الأربعاء، ديسمبر 04، 2024

لو كان عرضا قريبا!

 أخبرنا ربنا تبارك وتعالى عن نفسية قومٍ لا يخوضون الجهاد لأنه بعيد الثمرة، وهذا البُعْدُ هو ما جعلهم يتثاقلون ويتباطؤون ويتخلفون عن الجهاد مع النبي ﷺ. وبيَّن ربنا، وهو العليم بالنفوس البصير بما في القلوب، أن الثمرة لو كانت قريبة لكانوا قد خرجوا مجاهدين.

قال تعالى {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 42].

ونحن نرى مصداق قول ربنا هذا في زماننا الآن، فانظر وتأمل كم واحدًا كان فرحا مسرورا فخورا بما وقع في طوفان الأقصى لما وقع، وانظر كم منهم الآن من يتحدث عن خطأ الحساب ومرارة التكاليف وقسوة الأوضاع، بعضهم يُصَرِّح وبعضهم يُلَمِّح أن قرار الطوفان كان قرارا خاطئا، وأن تكاليفه كانت شديدة وأنها كانت مغامرة غير محسوبة!

وما من شك في أن حرب غزة لو كانت قد توقفت بعد شهرين أو ثلاثة أو ستة، لكان أكثر القائلين بهذا يقولون بغيره، بل بعكسه، ولربما جادت قرائحهم بالأقوال اليانعة في عبقرية من اتخذ قرار الطوفان بما يرفعهم عن مصاف البشر وبما يجعلهم معدن الحكمة!

فهل مثلُ هذا الحال حالٌ أدقُّ في وصفِ هذه العلة: بُعْدُ الشُّقَّة؟!

فالمسألة إذن نفسية، وبحسب ما تحتمل النفس من المشقة تُكَيِّف الموضوع، وقد يتبع العقلُ النفس في هوها وتحملها، فما احتملته كان عبقرية وحكمة، وما عجزت عن احتماله كان تهورا وخطأً!

وقد يسأل سائلٌ مستفسرًا ومستفهمًا: فكيف نُفَرِّق إذن بين جهاد محمود بعيد الشقة بعد الثمرة؟ وبين الخطأ المذموم الذي يوصف بالتهور وخطأ الحسبة وركوب الأهوال واقتحام المخاطر بغير عدة؟!

للجواب على هذا السؤال وأشباهه، كُتِبت هذه السطور..

 

(1)

إن الجهاد في غزة وفلسطين، هو جهاد دفع ليس جهاد طلب، فالأصل فيه أنه قائم مشتعل لا يهدأ ولا يفتر، وقد يُقدِّر المجاهدون هدنة قصيرة أو طويلة لالتقاط الأنفاس أو لإعداد عدة، دون أن يعني هذا أن الجهاد قد توقف وارتفع الواجب فيه.

وجهاد الدفع ليس هو الذي يُشترط فيه ويلزم فيه وقوع غلبة الظن بالظفر والنصر، بل هو مطلوبٌ بما توفر وحضر من العدة والعدد، فهو من نوع الذي يجاهد مدافعا عن نفسه وعرضه وماله، قد يخوض غمرة الموت مدافعًا دون أن يتحقق له غلبة الظن بأنه قادرٌ على الدفع والظفر! وقد شهد النبي لمن فعل ذلك بالشهادة في قوله: من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون نفسه فهو شهيد، ومن قُتِل دون عرضه فهو شهيد.

وقد قرر العلماء في جهاد الطلب جواز، وبعضهم قال باستحباب، أن يفعل المجاهد ما قد يكون فيه هلكته إن كان في فعله هذا نكاية بالعدو وإرعاب له، فكيف إن كان الواقع في جهاد الدفع، وفي دفع الصائل، وهو الأمر الذي ليس بعد الإيمان بالله شيء أوجب منه؟!

وإن الناظر في واقعنا المعاصر ليعلم ويرى أن من المستحيل تحققه في المدى المنظور أن يبلغ المجاهدون في العدد والعدة مثلَ الذي هو عند عدوهم، إن الواقع شاهدٌ بهذا، كيف وهم محاصرون من أنظمة الخيانة والغدر، وعدوهم ممدود بحبل الغرب والأمريكان وأنظمة الخيانة نفسها.

