الاثنين، نوفمبر 04، 2024

سنوار مان!.. حاشية على رثاء أبي إبراهيم!

 

في مؤتمر الذكرى الثالثة للهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ، أنشد شاعر الثورة اليمنية فؤاد الحميري أبياتا بديعة يقول فيها:

شتان بين الشك والإيمان .. وشهود زورٍ أو شهيد عيانِ

سقطت بطولة هُولِيُود وسحرُها .. وعَلَت بطولة تلة السلطانِ[1]

هم مثلُ سوبرمانهم أكذوبة .. لكننا –صدقٌ- كسِنْوَرمانِ

 

(1)

كأن الغرب يشعر نقصا فظيعا في البطولة والأبطال، فلم تزل آلته الدعائية تنهمر علينا بالأبطال المُخترعين الزائفين؛ فكم نشأنا ودرجنا على روايات هؤلاء وأفلامهم، فإذا الأطفال والناشئة يستلهمون أمثلة: سوبر مان (الرجل الخارق)، سبَيْدر مان (الرجل العنكبوت)، وأنواعًا من الفرسان في كل موطن وسبيل. وإذا الكبار والكهول يستهلكون أصنافا من المقاتلين والأبطال الذين فرغوا من مهمات الأرض فطفقوا يحاربون في النجوم والكواكب والعوالم الموازية أو يتصدون لغزو الكائنات الفضائية لهذا العالم!

قد كثرت القصص المخترعة والخيال العلمي من بعد ما تضخم التفوق الأوروبي حتى لم يعد يرى له في هذه الأرض قرينا ولا منافسا!

وتأمل في هذا ترى صدق ما أقول؛ فأي بطولة يفخر بها المرء إذ يستطيع أن يقتل، بإلقاء القنابل وهو في طائرة تعلو آلاف الأميال على قومٍ من العُزَّل الذين لا يطالونه، أو حتى يقتل وهو في مركز للتحكم وقد أرسل طائرة مُسَيَّرة يتحكم فيها كما يتحكم في الألعاب الإلكترونية، يرى الناس من حيث لا يرونه، ويفتك بهم من حيث لا يدركونه؟!.. فمن كان هذا حالُه، وقد تجرد في معاركه من معاني البطولة، كان لا بد لأدبائه وروائييه وأهل الدراما والسينما فيه أن يخترعوا له أعداء فوق البشر، يأتونه في الأرض أو يذهب هو إليهم في السماء ليتمّ له القتال الذي فيه معنى البطولة!!

وأشدُّ ما ترى فيه هذا النقص لدى الغربي هو الأخلاق؛ فإن الغربي مجرم منافق، وذلك أمر أصيلٌ في طبعه، لا سيما منذ اعتنق العلمانية، فالأخلاق عنده وسيلة وأداة لا أكثر، يستعملها وينتهكها في تمكين تفوقه، وقد يفعل هذا في نفس الوقت واللحظة.. وقد ابتكر الغرب في منظومته السياسية وظيفة "المتحدث الرسمي"، وهذه الوظيفة يتولاها أكثر الناس مهارة في التعامل مع المآزق الأخلاقية؛ فإن أردت بلوغ هذه الوظيفة فكن وقحا فصيحا، وكن باردا ماهرا في تغطية المواقف اللاأخلاقية بغلالة من الشعارات الأخلاقية، كن قادرا على إنكار الشمس!

لهذا ترى الغربي حريصا على الأخلاق شغوفا بها، وذلك في رواياته وقصصه ودراماه وسينماه فحسب، يحاول بهذا أن يغطي نقص الأخلاق في طبعه، وتجرده منها في واقعه! مَثَله في هذا كَمَثل الذي يتعاطى المخدرات ويدمنها لأن جسده قد توقف عن إفراز مادتها، فهو شغوف بها لأنه فاقدٌ لها، متشوق لها لأنه فارغ منها، حريص عليها لأنه عاجز عن استنباتها من نفسه مثل كل الأسوياء الأصحاء!

