الثلاثاء، سبتمبر 15، 2009

ماذا قدم المسلمون للعالم - د. راغب السرجاني

تنفرد المدونة قبل كل المواقع الإخبارية بنشر خبر فوز الدكتور راغب السرجاني بالجائزة الأولى لمسابقة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، عن كتابه “ماذا قدم المسلمون للعالم”، وهذا الكتاب الذي كان قد صدر منذ أربعة شهور تقريبا.

وكنت قد أعددت عرضا لهذا الكتاب ونشر في مجلة الفسطاط التاريخية
وأعيد نشر هذا العرض في المدونة.

———————-

الصفحات: 847

الناشر: مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة – القاهرة - مصر

الطبعة: الأولي مايو 2009 = جمادى الأولى 1430

“لا يمكن أن نستوعب ما وصلت إليه البشرية من تَقَدُّم في أي مجال من مجالات الحياة إلا بدراسة الحضارة الإسلامية”.

“ماذا عسانا فاعلين بعد هذه المعرفة ؟”

يقع الكتاب ذي المجلدين بين هذين الكلمتين، أولاهما في مقدمة الكتاب، والأخرى في خاتمته، وهما يلخصان مافيه وما بعده.

وإذا حاولنا التعريف بالكتاب في عبارة واحدة لقلنا إن مفتاح الكتاب وهدفه هو التعريف بالإسهامات الحضارية للعصور الإسلامية في مسار الحضارة الإنسانية، ثم تأتي الخاتمة لتفتح باباً آخر، فتتحدث عن الواجب الذي يتحمله من قرأ هذا الكتاب.

***

وإذا كان كل كتاب يعبر عن نوع من الاختلاف أو حتى الاشتباك بين المؤلف وبين سابقيه وأقرانه، فإن هذا الاشتباك بدأ مبكرا مع د. السرجاني، حيث كان في تعريف معنى “الحضارة”، وهو التعريف الذي اخْتُلِف فيه، فبعضهم جعل الإنسان محور تعريفه للحضارة فيراها نضوج المبادئ والأفكار والمعتقدات، ومنهم من يجعل المحور هو التطور المادي فيعرفها بأنها الرقي في العلوم العلمية والتجريبية، بل وصل الحال إلى أن عرفها البعض في الغرب بأنها “القضاء على العدل والأخلاق، وترك العِنان لطبيعتنا الحرة السافرة لتفعل ما تشاء، ولو أدَّى ذلك إلى أن تسير على الجماجم”.

ثم يقرر رأيه فيرى أن “الحضارة هي قدرة الإنسان على إقامة علاقة سوية مع ربه، والبشرِ الذين يعيش معهم، وكذلك البيئة بكل ما فيها من ثروات”.

وعلى هذا التعريف ذي الثلاث شُعَب، يقرر أن الحضارة الإسلامية هي الحضارة الوحيدة التي استطاعت إقامة علاقة سوية في التصور والسلوك مع الله، ومع البشر، ومع البيئة المحيطة بما فيها من كائنات حية بل وجمادات.

ولهذا يقول د. السرجاني: إن الكتاب لا يتحدث عن حضارة عادية لها مثيلات أو أشباه، إنما نتحدَّث عن “الحضارة النموذج”، وهو يقرر أنه لم يفعل إلا أن فتح أبوابا في الموضوع، وذكر بعض المداخل فقط.

***

وإذا كان المؤلف يقرر أنه في مجلدين قد فتح بعض الأبواب وذكر بعض المداخل، فما عسى أن يفعله من يستعرض الكتاب، فمن يستطيع أن يجمع البحر في قدح؟!!

يأتي الباب الأول بعنوان (الحضارة الإسلامية بين الحضارات السابقة) وفيه يستعرض المؤلف بإيجاز –عبر الفصل الأول- ما وصلت إليه حضارات اليونان والهند وفارس والروم، وكذلك حال العرب قبل الإسلام، وهي تلك الأحوال التي يلخصها قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ” (رواه مسلم). فلقد كان الفساد يصبغ وجه الأرض، فساد الأفكار والتصورات وغلبة الوثنيات، وفساد اجتماعي يتجسد في طبقيات عنيفة وحقوق مهضومة وانحلال أخلاقي مقيت، وقوانين تلبي رغبات الأقوياء، ومجادلات دينية لا تنتهي، ولا تنتهي عند الجدال بل تستحيل حروبا واضطهادات عنيفة.