إن صرف الوقت انتظارا لاكتمال العدد والعدة ليست له ثمرة إلا أن تزيد الفجوة بين ما لدى أهل الجهاد، وما لدى العدو.. وهو ما يجعل المهمة تزداد في كل يوم عسرًا وعنتًا ومشقة واستحالة!

 

(2)

لقد تكرر في القرآن والسنة الثناء على قوم قاموا بالحق حتى هلكوا فيه ولم ينتصروا..

انظر إلى أصحاب الأخدود، آمنوا بالله وكفروا بالطاغية، فحفر لهم أخدودا ملأه نارًا، ثم أحرقهم فيه.. أبادهم!

وانظر إلى سحرة فرعون، وهم يكفرون بفرعون ويؤمنون بموسى أمام الجمع الحاشد الكبير، ثم يضربون هيبة فرعون وجبروته في مقتل حين يستخفون بتهديده وعذابه، فماذا كان؟.. أتى لهم بالجنود يعذبونهم ويقطعونهم حتى أهلكهم وأبادهم!

وانظر إلى أصحاب الكهف، كيف قاموا بالحق فعبدوا الله وكفروا بآلهة قومهم حتى لم يأمنوا على أنفسهم، فخرجوا يلتمسون المأوى الآمن بعيدًا، فألقى الله عليهم النوم حتى بعثهم بعد ثلاثمائة عام.. إذا نظرت إلى هذا المشهد من جهة القوم الكافرين، فكيف تراه؟!.. ترى قوما من "الإرهابيين" و"الخوارج" و"المتطرفين" هربوا من وجه القانون حتى لا ندري في أي أودية الأرض هلكوا!

وانظر إلى امرأة فرعون وإلى ماشطة ابنته كيف آمنتا بالله وكفرتا بفرعون وتحملتا العذاب، حتى لقد هلكت الماشطة وأطفالها تعذيبا وإحراقا..

ولقد أخبرنا نبينا برجليْن بلغا مرتبة واحدة: أحدهما قُتِل شهيدا وهو يُقاتل، والآخر قُتِل بعدما جهر بكلمة الحق في وجه الجبار الجائر، كلاهما بلغ مرتبة سيد الشهداء، وكلاهما لم يكن بميزان الدنيا من المنتصرين!

وأزيدك من الشعر بيتا.. أو من التاريخ قصصا..

إن الأمة المهزومة المستضعفة لا تبدأ مسيرة نهضتها إلا بأفواج من الاستشهاديين، نعم، بهؤلاء ذوي النفوس الفولاذية التي يبلغ إيمانها مبلغًا تنهار معه القوى المادية كلها، فيُقدم على عمل يراه الناس انتحارًا، ويكون هو البذرة الأولى في كل قصة نهوض!

ماذا كان يرجو بلالٌ من حظ الدنيا حين كان يقول في عذابه الرهيب: أحدٌ أحدٌ؟!

وماذا كان يرجو خبيب بن عدي من حظ الدنيا وهو يقول على خشبة الصلب:

ولست أبالي حين أُقتل مسلما .. على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ .. يبارك على أوصال شلو ممزع

ولا تحسبن هذا قاصرًا على أمتنا وحدها؛ لا.. لقد وُجِد في الأمم كلها أمثال هؤلاء "الانتحاريين" الذين بذلوا نفوسهم في سبيل تثبيت أقوامهم على عقائدهم، حتى وإن كانت باطلة.. لم يزل الإسبان حتى اليوم يُعَظِّمون قوما "انتحاريين" كانوا يأتون إلى قلب الساحة الرئيسية في قرطبة العظيمة إبان ذروتها فيتعالنون بسب النبي والقرآن والإسلام، يريدون بذلك تثبيت قومهم النصارى لما يرونه من ذوبان النصرانية وانكماشها أمام قوة الإسلام وحضارته. ولأن المشهد كان عجيبا فقد تعامل معهم قضاة المسلمين باعتبارهم مجانين فلم يحكموا عليهم بالقتل غير مرة.. أولئك المجانين تراهم أمة الإسبان أول من ثبَّت النصرانية وأول من قاوم الوجود الإسلامي.

وفي التاريخ أمثال هؤلاء مما لا يتسع له المقام.. إنما أذكرهم لأقول: لا بديل لكل أمة مستضعفة تحفظ وجودها عن "استشهاديين" يخرقون قانون القوة ومنطق العقل ليمنحوا الدين والإيمان وقودا من دمائهم المسفوكة ونورا من نفوسهم المسفوحة!.. هكذا بدأ الإسلام قصته! وهكذا بدأت كل قصة نهضة من بعد هزيمة!