وحال هذا يكون أشد بؤسا وأشد حقدا وأشد تغيظا حين يرى مادة البطولة كلها قد جُمِعت في عدوّه، وليس يعرف طهر الفتاة العفيفة إلا التي ارتكست في الفاحشة وأدمنتها، وليس يتغيظ الجبان إلا إذا أبهر الناسَ الشجاع، وليس يُفتضح البخيل بمثل ما يُفتضح إذا ظهر إلى جواره الكريم!

 

(2)

والحمد لله كثيرا، فقد جُمِعت في أمتنا مادة البطولة، حتى كأن أمتنا نبع من البطولة المتفجرة المتدفقة، أبناؤها يقاتلون في الساحات قتالا غير مسبوق ولا مشهود، قتال من لا يملكون شيئا في مواجهة من يملكون كل شيء!!

ماذا يكون معنى البطولة ومعنى الشجاعة ومعنى البسالة ومعنى الإقدام إذا لم يكن هو مشاهد اقتحام المقاتلين المحاصرين منذ سبع عشرة سنة في القطاع المعزول لأقوى دولة مدججة بالسلاح، وإعطائها صفعة مدوية انكسرت فيها سُمْعتها الأمنية وتضعضعت فيها هيبتها العسكرية؟!

كيف يمكن أن نصف البطولة والشجاعة والإقدام والبسالة إذا لم نستعمل لذلك مشاهد الحافي الذي يخرج من فتحة نفق ليضع عبوة ناسفة على الدبابة الأكثر تسليحا وتدريعا في تاريخ المدرعات؟! أو ذلك الذي قُطِعت ذراعه فكان يرمي بذراعه الثانية قذائف الهاون على عدوه، أو ذلك الذي سقط أمامه صاحبه الأول ثم الثاني فالتقط السلاح الوحيد ليواصل المعركة المحسومة بلا تردد؟!!

كيف نصف معنى الصبر والثبات ورباطة الجأش إذا لم نستعمل مشاهد أهل غزة من الشيوخ والنساء والصبيان وهم يعيشون المصائب الكبرى التي ينهار الناس لأقل من عشر معشار معشارها؟! ولئن نسيت فلست أنسى طبيبة تابعة لمنظمة غربية جاءت إلى غزة بعد جولة حربية فدُهِشت لأنها لم تر في غزة ما تراه في الغرب من مظاهر الانهيار والصدمة بعد الحرب!! فصارت تتعجب وتستغرب وقد ضرب أهل غزة عقيدتها العلمية في الصميم، فلم تعد تدري: هل هؤلاء من البشر؟ أم أن العلم الذي درسته والتجربة التي خاضتها كانت خرافة وزيفا؟!!

ثم انظر وتأمل.. كيف اجتمع المشهدان معًا في البقعة الواحدة!!

انظر إلى الجند المدجج بالسلاح، الذي يلقي بأطنان الحميم من الطائرات البعيدة، ويستعمل أحدث التقنيات ليخوض بها الحرب، ثم هو يضرب المثل في قذارة الأخلاق، وفي التمتع بقتل النساء والأطفال والحيوانات، وبهدم المساجد والمستشفيات، وإذا شكَّ في وجود عدو له في مكان نفَّذ ضربة تقتل حوله مئات من البشر، ثم إذا اقتحم بيتا استخرج ملابس نسائه فلبسها الجنود وصَوَّروا أنفسهم بها؟!! ثم انظر إلى وليِّهم الغربي كيف لا يتوقف عن إمدادهم ودعمهم، وهو الذي أسال أطنانا  من الحبر وأكواما من الأوراق في التنظير لحقوق الإنسان والحرب والأسرى... إلخ!

 

(3)

ولقد شاء الله تعالى أن يجتمع في مشهد استشهاد أبي إبراهيم يحيى السنوار هذا كله: البطولة الإسلامية المتدفقة حتى الرمق الأخير، والقذارة الصهيونية الصليبية الغربية المتلمظة الحقودة حتى الانتقام الأخير:

. مقاتل يقاتل فوق ظهر الأرض، بنفسه!

. أشعث أغبر باذل كل جهده، كما يحب ربنا ويرضى

. وحيد بعد تفرق صحبه، أو هلاكهم معه أو دونه!

. صامد صلب حتى اللحظة الأخيرة! لم يجد إلا العصا فقذف بها يقاتل!