ويأتي الفصل الثاني متحدثا عن (أصول وروافد الحضارة الإسلامية)، حيث يقول بأن التميز الذي يجعل حضارة الإسلام تختلف عن غيرها من الحضارات ثلاثة أشياء: تأسسها على القرآن والسنة، حيث منهما انطلقت ومنهما انبثقت التصورات والأفكار، وكذلك النظم والمناهج والأعراف وطريقة الحياة. والثاني: هو أن الشعوب الإسلامية كانت مزيجا فريدا من كل الأعراق والألوان والأجناس، بما جعل الحضارة الإسلامية كمصب كبير وضعت فيه كل تلك الشعوب خلاصاتها وخبراتها ورحيق حضاراتها بعد أن تهذبت بالإسلام، ولم يكن ليتأتى هذا لولا هذه المساواة التي جعلت لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح. والثالث: هو الانفتاح على جميع الحضارات والأخذ منها دون تأنف أو تكبر أو استغناء، بما جعل الأمر لا يستغرق وقتا طويلا حتى تتم ترجمة الكتب والموسوعات العلمية من لغاتها الأصلية إلى العربية، بما جعل عاصمة الإسلام بعد بضعة أجيال هي عاصمة العلم والثقافة العالمية بلا منافس.

ثم يتحدث الفصل الثالث عن خصائص الحضارة الإسلامية، ويراها المؤلف في أربعة أمور: أولها: العالمية، إذ أن رسالة الإسلام لا تفرق بين جنس وجنس ولا بين عرق وعرق ولا تتوقف عند حدود، بل تتأسس على أن الإنسان هو خير المخلوقات على هذه الأرض، وأن جميع الكون مسخر له، وأن مصلحته ورفاهيته هي غاية الشريعة. ومن هذا المنطلق كانت المساواة بين البشر أساسا معلنا منذ أول يوم، وثانيها: الوحدانية، تلك الخصيصة التي سمت بالإنسان فوق عبادة أي شئ، وفوق الخوف من أي شئ، بل ليعرف أن كل شئ في هذا الكون مسخر له هو، وبوقوف حضارة الإسلام على مبدأ التوحيد تحققت المساواة بين البشر بشكل عملي، فكل البشر عبيد لله الواحد، بلا وسيط ولا معبد له سدنة وله كهنة، وبهذا انتهى تماما مبدأ أن الحاكم إله أو نصف إله أو حتى يسري فيه دم فوق بشري، وهو ليس إلا وكيل عن الأمة منوط بتنفيذ شرع من عند الله لا دخل له في وضعه وتقنينه، وانتهى وجود فوارق المراتب الكهنوتية بين البشر أو احتكار الصلة مع الآلهة، وانتفت كل مظاهر الوثنية، وساد تصور أن الإنسان هو سيد هذا الكون. وثالثها: التوازن والوسطية، بين الروح والجسد، بين علوم الشرع وعلوم الحياة، بين الدنيا والآخرة، بين المثالية والواقعية، بين الحقوق والواجبات. ورابع خصائص حضارة الإسلام –كما يرى المؤلف- هي: الصبغة الأخلاقية، فالأخلاق هي غاية الرسالة، كما قال –صلى الله عليه وسلم- “إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِمَ مَكَارَمَ الأَخْلاَقِ”، وهكذا روعي الجانب الأخلاقي في العلم والحكم والتشريع بل حتى في الحرب وضع الإسلام “أخلاق الحروب”، وأهم ما في جانب الأخلاق أن مصدرها هو الوحي الإلهي فهي تامّة بعكس النظريات البشرية في الأخلاق، كما أن الالتزام بها ينبع من داخل الضمير باعتبار الأخلاق دينا يحاسب عليها المرء. وما يجعل الحضارة الإسلامية متفردة بين الحضارات أن خصائصها تلك هي خصائص دين فهي غير قابلة للتبدل أو التغير مهما تغيرت الأحوال والظروف، ولذا فهي خصائص خالدة لحضارة الإسلام.

***

يناقش الباب الثاني من الكتاب (إسهامات المسلمين في مجال الأخلاق والقيم)، وذلك من خلال خمسة فصول (الحقوق – الواجبات – الأسرة – المجتمع – العلاقات الدولية).

