها رابعا!

وهل من دليل أجلى ولا أوضح من أن يكتب نتنياهو بنفسه في مذكراته المنشورة المعلنة أن "بقاء المملكة الأردنية هو بمثابة مصلحة حيوية لإسرائيل، ولو اقتضى الأمر فسنتدخل بجيوشنا لحمايتها من السقوط"؟!!

قطعت جهيزة قول كل خطيب..

وقل مثل ذلك عن غيره من الأنظمة، لا سيما النظام المصري، الذي يتولى الحماية من الجنوب، ويقوم بدوره في تكبيل الشعب المصري الهادر الهائل عن إنقاذ إخوانه أو دعمهم.. وللنظام المصري مثل ما للأردني من التاريخ الأسود من التسبب في إقامة إسرائيل وحمايتها وتسليم الأرض لها وقتل من يفكر في مقاومتها!!

إن حقيقة الأزمة التي نعيشها الآن، والتي تكبل الجميع عن التفكير السليم وعن التوجيه السليم، هو في تلك الخدعة الكبيرة التي هي "من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا".. هذا ما يجعل الأكثرين بدايةً من العلماء أصحاب الفتاوى وحتى العامي الذي يجلس على المقهي يستمع الأخبار غير قادر على فهم الواقع، ولئن فهمه فهو غير قادر على التعامل معه كما هو، إذ الخديعة العظمى تعيق فهم الكثيرين عن تصور ما يقول وعن الاستجابة له!

فلئن أنعم الله عليه بالفهم وبالنجاة من الخديعة.. فدورك أن تسعى في سحب غيرك منها، قبل أن يستجيب لهذا الداعية القائم على جهنم، فيقذفه فيها!!

 نشر في مجلة أنصار النبي ﷺ - مايو 2025



([1]) أحمد (18430)، والبزار (2796)، وحسنه شعيب الأرناؤوط، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5).

([2]) أبو عبيد الهروي، الغريبين: غريبي القرآن والحديث، 4/1291؛ ابن الجوزي، غريب الحديث، 2/104؛ الزمخشري، الفائق في غريب الحديث والأثر، 2/443؛ ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، 3/253.

([3]) الملا القاري، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 8/3376؛ عبد الحق الدهلوي، لمعات التنقيح شرح مشكاة المصابيح، 8/576.

([4]) الطيالسي، (225)؛ البيهقي، السنن، (17073)؛ أبو يعلى، المسند، (873)؛ الهيثمي، مجمع الزوائد، (8961)؛ وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3055) وعلته عند الألباني اختلاط أحد رواته، وبقية رجاله ثقات، وأقرَّ أن متن الحديث دون زيادة منكرة لم نوردها في المتن- صحيح، لشواهد صحيحة، وهذه الشواهد الصحيحة هي حديث الباب، وحديث البخاري «يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف».

([5]) يتكادمون تكادم الحمير: كدم الحمار كدما أي عضَّ بأدنى فمه، والحديث يُصَوِّر حال جدب ومجاعة حتى تبحث الحمير في الأرض عن أصل النبات فتعضّ عليه بأدنى أفواهها، فكأن قبض أولئك الحكام على الحكم كقبض الحمير بملء أفواهها على أصل النبات بأشد ما تملك، في حال الجدب والفقر والشدة.

([6]) صلعاء: أي ظاهرة بارزة.

([7]) الطبراني، المعجم الكبير، (11138) وهذا لفظه؛ نعيم بن حماد، الفتن، (236)؛ الحاكم (8459)، وسكت عنه الذهبي؛ والهيثمي، مجمع الزوائد، (8965)، وقال: رجاله ثقات؛ وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3271).

([8]) الهيثمي، مجمع الزوائد، (8965)، وقال: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم؛ وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3722). وهذا الحديث ضعفه شديد، إذ فيه عدد من المجاهيل. ولكنه كما ترى- منسجمٌ مع التاريخ ومع بقية الأحاديث الصحيحة.

([9]) البخاري (3411)؛ مسلم (1847).

([10]) لمزيد من التفصيل راجع كتابي: خلاصة تاريخ الإسلام، المجلد الثالث.

الجمعة، أبريل 04، 2025

قرآن الثورة والجهاد

 


ما من شهر يتعرض فيه المسلم للقرآن الكريم مثل شهر رمضان، تلاوة وسماعا ووعظا ومدارسة، وما من مسلم إلا وهو في أحسن أحواله مع القرآن عند نهاية هذا الشهر.

وهنا يأتي السؤال الكبير في الأمة المهزومة المغلوبة؛ ما بال هذا القرآن الذي أيقظ الأمة وبعثها من رقاد وسبات أول نزوله، لا يفعل الآن فيها مثل ما فعل في أول الأمر؟!!

والأصح أن يُقال: إن القرآن هو القرآن، فما بال الأمة التي انبعث به حتى غلبت وسادت وهيمنت تبقى الآن في هذا الحال الرهيب من الضعف والمذلة والمسكنة؟!

هذه السطور تحكي لك طرفا من أسباب الفارق الكبير.. وفيه ينطوي الحل الكبير أيضا!

 

(1)

ما كان العربي يسمع آيات من القرآن الكريم حتى يعرف من فوره أنه كتاب سياسة وقتال وحُكْمٍ ونظام، وأنه جاء لتغيير هذا العالم، وأنه سيصطدم مع الأوضاع القائمة فيه!

ذهب عتبة بن ربيعة إلى النبي ﷺ يساومه على هذا الدين، فيعرض عليه الرئاسة والمال والنساء، فما هو إلا أن سمع آيات من القرآن حتى عاد يقول لقومه: يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه؛ والله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تُصِبْه العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكُه مُلْككم وعزّه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.

فهذا رجلٌ سمع بعض آيات من القرآن فعرف أن نهاية الأمر مُلْك ونظام وحُكم ودولة، ونصح قومه أن يتركوا هذه المعركة، فلئن انتهى صدام محمد مع العرب إلى انتصارهم عليه فقد كسبوا أن لم يتورطوا في المعركة ولم يقطعوا أرحامهم، ولئن انتهى إلى انتصار محمد فإنه في النهاية رجل من قريش، وانتصاره في ميزان قريش وتدعيمها لمكانتها وسلطانها!

وبعدها بنحو سبع سنين جلس النبي ﷺ يعرض نفسه على القبائل، فكان منهم بنو شيبان، وما إن سمعوا منه بعض آيات من القرآن الكريم حتى قال المثنى بن حارثة الشيباني في جملة كلامه: وإن ما جئت به يا أخا العرب مما تكرهه الملوك!

فانظر أيها القارئ وتأمل وتفكر، ثم أطل النظر والتأمل والتفكير، كم مسلما الآن يقرأ القرآن ويفهم منه أن هذا القرآن تكرهه الملوك؟! فإن القرآن لم يتغير، والملوك لم يتغيروا!

وانتبه إلى أن القائل هنا إنما كان يقصد ملوك الفرس، وهم ليسوا من العرب عبدة الأوثان والأصنام، بل كانوا على دين المجوس عُبَّاد النار.. فاستوى في كراهة ما جاء به القرآن: عباد الأوثان وعباد النار!

هذا الذي فهمه العربي من بضع آيات سمعها لأول مرة من القرآن الكريم هو الأمر الذي لا يشعر به الآن إلا أقل أقل القليل من المسلمين. ولو أننا أجرينا استفتاءا بين المسلمين بعد انقضاء شهر رمضان: ماذا استفدت من القرآن في رمضان، فاسرح بخيالك وتوقَّع كم واحدًا من هؤلاء سيقول: إن هذا القرآن هو انتفاضة وحربٌ على الأوضاع الباطلة، وهو حركة ثورة وجهاد في عالم السياسة؟!