. ملثم حَرَمَ العدوَّ أن يتعرف عليه لئلا يُعتقل فتكون مذلة ومهانة له، وتكون مكسبا ومفخرة للعدو!

. جريح ينزف، لكنه ربط ذراعه الجريح بفمه ويده الأخرى، بحبل ليحول دون استمرار النزيف!

. لا هو في نفق (وليس عيبا لو كان) ولا متدرعا بالأسرى (وليس عيبا لو فعل)

. يصطحب عدته في القتال: سلاح.. ومعها عدته الروحية: كتاب في الأدعية، ورقة في الأذكار، مسبحته.. وحبَّاتٌ يستعملها الناس لتعطير الفم، فلا تدري أكانت له لذلك الغرض فتكون دليلا على نظافة وطيب، أم كانت له غذاء ضعيفا لم يجد سواه، إذ هو مقاتل محاصر؟!

وأما عدوُّ، فظهر على هذا النحو:

. مجرم يضرب بقذيفة الدبابة مقاتلا جريحا ليس بيده إلا العصا!

. جبان يتخوف من مقاتل واحد فيرسل بطائرة مسيرة تستكشف شأنه!

. مرعوب قضى يوما قبل أن يجرؤ على اقتحام المنزل المتهدم فوق المقاتل الوحيد الذي فرغت جعبته!

. خبيث دنيئ سرق الجثة ثم هدم الدار!

وقد شاء ربك مزيد فضح لهذا العدو ومزيد بث لكرامة السنوار، إذ أذيع هذا كله على يد العدو نفسه، ولا أحد يدري، لعل الشهيد كانت له مناقب أخرى ظاهرة لكن العدو حجبها وكتمها!!

 

(4)

كان الشاعر العراقي الكبير أحمد مطر قد أنشد، ربما قبل ثلاثين سنة أو يزيد، قصيدته البديعة التي يقول فيها:

وجوهكم أقنعة بالغة المرونة..

طلاؤها حصافة، وقعرها رعونة..

صفق إبليس لها مندهشا وباعكم فنونه..

وقال: إني راحل.. ما عاد لي دور هنا.. دوري أنا، أنتم ستلعبونه!

أكلما نام العدو بينكم رحتم تقَرِّعونه؟!

وغاية الخشونة أن تهتفوا: "قم يا صلاح الدين".. حتى اشتكى مرقده من تحته العفونة!

كم مرة في العام توقظونه؟ أيطلب الأحياء من أمواتهم معونة؟!

دعوا صلاح الدين في ترابه واحترموا سكونه..

لأنه لو قام حقا بينكم.. فسوف تقتلونه!!!

نعم.. لو كان صلاح الدين قد قام لكان مصيره كمصير السنوار، أو حازم أبو إسماعيل، أو إسماعيل هنية، أو غيرهم ممن امتلأت بهم السجون والمنافي والقبور!!

فلو أننا ذهبنا نقرأ التاريخ ونطالع سيرة صلاح الدين، ثم ارتددنا بعدها فجئنا ننقد أنفسنا وتجربتنا ونتأمل في واقعنا لكان لزاما علينا أن نقول: ما بلغ صلاح الدين ما بلغ من التحرير والنصر إلا بعد أن انتهى من الخونة الذين كانوا يطعنونه في الظهر، فما استقام لصلاح الدين تحرير بيت المقدس إلا حين كسر الأمراء الذين حكموا بلاد الشام وكانوا حلفاء للصليبيين وعقبة في طريق التحرير!

ولقد حاول صلاح الدين أن يتجنب طريق كسرهم، وأن يتألفهم، وأن يعدهم ويمنيهم ويعظهم ويرجيهم، فما استطاع.. هذا وهو المعروف بأنه المثال في الرحمة واللين والعفو، حتى لقد أخذ عليه بعض المؤرخين إفراطه في العفو والصفح! فلئن كان هذا المغالي في العفو والصفح قد عجز عن أن يجد طريقا لتحرير بيت المقدس قبل أن يكسر الخونة الذين ثووا في ظهره، فكيف بغيره؟!