إن الأخلاق هي جوهر وأساس أي حضارة، وهي سرَّ بقائها عبر التاريخ والأجيال، وهو الجانب الذي إذا اختفى يومًا فإنه يُؤْذِنُ بزوال الدفء المعنوي للإنسان، الذي هو رُوح الحياة والوجود؛ والحضارات السابقة وحتى المعاصرة لم تحظ بقدر بارز أو إسهام مؤثر في هذا الجانب الأخلاقي، والحضارة الغربية المعاصرة نموذج واضح للاختلال بين القوة والأخلاق.

غاص المؤلف مستعرضا بما أمكنه من إيجاز غير مخل بما يشرعه الإسلام من حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحقوق الخدم والعُمَّال، وحقوق المرضى وذوي الاحتياجات الخاصة، وحقوق اليتامى والمساكين والأرامل، وحقوق الأقليات، وحقوق الحيوان، وحقوق البيئة. في فصل يثبت القفزة الهائلة وغير المسبوقة بل وغير الملحوقة التي أتت بها شريعة الإسلام.

ثم ثنَّى باستعراض الإسهامات الإسلامية في جانب الحريات، فناقش: حرية العقيدة في الإسلام إذ لا إكراه في الدين، بل لقد كفل الإسلام فوق حرية العقيدة حرية التعبير عنها ولكن بعيدا عن السخرية والمهاترات (وجادلهم بالتي هي أحسن). وكفل الإسلام حرية التفكير حين دعا بكل قوة لإعمال العقل وعاب على الذين يعطلون عقولهم وقواهم الحسية عن إدراك الواضحات فوصفهم بالأنعام بل هم أضل، والتفكير في الإسلام فريضة وهذا الذي تجسد من خلال “الاجتهاد” الذي أثرى الفقه الإسلامي عبر القرون. وحرص الإسلام على التمتع بحرية الرأي، بل بما هو أعلى من هذا وهو واجب النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكم شهدت سيرة النبي من مواقف تدلنا على هذه الحرية. وأتى الإسلام أيضا بحرية النفس، حيث كل الناس أبناء لآدم، ولكنه سلك في تحرير العبيد وإلغاء الرق سياسة واقعية، بتجفيف منابع الرق، والحض على الإعتاق، وإيجاد الوسائل التي تساعد العبد لنيل حريته. وأخيرا حرية التملك: حيث كان النموذج الإسلامي في الموازنة بين الفرد والمجتمع نموذجا وسطا، يعطي الأفراد الحق في التملك ولكنه يحارب تضخم النزعة الفردية ويراعي مصلحة المجموع، فيمنع الفرد مما فيه ضرر لمصلحة الجماعة، ثم جعل ملكيات أخرى عامة هي للجماعة يستفيد منها عموم الناس.

وفي فصل الأسرة يركز المؤلف على أن الأسرة ” حصن هذا المجتمع وقلعته وصمام أمنه وأمانه”، ولهذا اهتم الإسلام بها حيث شرع الزواج وجعله الأصل وأعلن ان لا رهبانية في الإسلام، واهتم بعقد الزواج وأوصى الزوجان بحسن الاختيار، وجعل لكل منهما على الآخر حقوقا وواجبات، ثم جعل عليهما حقوقا نحو الأبناء منذ تسمية الله قبل اجتماعهما في الفراش، مرورا بحمله إذ يصبح حينئذ كائن له حق الحياة ولا يجوز إجهاضه، وولادته والاستبشار به وتحنيكه والأذان في أذنه، وإحسان تسميته، وإعطائه حقه من الرضاعة الطبيعية، وقد أجاز الإسلام للحامل والمرضع ألا تؤديا فريضة الصوم رعاية للمولود، وحقه من الحضانة والنفقة، ثم الحق في حسن التربية والتعليم والرعاية، وبهذا فاق الإسلام كل القوانين الوضعية في رعاية الأبناء.

ثم أوصى الأبناء بالآباء، فللآباء حق البر والطاعة والإحسان، ونهى عن مجرد قول “أُف”، ولم يقف الإسلام عند حدود الأسرة الصغيرة بل أولى رعايته أيضا الأسرة الكبيرة (الرَحِم)، فلكل أُولِي القربى من الإخوة والأخوات، والأعمام والعمَّات، والأخوال والخالات، وأبنائهم وبناتهم؛ حقُّ البِرِّ والصِّلَة، وجعل هذا من أسباب سعة الرزق وطول العمر وخلود الذكر، وتوعد قاطع الرحم، وجعل قطع الرحم من أكبر الذنوب، وبهذا توسع الإسلام فشمل باب القيم فيه الأسرة الواسعة.