 

(3)

وإذن، فهل كان قرار طوفان الأقصى قرار عملية استشهادية جماعية؟!

لست أدري.. وأغلب الظن عندي أنه لم يكن كذلك، وأن الذي اتخذ القرار لم يكن يتوقع ردًّا بهذه الدموية، ولا توقع كل هذه الخيانة من أنظمة الغدر والخيانة العربية والإسلامية!

وقد يخطئ المجاهد فيخوض معركة لا تكون نتائجها كما أَمَّل وترجى وتمنى.. فإنما المجاهد بشر، وهل كان المجاهد معصوما؟!

ما من أحد يستطيع أن يقول بأن كل معركة خرج لها النبي أو خلفاؤه الراشدون أو الفاتحون والصالحون من الأمراء والسلاطين كانت محسومة النتيجة لصالح النصر، وإنما هو التقدير الذي قد يصيب وقد يخطئ، ولو كان الإنسان لا يقدم إلا على معركة النصر فيها محسوم لما كان ذلك منه بطولة ولا جهادا، بل هذا أقرب إلى الانتهازية وركوب المصلحة..

ما البطولة ولا الشجاعة ولا البسالة إلا الثبات في الموطن المخوف والمنزل الرعيب والاستئساد في ساحة الخوف والصلابة حين تميد الأرض وتكفهر الأجواء وتظلم الأنحاء!

ولولا ذلك ما وُصِف بطل بالبطولة، ولا شجاع بالشجاعة، ولا باسل بالبسالة!

ثم إن حسبة النتائج هذه متعذرة أصلا في حال الدنيا وطبائعها، فما من معركة يمكن الحسم بنتيجتها قبل أن تبدأ.

وقد وقع في سيرة نبينا الأعظم ﷺ أن هُزِم جيش المسلمين، ووقع أن حاصروا مدينة ولم تفتح لهم رغم استبسالهم وجهدهم حتى تركوها ورحلوا، ولقد أرسل نبينا ﷺ سرايا في مهمات عسكرية، فمنها ما أبيد ولم يرجع منها أحد! ومنها ما أبيد ولم يرجع منها سوى القائد وحده!! فإذا كان تقدير البشر وعملهم قد مسَّ الخطأ فيه خير البشر وأولاهم بالعصمة، فكيف بمن هم دونه؟!

ولقد خاض جيش الصحابة بعد وفاة النبي فتوحا، فوقعت فيهم الهزيمة أحيانا، واستعصت عليهم المدن أحيانا، وانقلبت عليهم مدن بعد فتحها أحيانا.. فلو كان يشترط لقرار الجهاد التيقن من النصر والظفر لما قام للجهاد أحد!

وفي تاريخنا الإسلامي أمثلة تعز على الحصر، يطول تتبعها، حول مدن صمدت أمام التتار وأمام الصليبيين وأمام القشتاليين وغيرهم، واستبسلت وقاتلت وكافحت ثم سقطت، فلم يكن جهادهم هذا عيبا ولا عبثا ولا خطئا.. بل كانوا أبطالا وخلدوا في ذاكرة الأمة أبطالا، وضربوا بأنفسهم المثل والقدوة لمن في زمانهم ولمن جاء بعدهم.

وقد تكرر في تاريخنا الحديث وفي زماننا المعاصر هذا انتهاء حركات إسلامية مجاهدة دون أن تحقق أهدافها في النصر والتمكين، فمنهم: عبد القادر الجزائري وعمر المختار وعبد الكريم الخطابي وحسن البنا وسيد قطب وأمين الحسيني وغيرهم كثير.. فإن أمتنا التي لم تكف عن المقاومة، لم يتحقق فيها النصر والتمكين في هذا الزمان المعاصر إلا مرات معدودة، لشدة ما نحن فيه من الاستضعاف ولعظيم الفارق بيننا وبين عدونا في القوة، ولكثرة ما فينا من الخائنين والمتخاذلين، ولعيوب أخرى ذاتية أيضا..