ستظل البطولة التي تتفجر بها أمتنا محبوسة طالما بقي الخونة، فإن تفجرت وتدفقت رغما عنهم فستبقى مطاردة لتنتهي مغدورة مذبوحة!

وهذا هو الطريق..

هذا هو الطريق الذي تهدي إليه بطولة السنوار الشهيد..

 

(5)

لما رجعت إلى البيت بعد انتهاء مؤتمر الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ، وقد كنتُ ممتلئا بأبيات فؤاد الحميري عن "السنوارمان"، وجدتني أمام قصيدة أخرى طازجة؛ فعرفت أنه بينما كان صاحبنا الشاعر اليمني في إنشاده، أخرج الشاعر الفلسطيني المعروف تميم البرغوثي قصيدته الأعظم في رثاء السنوار، وتلك قصيدة من بديع الكلام والنظم، وتحتاج وقفات ووقفات، ولا قليل عليها إذا أقيمت لها مجالس الشروح والحواشي، أتركها هنا، تحينا لفرصة قادمة إن شاء الله..

قال تميم:

ألا كم كريم عده الدهر مجرما .. فلما قضى، صلى عليه وسلما

أبو القاسم المنفي عن دار أهله .. وموسى بن عمران وعيسى بن مريما

أتعرف دينا لم يُسَمَّ جريمةً .. إذا ضبط القاضي بها المرءَ أُعْدِما

صليبٌ، وقتل في الفراش، وعسكر .. بمصر، وأخدود بنجران أضرما

وطفل وديع بين أحضان أمه .. يراوغ جيشا في البلاد عرمرما

وقلَّ نبيٌّ لم تلاحقه شرطة .. وأشباهها في كل دهر تصرما

فمن جوهر التوحيد نفي ألوهة الـ .. ملوك، لذا لا زال دينا محرما

وفرعون والنمرود لم يتغيرا .. بقرنيْن أو ربطات عنق تهندما

ونحن -لعمري- نحن منذ بداية الـ .. خليقة، يا أحبابنا، وهما هما

 

مُسَيَّرة في شرفة البيت صادفت .. جريحا وحيدا يكتسي شطره دما

قد انقطعت يمناه وارتض رأسه .. فشدَّ ضمادا دونه وتعمما

وأمسك باليسرى عصا كي يردها .. فكانت ذبابا كلما ذُبَّ حَوَّما

وما أرسلت إلا لأن كتيبة .. من الجند خافت نصف بيت مهدما

وقد وجدوه جالسا في انتظاره .. أظن -ومن تأخيرهم متبرما

 

ولو صوَّرت تحت اللثام لصوَّرت .. فتى ساخرا ردَّ العبوس تبسما

تلثم كي لا يعرفوه لأنهم .. إذا عرفوه فضَّلوا الأسر ربما

ولو أسروه، قايضوه بعمره .. لذاك رأى خوض المنية أحزما

 

فلم يتلثم كي يصون حياته .. ولكن لزهد في الحياة تلثما

فقل في قناع لم يلف لسلامة .. ولكن شعارا في الحروب ومعلما

وقل في جموع أحجمت خوف واحد .. وفي جالس نحو المشاة تقدما

 

أتى كل شيء كي يسوء عدوه .. ولم يأت شيئا في الحياة ليسلما

رمى بالعصا جيش العدو وصية .. لمن عنده غير العصي وما رمى

رمى بالعصا لم يبق في اليد غيرها .. ومن في يديه العسكر المجر أحجما

غدا مضرب الأمثال منذ رمى بها .. لكل فتى يحمي سواه وما احتمى

جلوسا على الكرسي مثل خليفة .. يبايعه أهلوه في الأرض والسما

فذلك عرش يرتضيه ذو النهى .. وذاك إمام قبلة السعد يمّما

 

هنا يصبح الإنسان دينا مجردا .. ويصبح دين الناس شخصا مجسما

أتعرف إن الموت راوية الفتى .. يقول لحقٍّ أم لباطل انتمى

يعيش الفتى مهما تكلم ساكتا .. فإن مات أفضى موته فتكلما


[1] الموقع الذي استشهد فيه يحيى السنوار يعرف بحي "تل السلطان" في مدينة رفح.