وفي جانب المجتمع أقام الإسلام مجتمعا يرتكز على أربعة ركائز: المؤاخاة، والتكافل، والعدل، والرحمة. وفي الفصل الخامس والأخير الذي يتحدث عن الإسهام الأخلاقي من خلال العلاقات الدولية بين الدولة الإسلامية وغيرها، يركز المؤلف على أن السلام هو الأصل بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول، وبالتالي ” فالمعاهدات تكون إمَّا لإنهاء حربٍ عارضة والعود إلى حال السلم الدائم، أو إنها تقرير للسلم وتثبيت لدعائمه”، وبالنظر إلى معاهدات النبي وخلفائه نجد أن المسلمين إنما يحاولون العيش في جَوٍّ هادئ مسالِمٍ مع مَنْ يجاورونهم، وأنهم لم يَسْعَوْا لقتال قَطُّ، بل كانوا دائمًا مؤْثِرين السلم على الحرب، والوفاق على الشقاق، وتحدث المؤلف عن ضوابط المعاهدات وشروطها وإلزامية الوفاء بها في الإسلام، وبعدئذ فإذا كان الحال هكذا فلا يفوت المؤلف أن يتكلم في مبحث عن أسباب وأهداف الحرب في الإسلام والتي عددها في: الدفاع عن النفس والدين، أو لدفع ظلم عن النفس، ولكن حتى في الحرب تظل للإسلام صبغته الأخلاقية في الحروب، والتي أفرد لها المؤلف مبحثا أنهى به هذا الفصل، وهذا الباب جميعا لينتقل إلى الباب الثالث.

***

الباب الثالث عن المؤسسة العلمية في الإسلام، وهو خمسة فصول:

الأول عن الرؤية الجديدة التي أتى بها الإسلام بشأن العلم، حيث لا نزاع ولا مشكلة بالأساس بين العلم والدين، وحيث أصبحت قضية العلم عامة لكل الناس، وطلبه فريضة على كل المسلمين، وبهذا تطورت الحركة العلمية بعد اكتسابها القوة الشعبية لتكثر المكتبات وتتكاثر وتتضخم حلقات العلم في المجتمع الإسلامي.

والفصل الثاني عن التغيير الإسلامي لتفكير العلماء، إذ بدأ في الحضارة الإسلامية استخدام المنهج العلمي التجريبي، وتطور العلم ليكون عمليا يخدم واقع الحياة ويبتعد عن القضايا غير ذات الصلة بالفائدة الفعلية، وكذلك بدأ في عصر الحضارة الإسلامية تشكل الفرق العلمية بعد أن كان واقع الحال فرديا، ثم إلزام الإسلام أبناءه بالأمانة العلمية فالمسلمون لم ينسبوا لأنفسهم آراء من سبقهم بل أعلنوها منسوبة إلى أصحابها أرسطو وأفلاطون وإقليدس وأبقراط وغيرهم، في حين أن الغرب في نهضته الأولى سرق روادها أفكار واختراعات علماء المسلمين ونسبوها لأنفسهم بعد ذاك بتسعة قرون، حتى كان اكتشاف هذا تعرية لهم بعد موتهم بقرون.

والفصل الثالث كان حديثا عن المؤسسة التعليمية الإسلامية، والتي تبدأ بالكتاتيب التي تشبه في عصرنا الآن المدارس الابتدائية، وأفاض المؤلف نسبيا في الحديث عن طريقة التعليم والتدريس التي كانت متبعة في تلك الكتاتيب، وهي طريقة متطورة حتى بمقاييس يومنا هذا، وفي المرحلة الثانية كانت حلقات المساجد هي أبرز قطاعات المؤسسة التعليمية الإسلامية، وإذا عرفنا أن المساجد كانت أول ما يبنى في كل بلد مفتوح كان لنا أن نتخيل إلى أي حد انتشرت حلقات العلم على طول الرقعة الإسلامية، ثم وبعد أن غصت المساجد بحلقات العلم بدأ إنشاء المدارس التي يُنفق عليها من اموال الأوقاف، فمنذ القرن الرابع الهجري وُجدت المدارس الكبرى في الحضارة الإسلامية.