تلك الفجوة الهائلة في فهم القرآن بين العربي الجاهلي وبين المسلم المعاصر هي أصل أصول الفجوة الهائلة بين حال الأمة يومذاك وحالها الآن.. إذ كيف يمكن أن ينهض بالقرآن من لا يفهمه، ولا يعرف أشهر أصوله ومعالمه وأركانه؟!

(2)

لقد حاول المشركون أن يتخلصوا من هذا الحق القرآني الصادع الواضح الذي يصادم أحوال الجاهلية ويناقضها، ولقد ساوموا النبي على أن يفعل ذلك: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15].

ولكن الله تكفل بحفظ كتابه الكريم؛ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. وبهذا امتنع على الملوك –ومن والاهم من علماء السوء- أن يغيِّروه أو يبدلِّوه أو يُحرِّفوه، كما قد وقع في الأمم الماضية، إذ كان الأحبار والرهبان { يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 79]، وكانوا {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78].

فلم يبقَ للملوك وعلماء السوء، بعد أن عجزوا عن تبديل الكلام وتحريفه، إلا أن يغيروا معانيه ويعبثوا في تأويله.

وذلك هو الذي نعانيه الآن، ترى الواحد من أولئك الملوك ومن علماء بلاطهم يقبل المصحف الشريف ويكتبه بالذهب والفضة وينقشه على الجدران والقصور، ويبثه في الإذاعات والقنوات، ثم هو يُسَلِّط جهده كله لتزييف معانيه وصرف الناس عنها، ويصب جام سطوته وسلطته على القائمين به الذين يجاهدون لتعليمه وبيان هداياته وإرشاداته!

فالآن، ها هي أمة تقرأ القرآن ولا تعرف كيف يمكن أن تحيله عملا حيا في واقع الحياة، أكثرها لا يعرف أن القرآن ثورة وحرب وانتفاضة على الباطل، وأقلها يعرف ويعجز أو يعرف ويكسل أو يعرف وتغلبه شهوات الدنيا على نفسه!!

فهما إذن معضلتان عظيمتان: معضلة الفهم والوعي لهذا القرآن، ومعضلة تحويله إلى عمل وحركة، وبهاتين المعضلتيْن ترى كيف أن القرآن الذي بعث الأمة ونقلها من رعي الغنم إلى سيادة الأمم، لم يعد يفعل فعله في الأمة التي تسلط عليها سائر الأعداء، من صهاينة وصليبيين ووثنيين ومن لا دين لهم!

(3)

ما من سورة في القرآن الكريم إلا وهي تخاطب المسلم أن هذا الدين إنما أنزله الله ليكون نظاما وحُكْمًا وسلطانا، وأنه دين جهاد لا يقبل ببقاء الباطل والظلم، ولا يرضى بأن يكون المسلمون في ذلة وضعف!

هذه سورة البقرة قد حفلت بحديث الأمة التي نكثت عهدها مع الله، أمة بني إسرائيل، وكيف أن الله انتزع منها هذا الشرف ووضعه في أمة المسلمين، وأنزل عليهم التعاليم والتكاليف في الصيام والحج والزواج والطلاق والقصاص والقتال والأموال!

وهذه سورة آل عمران تتلو حديث جهاد المسلمين الأوائل في بدر وأحد وكونهم خير أمة أخرجت للناس، وكونهم أولى الناس بسائر الأنبياء، فهم ورثة إبراهيم وإسرائيل وموسى وعيسى، وأن المؤمنين من أهل الكتاب هم الآن مسلمون!

وهذه سورة النساء قد حفلت بتعاليم تختص بالضعفاء من النساء والأيتام والمستضعفين، وما لهم من الحقوق في الأموال وفي الرعاية، بل وبأحكام القتال في سبيل تحرير المستضعفين، وفي إدانة من رضي بالضعف وأن يبقى في دار هوان!

وهذه سورة المائدة قد حفلت بتعاليم العقود والأطعمة والصيد، والعلاقة مع أمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكيف يضرب الله مَثَلَهم على الانحراف عن الدين، وما صنعوه من التبديل والتحريف، وما أفضى بهم هذا إلى عصيان الله والاستكبار على أنبيائهم!

وهذه سورة الأنعام، تفتح بعد حديث طويل متين عن الله وخلقه وقدرته واستحقاقه العبادة والحكم، تفتح مسائل الأطعمة والزروع والثمار!

وهذه سورة الأعراف تتلو قصص الأعداء، بداية من الشيطان مع أبينا آدم، وتعرج منها على أحكام اللباس والثياب والزينة، ثم تمضي مع مواكب الأنبياء مع أقوامهم، وكيف كانت الأمم تتعامل مع أنبيائهم، ثم تتوقف السورة وقفة ضخمة طويلة مع أمة بني إسرائيل التي حملت الرسالة فلم تقم بها ونكثت عهد الله معها، وكيف أنهم جحدوا نعمة الله حين أنقذهم من فرعون ومكنهم في الأرض ثم التمسوا معصيته وعدم القيام به.. وهو تحذير شديد لأمة المسلمين التي أنقذها الله من الفرقة والخلاف والضعف، فأرسل فيهم رسولا وأنزل فيهم كتابا!

ثم تأتي سورة الأنفال ليكون حديثها كله في القيام بأعباء الرسالة والقتال في سبيل هذا الدين، وفي بيان أحكام الغنائم، وجملة من أحكام القتال مع الأعداء ومع الأسرى، وواجب الأمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاتحاد في القتال!

وبعدها سورة التوبة التي نزلت بالأحكام النهائية للقتال والحج والعلاقات الإسلامية الدولية، كما أنها فضحت المنافقين الكامنين في المجتمع المسلم، وكيف تكون أساليبهم، من بث الشائعات والاستهزاء بآيات الله والسخرية من المؤمنين والتثبيط عن القتال، بل حتى بناء المساجد يمكن أن يكون للصد عن سبيل الله!! وبينت السورة كيف يكون التعامل معهم، وكيف أن بعض الأعمال التي يرتكبها المؤمنون قد تفضي بهم إلى النفاق كالبخل والتكاسل عن الجهاد ونحوها!

وهكذا.. ونحن لم ننظر بعد إلا في ثلث القرآن الأول وحده.. وبقية السور على هذا النحو، أحكام في العلاقات الدولية والقتال، وأحكام في الطهارة والاستئذان داخل البيوت!!

(4)

لئن كان هذا شأن القرآن في توعية المسلمين بأن هذا الدين هو حكم ونظام وسلطان ودولة.. وهو ما يعالج المعضلة الأولى: معضلة الفهم! فإن هذا كله كان محفوفا بأمر آخر يعالج المعضلة الثانية..

لقد كانت هذه الأحكام والتعاليم محاطة ومغشية من قبله وبعدها بآيات هائلة عظيمة تذكر المسلم بقدرة الله وقوته وحكمته، وبديع ما خلقه في النفس وفي السموات وفي الأرض، وبأن هذه الحياة كلها اختبار وامتحان وأن المصير والأجر والنهاية ستكون في يوم القيامة!

أي أن أحكام القرآن ليست مجرد بنود قانونية تخاطب العقل والفكر.. لا، إنما هي ثمرة العبادة والخشية والمحبة لله.. وأنها مهمة عظيمة لا يقوم لها إلا أفذاذ الناس الذين آمنوا بالله وتعلقوا به وطلبوا بجهادهم الدار الآخرة!

إنه ما من قارئ يقرأ القرآن الكريم ويقف متأملا بعض التأمل فيه، إلا ويخرج منه متشبعا بشأن الدار الآخرة، فهي الأمر الحاضر القريب الدائم، كما يخرج منه زاهدا بشأن الدنيا التي ستفنى والتي لطالما مرَّ عليها مواكب السابقين فلم يبق منهم سوى الأخبار والأحاديث.

إن التوقف مع سيرة الموت الذي ستذوقه كل نفس، ومع سير المُكَذّبين، ومع سير الأنبياء، ومع آيات اختلاف الليل والنهار، وانقضاء الشهور والسنين.. كل هذا يبث في النفس خاطرا دائما بأن الحياة ذاهبة والأيام ماضية وما انقضى لن يعود وما قد جاء لن يبقى!

فمن قرأ القرآن الكريم وامتلأ من هذا الشعور انبعث بعده عاملا متحركا ساعيا باذلا قائما في الحياة بما يحب الله، راجيا وجه الله والدار الآخرة، متسلحا بهذا الإيمان وهذه الخشية في وجه ما يراه من الصعوبات والتحديات والمشكلات!

لهذا ما تكاد سورة من سور القرآن، إذا استمع إليها المرء وفهمها، إلا ويراها طاقة هادرة جبارة تنزعه من الخمول والضعف، وتهيئه للمهمة العظيمة التي هو مكلف بها في واقع الحياة!

(5)

فلو كانت الأمة تتلو القرآن حق تلاوته، وكان علماؤها وواعظوها –الذين هم ورثة الأنبياء فيها- يبينونه للناس ولا يكتمونه، لكان العيد الذي يأتي على المسلمين عيدًا آخر!

كان سيكون عيد أمة منتفضة وثابة، منبعثة وهاجة، مجاهدة مقاتلة، نازعة عنها ثوب الضعف والخور والذلة والمسكنة، قائمة في وجه أعدائها، ثائرة في وجه منافقيها!

لقد كان القرآن يُتلى على المسلمين الأوائل فكانت أعيادهم عزا ونصرا ومجدا، وكم قاتل المجاهدون في رمضان نفسه، وما ذلك إلا أنهم كانوا عاملين بما يعلمون وما يقرؤون، فقد عرفوا أن حقيقة العبادة هي إقامة الدين وبناء دولته وحكمه وسلطانه وكسر أعدائه!

كذلك نرى كم قاتل المسلمون في شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة.. ومن نظر في الغزوات والفتوحات رأى عجبا..

وإذن، فلقد كان المسلمون الأولون ينتفعون من القرآن ومن رمضان ما لا ننتفع نحن الآن بمثله أو بشيء منه.. فنحن الآن نصحو على أخبار غزة التي قد انفرد بها الأعداء يقطعونها تقطيعا ويمزقونها تمزيقا، بدعم ومساندة من المنافقين العملاء الحاكمين! ونصحو معها على أخبار لا تقل ألما بل تزيد في بورما وتركستان والهند والسودان وغيرها من ديار المسلمين!

إن أمامنا كفاحٌ شديد طويل لنحلّ هاتين المعضلتيْن: معضلة فهم القرآن، ومعضلة تطبيقه وتنفيذه.. ما يليق بأمة المسلمين أن تكون أجهل بكتابها من رجل جاهلي سمع منه بعض آيات! وما يليق بأمة المسلمين أن تظن أن هذا القرآن مما يحبه الملوك! وما يليق بأمة المسلمين أن ترى القرآن يقبل التعايش مع الباطل والظلم! وما يليق بأمة المسلمين أن تقبل بأن يكون القرآن محصورا في المساجد وأن يكون مجرد أصوات وهمهات وتنغيمات تتلى ولا أثر لها في واقع الحياة!

ليس القرآن الكريم أغنية.. وليس الذي يتلوه مطربا.. وليس المسجد مسرحا.. وليست الأمة في حاجة إلى مزيد من الغناء!

هذا القرآن نظام وحكم وسلطان، وهو داعية ثورة وحرب وجهاد.. وهذه المساجد هي مصانع المجاهدين المقاتلين المناضلين الذين زهدوا في الدنيا وأقبلوا على الآخرة!

فإذا عاد هذا الحال كما كان، عادت أعيادنا أعيادا كما كانت!

نشر في مجلة أنصار النبي - إبريل 2025م