والقصدُ أن مرارة النتائج وقسوتها لا تبطل الأصل، فهذا الذي وقع كله لا يجعل الطريق خطأ ولا يجعل هؤلاء مخطئين، بل لقد أنزلت الأمةُ هؤلاء جميعا -وهم مهزومين، لم يبلغوا التمكين- منزلة الأبطال والكبار الذين مهدوا الطريق أو وضعوا لبنات في البناء!

فلو قد تحقق المخوف وقُضِي على المقاومة في غزة، فلن يكون هذا خطأ في الطريق وفي الجهاد.. فإن غاية ذلك أن يكون خطأ في التفاصيل والتقديرات، وليس هذا هو الخطأ الأعظم.. إنما الخطأ الأعظم أمر آخر أحدثك عنه بعد قليل!!

الذي أريد قوله الآن وهنا: أنه، وإن كان قرار طوفان الأقصى قرار استشهاد جماعي، فكم سبقهم إلى ذلك مجاهدون صالحون، ما كانوا يملكون إلا الصمود والصبر والدفع والدفاع، حتى أعذروا إلى ربهم وبذلوا أقصى جهدهم، ثم مضوا شهداء مخلدين، وبقي ذكرهم في التاريخ مخلدا!

 

(4)

أما الخطأ الأعظم حقا، بل الخطيئة العظمى صدقا، فهو هذا التخلي وهذا الخذلان، بل هذه الخيانة لله ورسوله والمؤمنين.

فلو قد اتفقنا –جدلا وتنزلا- أن قيادة المقاومة أخطأت بقرار الطوفان، فإن خطأهم في التقدير والتفاصيل لا يرفع عن الأمة وحكامها وجيوشها وأجهزة أمنها ومخابراتها وإعلامها واجب الجهاد والمساندة والدعم والنصرة لإخوانهم المذبوحين المضطهدين وإن أخطؤوا!

هذا هو الخطأ الذي ينحرف المتكلمون عنه ولا يريدون الخوض فيه لأن الخوض فيه ذو تكاليف وأثمان.. فيهربون من تكاليف قول الحق في أصحاب الخطايا والخيانة لينهشوا بألسنتهم من بذل غاية جهده ثم أخطأ في التفاصيل وفي التقدير!

المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يُسلمه!

ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وكان صادقا في الحديث عن الأخطاء وتوزيع المسؤوليات، فأوجب الواجب وأولى الأولويات أن يشير إلى هؤلاء الذين خانوا الله ورسوله والمؤمنين، وأسلموا أهل غزة وفلسطين ليُذبحوا، لا بل عاونوا على ذبحهم، بحصارهم، وبإمداد عدوهم بالسلاح والمؤن، وبقهر شعوبهم ألا تنهض لنصرة غزة!

من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليضرب بسهم في قلب الخيانة، لا أن يوجه سهامه إلى قلب المجاهد الذي وقع منه الخطأ!

من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت!

 

(5)

وأخيرا.. هل أخطأ المجاهدون حقا أم كان تقديرهم صوابا؟

والجواب: لست أدري.. إنه ما من أحد يملك جوابا شافيا على هذا غيرُ الذين اتخذوا هذا القرار، وبعضهم الآن شهيد عند ربه..

لكنني أدري أمورًا أخرى قد تغيب عن حساب الذين يتحدثون عن المكاسب والخسائر.

اعلم أولا أن الشعوب، سائر الشعوب، تبع لقادتها.. فالقادة هم الذين يقدرون مصالحها وخسائرها، فيتخذون قرار الحرب وقرار السلم دون عودة ولا استفتاء لشعوبهم.. فمن عجيب ما نحن فيه أننا ابْتُلينا بمن كان يريد من يحيى السنوار أن يستفتي أهل غزة قبل أن يقدم على قرار الطوفان!! يريد منه بذلك أن يكون أعظم ديمقراطية من تشرشل وأيزنهاور وبلير وبوش وغيرهم من قيادة الغرب الديمقراطي (!!) الذين يخوضون الحروب ويسوقون شعوبهم إليها!

ما عرف التاريخ قوما يستفتيهم قائدهم في قرار خوض الحرب قبل أن يفعلها، وإنما الذي كان ويكون وسيكون إلى يوم القيامة أن هذا القائد يقدر أن المصلحة في خوض الحرب فيحمل شعبه إليها، فإن أصاب وفاز سعدوا جميعا، وإن أخفق وغُلِب دفعوا الثمن جميعا!

غير أن الذي أريد لفت الأنظار إليه هنا أن حساب المصالح والمفاسد لا يكون مقصورا على لحظة الحاضر الواقع الآن، بل هو حساب يستدعي تقدير المآلات والمصائر!

دعني أقرب الصورة لك: لقد كان الأقصى مهددا بالهدم، واتخذ القوم من إجراءات التقسيم الزماني والمكاني، ومن طقوسهم التعبدية التلمودية ما يشير إلى قرب نيتهم تنفيذ هذا الهدم.

فالآن.. تخيل أن لو لم يكن طوفان الأقصى قد حصل، ثم استيقظنا يوما على بدء عملية الهدم، بعدما اتخذت إسرائيل سائر احتياطاتها واحترازاتها السياسية والعسكرية والأمنية لتتم عملية الهدم بأهون سبيل.. ماذا كنت تحب أن يكون؟!

إن إسرائيل لا تخفي طموحها في هدم الأقصى وإقامة الهيكل مكانه! بل هذا هو مشروعها الذي تريده منذ أن نشأت، وهي تسعى إليه سعيها الحثيث، ولا يؤخرها عن فعله إلا أنها تخشى هبة وغضبة شعبية تطيح بها..

ولو أنك لم تنسَ لرأيت كيف كان موكب التطبيع سائرا، حتى أنشأت بعض الأنظمة "الديانة الإبراهيمية" وصنعت بيتا لهذه الديانة الجديدة، وافتتحت اتفاقيات سمتها الإبراهيمية لتبدأ عملية تطبيع، بل عملية صهينة محمومة للعرب والمسلمين، بلغت أن يدخل بعض اليهود إلى المدينة المنورة، وأن ينفخ بعض حاخامتهم أبواقهم عند أطلال خيبر!

أريد أن أذكرك أن مسألة هدم الأقصى والاستعدادات الجارية لذلك سياسيا واقتصاديا وأمنيا كانت على أشدها..

فلو كنتَ في موقع قادة المقاومة في غزة، ورأيت هذا المآل بعين التوقع القريب، لكان قرار القيام بعملية استشهاد جماعية إنقاذا للأقصى هو المصلحة.. بل هو المصلحة العظمى! إن إيقاف هدم الأقصى وتوغل الصهاينة إلى مكة والمدينة وخيبر ثمن يستحق أن ندفع من أجله عشرات آلاف القتلى ومئات آلاف الجرحى!

دعنى أقدمها لك بصياغة أخرى: لو أنك استيقظت يوما فوجدت الأقصى قد هُدِم، ثم قيل لك: قد كانت لدى المقاومة خطة اجتياح لغلاف غزة ولكن تقديراتها كانت أن هذا الاجتياح سيكلفها عشرآت آلاف القتلى ومئات آلاف الجرحى، فصمتت ولم تفعل.. ماذا كنت تراك تقول أو تفعل أو تشعر؟!

ألن تشعر بأنك تحب أن تضحي بنفسك رخيصة قبل أن ترى بعينيك هدم الأقصى مسرى النبي ﷺ؟!

هذا الذي أريد أن ألفت النظر إليه: إن حساب المصالح والمفاسد، حساب المكاسب والخسائر، لا يقارن بين وضع غزة قبل الطوفان وبعده.. بل يقارن بين وضع المسلمين والصهاينة والأقصى بالطوفان وبغير الطوفان!.. عندئذ يعتدل الحساب!

ثم أعود فأكرر: لست أدري ماذا كان في رأس قادة المقاومة حين اتخذوا قرارهم.. غير أن الذين أرى منهم كل هذه الأساطير العجيبة في القتال والصمود لا بد لي أن أحترم عقولهم ونفوسهم وتقديراتهم، وإن لم أكن قد عرفتها ولا اطلعت عليها!

وأعرف قبل ذلك وبعده أنه لا نهضة للأمة إلا بمثل هذه الأثمان الكبيرة المدفوعة.. مثلما لم تنهض أي أمة إلا بفضل تضحيات أبنائها، بمن في ذلك الملحدون والكفار الذين لا يرجون الدار الآخرة.

هذا هو الحساب البعيد.. حسابٌ فيه الجهاد ذا ثمرة، ولكن الثمرة بعيدة.. بعيدة الشقة!

ثمرة لا يصلح لها من لا ينهض إلا لو كان الجهاد عرضا قريبا!!

نشر في مجلة أنصار النبي، ديسمبر 2024م