وفي الفصل الرابع يتحدث المؤلف عن المكتبات في الحضارة الإسلامية وأنواعها، ثم يركز الحديث على مكتبة بغداد التي اعتبرها “جامعة إسلامية متطورة”، وفي الفصل الخامس تابع حياة العلماء، منذ تنشئة العالم، ثم المكانة التي كانت للعلماء في الدولة الإسلامية، ثم ابتكار فكرة “الإجازة”، وهي الشهادة التي تُجيز لطالب العلم في هذا الفن أن يمارسه، فهذه الإجازة هي اختراع إسلامي أضيف للحضارة الإنسانية.

***

وفي الباب الرابع جولة مع الإسهامات الإسلامية في علوم الحياة، وهو ينقسم إلى فصلين: الأول عن تطوير العلوم الموجودة مثل الطب والفيزياء والبصريات والهندسة والجغرافيا والفلك، أما الثاني فعن العلوم التي ابتكرها المسلمون، وهي الكيمياء والصيدلة والجيولوجيا والجبر والميكانيكا، وأفرد المؤلف مبحثا لكل علم من هذا وضح فيه الإضافة الإسلامية أو الابتكار الإسلامي وأسماء العلماء الرواد فيه.

وفي الباب الخامس جولة عن الإسهامات الإسلامية في جانب العلوم الإنسانية، وبنفس المنهج في تطوير العلوم الموجودة وهي علم الفلسفة والتاريخ والأدب، ثم الابتكارات الإسلامية لعلوم جديدة مثل علم الاجتماع وعلوم الشريعة (علم أصول الحديث- علم الجرح والتعديل - علم أصول الفقه) وعلوم اللغة (علم النحو – علم العروض – علم المعاجم)، وأعطى نبذات وافية عن هذه العلوم، غير أنه استبق هذين الفصلين بفصل استعرض فيه الإصلاح الإسلامي للتصورات والأفكار العقدية التي كانت موجودة عند الأمم السابقة.

***

تحدث الباب السادس عن المؤسسات والنظم في الحضارة الإسلامية، فتحدث عن مؤسسة الخلافة والإمارة: شروط الخلافة في الإسلام، وكيفية اختيار الخلفاء، وماهي البيعة وولاية العهد، وكيف كانت علاقة الحاكم بعموم الناس من خلال تعاليم الإسلام. وتحدث عن الإسهامات الإسلامية في مسألة نظام الحكم، إذ بدأ التأليف في المجال السياسي مبكرا منذ عهد الرشيد بكتاب الخراج لأبي يوسف تلميذ أبي حنيفة، ثم تطورت المؤلفات فظهر كتاب الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة، ثم نضجت الكتابة واستبانت النظرية السياسية الإسلامية بكتاب الماوردي (الأحكام السلطانية)، وكتاب (سراج الملوك) لأبي بكر الطرطوشي، ثم كتاب (المنهج المسلوك في سياسة الملوك لعبد الرحمن الشيزري)، وكتاب شيخ الإسلام ابن تيمة (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية)، ثم تكون مقدمة ابن خلدون قمة التطور الكتابي في هذا الموضوع. وكانت الميزة الإسلامية في هذه النظرية أنها مستمدة من كتاب الله وتهدف للإصلاح ابتغاء رضوانه فلا أثر فيها لما يمكن أن يوجد عند ميكيافيللي حيث الغاية تبرر الوسيلة.

وأفرد المؤلف مبحثا عن “الفتن السياسية من المنظور الحضاري”، وكيف كان التعامل الإسلامي معها إسهاما حضاريا جديدا، فلقد كان الهدف الذي تتوجه له الأنظار –كما يرى- هو الواقعية لتحقيق حماية الأمة ووحدتها واجتماعها، ولهذا كان النهي عن الخوض في الفتن، وإقرار ولاية المتغلب وإن لم يكن الأفضل من بين المسلمين، وأفرد مبحثا عن مبدأ الشورى في الإسلام من حيث هي أصل “من الأصول الأولى للنظام السياسي الإسلامي”، ولقد كانت إسهاما إسلاميا ظهر في وقت لم تعرف فيه البشرية سوى الديكتاتوريات الملكية.

وكان الفصل الثاني عن إسهامات الحضارة الإسلامية في مؤسسة الوزارة، فاستعرض مكانة المؤسسة في النظام السياسي للحضارة الإسلامية، وكيف أن النظرية السياسية الإسلامية أولت تلك المؤسسة عناية ومكانة ووضعت لها الشروط والواجبات بل وما نسميه الآن البروتوكول.

وتحدث الفصل الثالث عن مؤسسة الدواوين، فأفرد مباحث لديوان الرسائل والإنشاء (وهو الآن خليط من منصب المتحدث الرسمي ووزارة الخارجية وكذلك شيئا من وزارة الإعلام)، وديون الجند والعطاء، وديوان الاوقاف، وديوان البريد والاتصالات، وديوان بيت المال، والشرطة، والحسبة، والجيش. متحدثا عن الإسهامات الإسلامية في تنظيم وترتيب هذه المؤسسات.

ثم جاء الفصل الرابع عن مؤسسة القضاء، بدأه بمبحث عن قيمة مبدأ العدل في المنظومة الإسلامية، ثم تحدث عن الوسائل التي ابتكرتها الحضارة الإسلامية لكفالة العدل، وكيف سار تطور المؤسسة القضائية الإسلامية، وتحدث عن معايير اختبار القضاة واختيارهم، وتحدد مهماتهم، ولربما يدهش القارئ حين يعلم أن ظهور القضاء المتخصص كان من الإسهامات الإسلامية، فمنذ بواكير الخلافة العباسية ظهر القضاء العسكري المختص بقضايا الجند والعسكر، وفي الإسلام ظهرت المحاكم الخاصة بأهل الذمة، وتحدث العلماء عن “القضاء المستعجل” حين رتبوا أولوية الفصل في قضايا المسافرين، وتحقق في الحضارة الإسلامية كذلك مبدأ الرقابة على القضاء منعا لاستغلال أحد القضاة نفوذه بالباطل، وخُتِم هذا الفصل بالحديث عن مبدأ خضوع الخلفاء والأمراء لسلطة القضاء، فلا أحد فوق القانون، وحكم القاضي كان نافذا على الجميع، ثم تحدث عن ديوان المظالم (مايشبه الآن القضاء الإداري أو مجلس الدولة) كيف نشأ وتطور في ظل الحضارة الإسلامية.

وفي الفصل الخامس، جاء استعراض المؤسسة الصحية من خلال مبحثين: الأول تحدث عن المستشفيات كيف كانت في الحضارة الإسلامية مؤسسة متكاملة توفر للمريض الحد الأقصى من أسباب العناية والرعاية منذ اختيار موقع بنائها وحتى ممارسة العلاج بالدعم النفسي، والثاني: يتحدث بشكل عام عن المبدأ الإسلامي الإنساني في أمر المرض والمرضى.

واختتم المؤلف هذا الباب الضخم الذي استغرق منه قرابة المائة والخمسين صفحة بالحديث عن الخانات والفنادق التي انتشرت في أرجاء الحضارة الإسلامية وتطورت، وشكلت الحل العصري للمجتمع الذي كثر فيه المسافرون بين الأقطار من التجار وطلبة العلم، وهو أيضا مبحث ربما دهش له القارئ الذي سيكتشف أن الفنادق هي –بهذا المستوى الذي وصلت إليه- إسهام إسلامي في مسيرة الحضارة الإنسانية.

***

وفي الباب السابع يكون القارئ مع رحلة ممتعة في باب يتحدث عن الجمال في الحضارة الإسلامية، الجمال فقط، وعبر سبعة فصول يحاول المؤلف لمَّ جوانب الجمال الذي زخرت به حضارة الإسلام، ففصل عن الفنون الإسلامية يتحدث عن فن العمارة الإسلامية، وفن الزخرفة، وفن الخط العربي. ثم فصل يتحدث عن جمال الآلات والمصنوعات وكيف اهتم المسلمون يتجميل مخترعاتهم العلمية كذلك (في هذا المبحث سنعلم أن المسلمين أول من اخترعوا الساعات ذاتية الحركة، والإنسان الآلي، بل وحامل مصحف إليكتروني)، وكيف شملت الزينة كل الآلات والمصنوعات والمواد التي وجدت في البيئة الإسلامية حتى تم تزيين كل شئ من القصور وحتى الدبابيس ومفاتيح الأبواب. ثم فصل عن جماليات البيئة ناقش كيف أن القرآن والسنة كانا المؤثر الأول والأعظم في تشكيل الحس الجمالي لدى المسلمين من خلال صورة الجنة حتى حاولوا إقامتها أو إقامة أشباهها على الأرض، فتحدث عن الحدائق الإسلامية التي تبهر أوصافُ المؤرخين لها القارئَ بعد كل تلك السنين، وكيف انتشرت على طول الإمبراطورية الإسلامية من الأندلس شرقا وحتى الهند غربا مرورا بالمغرب ومصر والشام والاناضول والعراق وفارس، وتحدث في مبحث خاص عن النافورات التي انتشرت في الحدائق والمساجد والبيوت وكانت حلا معماريا لمشكلات البيئة الحارة، كما كانت تُحفا فنية بديعة، وأحيانا كانت اختراعا علميا كنافورة الأسود في قصر الحمراء التي كانت أيضا ساعة تعين الوقت وتنبه للساعات من خلال خروج الماء من أفواه الأسود.

وأفرد المؤلف فصلا عن اهتمام الإسلام بالجمال الظاهري من حيث النظافة والعناية بالجسد والملبس والمسكن والشارع والمدينة، والعناية بدقائق الذوق مثل خفض الصوت والاستئذان في الزيارة وفي الجلوس، وفي مداعبة الزوجة، واهتمامه كذلك بالجمال المعنوي، ووصيته بالتبسم وطلاقة الوجه، وحرصه على سلامة الصدر وشيوع الحب لكل الناس، وعنايته برسوخ حسن الخلق، وبدقائق ذوقية معنوية أيضا.

وتحدث الفصل السادس عن جمال الألقاب التي اتخذها الخلفاء والوزراء والقادة أمثال (نور الدين والمسترشد بالله) بل جمال الكتب التي ألفت في الفقه والعقيدة والجدل والتفسير، أمثال (كنز الدرر وجامع الغرر) أو (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان)، وختم الباب بفصل عن مدينة قرطبة وما تمتعت به من جمال ورقي.

***

وينتهي الكتاب بالباب الثامن، وفيه يتناول المؤلف أثر الحضارة الإسلامية في الحضارة الأوروبية المعاصرة، فيستعرض معابر الحضارة الإسلامية إلى الغرب من خلال الأندلس، وجزيرة صقلية التي عاشت قرنين من الزمان تحت الحكم الإسلامي، وكذلك من خلال الحروب الصليبية حيث تم الاحتكاك الكبير بين الصليبيين وعالم الإسلام.

ويتحدث عن مظاهر تأثر الحضارة الغربية بالحضارة الإسلامية في ميادين العقيدة والتشريع، العلوم، اللغة والأدب، التربية والمعاملات، ومجال الفنون. ثم يختم الباب بذكر مجموعة من شهادات علماء الغرب ومفكريه للحضارة الإسلامية دورها وأثرها، فيذكر شهادات المؤرخ الأمريكي دانييل بريفولت، وعميدة المستشرقين الألمان في وقتها زيجريد هونكه، والمؤرخ الشهير ول ديورانت، ورونالد هيل، وجوستاف لوبون، والزعيم الهندي نهرو، ولويس سيديو، وكارا دي فو، وغيرهم وغيرهم. في أجمل خاتمة تستطيع أن تقضي على ما قد يكون تبقى من شك في نفس قارئ الكتاب الذي سيدهش إلى درجة الصدمة حتما إن لم يكن من قبل ذا علم بالحضارة الإسلامية وعظمتها وتأثيرها.

***

إن هذا الكتاب يقترب من أن يكون موسوعة ولا أروع في الحضارة الإسلامية، وسيكون موسوعة ضافية إذا توفر على أبوابه وفصوله من يتوسع فيه –وهو المكتنز بالنصوص- بالشرح والتحليل، وإضافة تعليقات العلماء والفقهاء والإكثار من الأمثلة التاريخية لعصور الحضارة الإسلامية.

ومن الصعوبة الحقيقية إعداد عرض يمثل الخلاصة لمثل هذا الكتاب، الذي تشعر أن مؤلفه كان يسابق الصفحات واللحظات ويحاول كالمحارب التقاط جوانب المواضيع الكثيرة والمتشعبة، فيوجزها في أقصى ما يمكن إيجازه، فلربما جاءت أبواب الكتاب كأنما تحشر المعلومات حشرا تريد أن تجمع البحر في قدح أو الريح في زجاجة.

ولكن لا يسع المرء إلا أن يلح بكل قوة على القارئ الكريم أن يقتنيه ويقرأه بعين العناية، ليؤمن حقا أن المسلمين هم (خير أمة أخرجت للناس).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق