الاثنين، أبريل 08، 2024

لماذا سميت سورة البقرة بهذا الاسم؟

 

من أعجب ما يأخذ النظر والفكر أن تُسَمَّى سورة البقرة بهذا الاسم!

ذلك أن هذه السورة هي أطول سور القرآن الكريم، تشغل ما يقرب الجزئين ونصف الجزء من الثلاثين جزءا التي هي كل القرآن الكريم، ثم هي حافلة بآيات القصص والأخبار، وحافلة بآيات الأحكام والشرائع، وحافلة بآيات الوعظ والترغيب والترهيب..

فلماذا من بين كل هذا المشهد الحافل، سُمِّيت باسم: البقرة؟

 

(1)

خلاصة قصة البقرة المذكورة في السورة الكريمة أن رجلا من بني إسرائيل قتل آخر، فأصبحوا وقد عرفوا القتيل وجهلوا قاتله، فذهبوا إلى نبيهم وزعيمهم موسى –عليه السلام- ليسأل الله أن يدلهم عليه، ثم عاد موسى يقول لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.

فاستغربوا الطلب وقالوا: أتتخذنا هزوا؟!

قال موسى: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين (أي: المستهزئين)، والمعنى: أن هذا أمرٌ من الله لهم، والله مطلع عليهم وعالِمٌ بأنهم الآن ينشغلون بأمر القاتل.

فلما ظهر لهم أن هذا أمرٌ من الله أبلغهم به رسوله، طفقوا يسألون عن البقرة!

قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي؟

فسأل موسى ربه ثم عاد إليهم يقول: إنه يقول إنها بقرة لا فارضٌ ولا بكر، أي: لا هي مُسِنَّة ولا هي صغيرة، وإنما وسط بين ذلك. فافعلوا ما تُؤْمَرون.

فعادوا يقولون ويسألون: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها؟

فعاد إليهم موسى يخبرهم قول ربهم: إنها بقرة صفراء، بل شديدة الصفار (فاقعٌ لونها)، وفوق لونها الأصفر فهي حسنة الشكل (تسُرُّ الناظرين).

ومع هذا فقد عادوا يسألون مرة أخرى سؤال الذي يتحير لكثرة ما عنده من الاختيارات: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي، إن البقر تشابه علينا. فكانوا هذه المرة يسألون: هل هي سائمة أم عاملة؟

فجاءهم الجواب من ربهم على لسان موسى عليه السلام: إنها بقرة لا عاملة، فهي لا تثير الأرض، ولا تسقي الحرث، وهي خالية من العيوب، وخالية من أي لون غير الأصفر.

وقد وردت تفاصيل كثيرة في كتب التفسير تصف بحثهم عن هذه البقرة، نتجاوزها الآن اختصارا، إلا أنهم وجدوها في النهاية، وغالى صاحبها في ثمنها كثيرا، فاشتروها وذبحوها!

فأمرهم الله تعالى أن يضربوا هذا القتيل بجزء منها، قيل: بلسانها أو بذيلها، فلما ضربوه، قام من موته فقال: قتلني فلان وفلان.

فكان هذا درسا عمليا لبني إسرائيل على قدرة الله تعالى وإحيائه الموتى.

هذه خلاصة القصة، ولمن شاء التوسع، فعليه بكتب التفسير.. ولكن السؤال الذي يهمنا الآن: لماذا سُمِّيت هذه السورة الطويلة الحافلة باسم البقرة، البقرة التي هي بطل هذه القصة؟!

 

(2)

من قرأ سورة البقرة وأطال النظر فيها، وجد أنها رغم هذا الطول والتنوع والاحتشاد بالآيات تكاد تكون على قسميْن؛ القسم الأول: أخبار بني إسرائيل. والقسم الثاني: تشريعات إسلامية! وأما ما قبل هذين القسمين أو ما بعدها فآيات قليلة للغاية.

فأما القسم الأول، وهو أخبار بني إسرائيل، فهو يذكر إعراضهم عن رسالة نبينا محمد ﷺ، ويعيد تذكيرهم بما كان منهم في حق موسى عليه السلام من إتعابه وإرهاقه، ومن استعصائهم عليه، واتخاذهم العجل بعد أن نجاهم الله من فرعون، وقائمة طويلة طويلة من عصيانهم واتباعهم الباطل، وصلت إلى حد القول الصريح {سمعنا وعصينا}، وهو القسم الذي يستمر حتى مطلع الجزء الثاني.

وأما القسم الثاني، وهو التشريعات، فآيات كثيرة في تحويل القبلة والحج والمباح من الطعام والمعاملات وأحكام في الصيام والوصية والزواج والطلاق والخلع والخمر والجهاد والحج والنفقة والربا والدَّيْن والرهن، تستمر من مطلع الجزء الثاني حتى نهاية السورة.

ويتداخل القسمان بطريقة القرآن العجيبة التي لا تشعر معها بالانتقال من خلال قصة تحويل القبلة، فلقد كان هذا الحدث هو الباب الذي انتهت إليه وخُتِمت به أباطيل بني إسرائيل وأساليبهم في الصد عن دعوة الإسلام، وكان هو نفسه الباب الذي ابتدأ به الحديث عن الأحكام الخاصة بأمة المسلمين.

فإن القارئ يدخل إلى قصة تحويل القبلة وهو يظن نفسه ما يزال في أخبار بني إسرائيل وأساليبهم في التكذيب والنكران، فما يخرج منها إلا وقد ابتدأ في رحلة تلقي الأحكام.

ولقد بدا هذان القسمان واضحيْن لكثير من العلماء الذين تناولوا سورة البقرة، ودارت عبارتهم حول معنى الربط بين هذيْن القسميْن، وكيف أن هذه السورة:

1.    قد قُسِمَتْ بين أمة الدعوة (بني إسرائيل) وأمة الإجابة (أمة الإسلام).

2.    وأنها سورة نزع الخلافة من بني إسرائيل (وهذا قسمها الأول) وتكليف المسلمين بها (وهذا قسمها الثاني).

3.    وأنها سورة بناء المجتمع المسلم على نحو النهي والأمر: النهي عن أن يكونوا مثل بني إسرائيل، والأمر بإطاعة ما نزل إليهم من التشريعات[1].

وبهذا التوضيح لموضوع سورة البقرة نكون قد اقتربنا خطوة مما نريد فهمه، وهو: لماذا من بين سائر هذه المواضيع سُمِّيت السورة على وجه التحديد باسم: البقرة؟

 

(3)

سورة البقرة هي أول سورة نزلت بالمدينة، واستمر نزولها طوال الفترة المدنية، فهي التي رافقت الجماعة المسلمة الأولى وهم يعايشون اليهود، وأخذت في تشييد بنائهم التشريعي حتى آخره، حيث نزل تحريم الربا في آخر الفترة المدنية، وفي نهاية الآيات التي نزلت تحرم الربا نزلت آخر آية من القرآن الكريم وهي قوله تعالى {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].

وقد سمعت من بعض مشايخنا أن الجزء الأول من هذه السورة إنما هو بيان لأعداء الأمة الإسلامية، فهو التنبيه الرباني لعباده على الفئات التي ستنابذهم العداء وستقف في طريقهم.

ولهذا، فبعد مقدمة قصيرة للغاية عن صفات المؤمنين، تأخذ الآيات في وصف الأعداء الأربعة على هذا الترتيب: الكافرون، المنافقون، الشيطان، اليهود.

ومن العجيب المثير للتأمل أن يكون الوصف على هذا النحو:

1.    تكون البداية بالكافرين، وكان نصيبهم آيتيْن فحسب {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6، 7].

2.    ثم يأتي الحديث عن المنافقين، فإذا به يستغرق اثني عشرة آية!

3.    ثم يأتي الحديث عن الشيطان الذي أغوى أبينا آدم وأزله عن الجنة فتستغرق القصة كلها تسع آيات!

4.    ثم يأتي الحديث عن اليهود فيستغرق أكثر من مائة آية!!

فكأن الخطر الذي يمثله اليهود على أمة الإسلام ودعوته أشد من خطر بقية الأعداء الثلاثة: الكفار والمنافقين والشيطان!

 

(4)

والآن، إذا حاولنا أن نربط كل هذا الكلام بعضه ببعض، لوجدنا أن قصة البقرة هي القصة الجامعة لكل موضوع سورة البقرة، فكأنها قلبُ السورة، إذ نرى أن المعاني الكامنة فيها هي المعاني التي تنتشر في بقية السورة، كأنما هي قلب تنبعث منه الشرايين والأوردة! فما من معنى في هذه السورة الطويلة الحاشدة إلا وهو كامن في قصة البقرة!

وتعال تأمل معي:

إن في قصة البقرة تحذير من الله ونهي لعباده المسلمين أن يجادلوا في الأحكام النازلة إليهم كما فعل بنو إسرائيل في الأمر الذي جاءهم مع أن فيه مصلحتهم وفيه كشف سر القاتل الذي يبحثون عنه.. فهذه القصة هي أنسب القصص التي يجب أن يفهمها قومٌ يُعدّهم الله تعالى للرسالة الخاتمة، ويتهيؤون لكثير من الأحكام التي ستنزل عليهم.

فهذه السورة الحافلة بالأحكام والتشريعات في قسمها الثاني تناسب قوما يقولون: سمعنا وأطعنا.. قوما يعرفون أنه لا ينبغي لهم أن يجادلوا في أحكام الله وأوامره ونواهيه كما فعل أصحاب البقرة.. قوما يعرفون أن جدالهم وكثرة سؤالهم يشدد الأمر عليهم ويزيده عسرا، وقد قال رسول الله ﷺ: "لو ذبحوا أي بقرة كانت لأجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم". فمن بعد ما كان المطلوب ذبح بقرة، أي بقرة، ظلوا يسألون ويتمحكون حتى صار المطلوب منهم ذبح بقرة لا مسنة ولا صغيرة، صفراء فاقعة اللون، حسنة المنظر، لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث، لا عيب فيها ولا يشوب لونها شائبة!!

وفي قصة البقرة تنبيه للمسلمين إلى هذه الطباع الخبيثة لبني إسرائيل، وما تنطوي عليه قلوبهم من عصيان الله وإرهاق نبيهم، ولقد سمعت بعض مشايخنا يقول: تأملوا، كيف يفاوض هؤلاء القوم؟!! إنهم يفاوضون في بقرة! ويفاوضون ربهم في علاه! ووسيط التفاوض نبيهم الذي خلصهم وأنقذهم من العذاب: موسى! ويفاوضون على أمر نزل إليهم فيه مصلحتهم!.. فتأمل كيف يمكن أن يفعلوا مع غيرهم من البشر، فيما هو أجل من البقرة، مع وسيط تفاوض لا يبلغ شسع نعل موسى عليه السلام؟!

وهذا الفهم لنفسية اليهود هو ضروري لقومٍ سيحملون الرسالة الخاتمة، ويتحملون عبء الدعوة.. ضروري من جهتيْن على الأقل:

1.    من جهة أن يتجنبوا هذه الطباع ويحاربونها في أنفسهم فيعظمون ربهم ولا يرهقون نبيهم ولا يتكلفون في الدين ولا يسألون عما لم يُبْد لهم، فبذلك يبقى فيهم شرف الرسالة فلا ينزع منهم كما نُزِع من بني إسرائيل.

2.    ومن جهة أن يعرفوا عدوهم وطباعه وطرائقه في التمحل والتكلف والمناورة، فيتأهبون لذلك.

وإن في قصة البقرة معجزةٌ تؤكد أصل الإيمان الكبير: وهو الإيمان بالبعث واليوم الآخر، وذلك حين أحيا الله القتيل أمام أعينهم، فنطق وتكلم بمن قتله، ثم عاد إلى موته. وقد أحياه الله لهذه الغاية، {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73].

والإيمان باليوم الآخر، والحياة بعد الموت، هو الأصل الذي فرَّق بين المؤمنين والكافرين، فإن كثيرا من الكافرين يؤمنون بوجود الله، ويؤمنون بأنه خلق السموات والأرض، بل وبأنه خلق الناس.. فما كان أهل قريش يكفرون بوجود الله، ولكنهم لا يريدون الإيمان باليوم الآخر.

والسر في أن الكفار ينكرون اليوم الآخر ويرفضونه، ليس أنه متعذر عقلا، فإن الخلق من العدم، والإنشاء من النطفة، أصعب بكثير من الإحياء بعد الموت.. ولكن سر إنكار اليوم الآخر في الحقيقة هو الرغبة في الحياة بلا تكاليف ولا تشريعات ولا مرجعية.. فاليوم الآخر هو يوم الحساب، وهو يوم الجزاء، وهو يوم الثواب والعقاب.. فمن آمن به، وجد نفسه مضطرا من فوره إلى معرفة ربه، ومعرفة ما يأمر به وما ينهى عنه، ووجد نفسه مضطرا إلى الطاعة والتسليم والاتباع!

فمن أراد الحياة وفق هواه وشهواته ومصالحه ومطامعه، كان أشد شيء يزعجه ويؤرقه وينغص عليه نفسه هو: الإيمان باليوم الآخر.

إن أكثر الكفار مستعدين للإيمان بإله لا أثر له في الحياة، لا أوامر له، لا نواهي له، لن يثيب ولن يعاقب ولن يجازي، ولن يبحث عن أحد أطاعه أو عن أحد عصاه، والموت نهاية كل حي.. إن مجرد الإيمان بوجود الإله أمر يتقبله الكفار ويتعايشون معه بلا مشكلات!

لكن الصراع الضخم الكبير الذي يملأ هذه الحياة هو الصراع حول الإله الذي له تعاليم وتكاليف، الصراع حول الإله الذي سيبعث الناس بعد الموت فيجازيهم؛ فيثيب الطائع ويعاقب العاصي.. هنا يصطدم الحق بالباطل في هذه الحياة وعلى هذه الأرض، وهنا تكون المعركة العظمى: لمن السيادة والمرجعية؟ من الذي يملك أن يقول: هذا حق وهذا باطل؟ من الذي له حق السمع والطاعة؟ ما الذي نفعله وما الذي نتجنبه؟

كل هذه المعركة خلاصتها تكمن في هذه الجملة الواحدة: الإيمان باليوم الآخر.. وأكثر الذين لا يؤمنون بالله، إنما هم في حقيقتهم وأعماق فكرهم لا يؤمنون به فرارا من الإيمان باليوم الآخر.

لقد افترق المؤمنون والكفار حول الإيمان باليوم الآخر مطلقا.. آمن به المؤمنون، وكفر به الكافرون.

وافترق المؤمنون وأهل الكتاب حول الإيمان باليوم الآخر أيضا، ولكن على جهة التفصيل، فقد زعم اليهود أنهم إن عوقبوا فلن يعاقبوا بالنار إلا أياما معدودة {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80]، فلهذا استخفوا بالدين وبالتعاليم وبالشرائع، وكتبوا الكتاب بأيديهم وقالوا: هذا من عند الله، وارتكبوا قائمة طويلة من الجرائم.

ولهذا كان على المؤمنين أن يؤمنوا باليوم الآخر على هذا النحو: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81، 82]، وذلك أنهم يتهيؤون لتلقي التعاليم والتشريعات الكثيرة التي لا بد لهم من تنفيذها كما أنزلها الله إليهم، فليس بين الله وبين أحد نسب ولا صلة ولا قربى ولا محاباة!

 

(5)

من أجل هذا، كان لا بد للمؤمنين حملة الرسالة الخاتمة من الانتباه الدائم إلى هذه القصة، قصة البقرة، القصة التي جمعت سائر أقطار هذه السورة الطويلة الحافلة، القصة التي نبهتهم إلى عدوهم الخطير، وأخبرتهم بتاريخ الأمة التي نُزِع منها شرف الرسالة، وأعدتهم لطريقة التعامل مع التشريعات النازلة إليهم.

نسأل الله تعالى أن يفقهنا وإياكم في كتابه وسننه.

نشر في مجلة "أنصار النبي"، إبريل 2024



[1] للتوسع في بيان سورة البقرة وموضوعها واجتهاد العلماء والمفسرين فيه، ينظر: تفسير المنار لرشيد رضا، وفي ظلال القرآن لسيد قطب، وتفسير القرآن الكريم لمحمود شلتوت، والنبأ العظيم لمحمد عبد الله دراز، ودراسات قرآنية لمحمد قطب.

الأحد، مارس 03، 2024

في ذكرى تغيير القبلة، أو تغيير النظام العالمي

 

ما من لحظة يظهر فيها فساد النظام العالمي وزيف مؤسساته وشعاراته كهذه اللحظة، إن حرب غزة من اللحظات الفاصلة التي نرى فيها حقيقة هذه الخرافات الدولية!

هل لم يكن هذا واضحا قبل ذلك؟ نعم، قد كان واضحا للقلة، أما الآن فهو واضح للكثرة، إن ارتباط القضية بالمقدسات الدينية، وتاريخها الحي الذي عجزوا عن إخماده وكتمه، وكون إسرائيل الطفل المدلل للسياسة الغربية، وحجم الإجرام المكثف، وأمور أخرى.. سائر هذا جعل الأمر أكثر انكشافا، وأخزى مشهدا، وأكثر نكيرا.

نعم، ذلك النظام العالمي الذي كان يتزين ويتجمل بمؤسساته الضخمة وبزعمه المبادئ والحريات والدفاع عن الشعوب، يتساقط كلما رفع واحدٌ من الخمسة يده بحق الفيتو. مهما قيل من الكلام، فإن هذه اللحظة تكون لحظة التعري والفضيحة التي تثبت أن هذا النظام العالمي إنما وُجِد لخدمة هؤلاء الخمسة.. أو بمعنى أصح وأدق: وُجِد لتعبيد الناس لهذه القوى الخمسة!

***

نكتب هذا الكلام في لحظة ذكرى تحويل الكعبة من بيت المقدس إلى مكة المكرمة.. مما لا ينتبه له كثيرون أنها كانت لحظة تحول في النظام العالمي أيضا.

ولقد جاءت هذه البشرى بتحول النظام العالمي في كتب أهل الكتاب، قبل أن ترد في القرآن الكريم، وقبل أن تكون واقعا في حياة نبينا الكريم ﷺ، فقد ورد في سفر حجي 2/ 7 – 10: "وأزلزل كل الأمم ويأتي (مشتهى) كل الأمم فأملأ هذا البيت مجدا، قال رب الجنود. 8 لي الفضة ولي الذهب يقول رب الجنود. 9 مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول قال رب الجنود وفي هذا المكان أعطي (السلام) يقول رب الجنود".

وقد ذكر البروفيسور عبد الأحد داود، أستاذ اللاهوت والخبير في الكتاب المقدس، وهو ممن أسلم بعد طول تفكير ودراسة وحوار، أن هذه الترجمة غير دقيقة، وأن الأصحّ من لفظِ (مشتهى) لفظُ (محمد). وأن الأصحّ من لفظ (السلام) لفظُ (الإسلام).. ويمكن لمن شاء الرجوع إلى كتابه: محمد كما ورد في الكتاب المقدس.

لكن المقصود هنا، وهو الذي يعنينا في هذا المقال، هو النص الوارد في العبارة التاسعة، وهي "مجدُ هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول"، ففي هذا النص بشارة صريحة بأن الله سيسبغ المجد على البيت الحرام حتى يكون أعظم من بيت المقدس. فمن بعد ما كانت أنبياء الله ورسالاته في بيت المقدس، وهناك أمة عباده، سيذهب هذا كله إلى البيت الحرام، البيت الأخير، ليكون فيه رسوله الخاتم، والأمة الشاهدة، والمجد العظيم.

ولذلك ذكر الله تعالى أن أهل الكتاب يعرفون هذا الانتقال، فقد قال تعالى في سياق الحديث عن تحويل القبلة: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144].

وذكر تعالى أنه سيعظم عليهم اتباع الحق مهما كانت الأدلة والبينات والحجج والبراهين، فقال تعالى {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145].

وأي دليل وأي برهان أعظم من رسول يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وحقٍّ لم يجدوا وسيلة لدفعه إلا كتمه {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146].

***

إن قراءة الآيات التي نزلت في شأن تحويل القبلة ضمن هذا المعنى، معنى تغيير النظام العالمي، وانتقاله من الأمة الفاسدة التي تاجرت بالدين وبالمبادئ وقتلت الرسل والمصلحين، إلى الأمة الجديدة التي تقيم الحق ولو على أبنائها، وتشهد به ولو على نفسها.. إن قراءة الآيات في ضوء هذا المعنى يمنح المسلم شعورا جارفا وأصيلا وغالبا بمهمته في هذه الحياة.

لقد بدأت الآيات ببيان الفساد الذي عمَّ أمة بني إسرائيل وتجذر فيها. لقد اتبعوا أهواءهم مهما علموا أنها باطل! ومع أن في أهل الأهواء من يوقرون أهل الحق ويحترمونهم، إلا أن هؤلاء بلغ من سطوة الهوى عليهم أنهم لا يرضون ولا يعترفون إلا         لو اتبع الناس أهواءهم {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].

لقد نسوا نعم الله عليهم وما فضَّلهم به على العالمين {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 122].

ولهذا شرعوا في تحريف الدين وتزوير التاريخ وإنكار الحقائق وكتم الشهادة، ومن ها هنا فقد مَهَّد الله لتكليف تحويل القبلة بذكر قصة إبراهيم وإسماعيل، وبنائهما البيت الحرام، وبذكر وصية يعقوب لأبنائه، وعهدهم له بعبادة الله الواحد، كما تقرؤه في الربع الأخير من الجزء الأول في القرآن الكريم.

وقبلها مضت الآيات في رُبْعَيْن تذكر ما صنعه هؤلاء من التحريف في دين الله الذي اؤتمنوا عليه، لقد كان دينهم الذي يبثونه بين الناس على هذا النحو:

{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111]

{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة: 116]

{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135].

ومن ها هنا نفهم كيف امتلؤوا غيظا وحقدا على قوم يناهضون هذه الأفكار، ويهددون هذا النظام، وكيف سلَّطوا عليهم كافة ما بأيديهم ليفتنوهم:

{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114]

***

وها هنا تأتي مهمة المسلمين في إظهار الدين، وإحقاق الحق، ونشر الحقائق، وإقامة الشهادة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].

وهذه المهمة لا بد لها من أمور:

1. لا بد لها من قوة إيمانية تحمل صاحبها على اتباع النبي اتباعا لا يعرف التردد ولا التلعثم {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143]

2. ولا بد لها من ثقة وقوة تحمل صاحبها على أن يخشى الله وحده، لا يخشى أحدًا غيره {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 150].

3. ولا بد لها من صلابة نفسية وإرادة فولاذية وبناء روحي متين {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

4. ولا بد بعد هذا كله من جهاد مرير، ومحن وفتن، وخوف وجوع، وآلام وأشواك.. فما من نظام صالح يقوم بلا جهاد، وما من باطل يسقط من عليائه بسهولة، بل إن الحق الصاعد ينحت في صخر العنت ويأكل من جمر الرهق، وكذلك الباطل العالي يلقي بحممه وبراكينه، وأدرانه وأوساخه، وأقذاره وأوضاره، وهكذا يمهد عباد الله طريق الحق بدمائهم وأوراحهم، ويهلكون في ذات الله وفي سبيل الحق قبل أن يبلغوا الغاية {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 154 - 157].

***

ما أقرب الشبه بين أهل الباطل..

هل يا ترى نحتاج أدلة على إنكار الحق وإنكار الحقائق وكتم الشهادة وتزوير التاريخ وغض الطرف عن الجرائم أكثر مما نراه اليوم؟!

مؤسسات ضخمة للدفاع عن الحقوق والحريات، مؤسسات متخصصة في حقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق الأقليات وحقوق الحيوان وحقوق البيئة وحتى حقوق الحجارة القديمة: التراث والآثار.. ومؤسسات للصحة، ومؤسسات للعدل، وقوانين دولية، ومجلس للأمن... إلخ! ووراء الجميع صحافة وإعلام يزهو بما هو فيه من: الحرية والموضوعية والنزاهة والأمانة!!

فإذا أردنا أن نختصر مهمة الجميع فلن نجد خيرا من قوله تعالى {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، فإذا اتبعت ملَّتَهم وكنت أوكرانيًّا –مثلا- فقد انهالت على من يقصدك: العقوبات والتضييقات، وانهمرت عليه التقارير والإدانات والأحكام السريعة من محكمة العدل ومن مجلس الأمن ومن الشركات الكبرى.. فإن لم تكن من ملتهم، فتأمل في حال أهل غزة تعرف الجواب!

إن آخر ما قد تعطيك إياه هذه المؤسسات أن تعدّ أرقام القتلى والجرحى، وربما بعد انتهاء المذبحة تقيم عليك سرادق العزاء، على نحو ما قال علي عزت بيجوفيتش في كلمته العبقرية: "كانت أوروبا على أتم استعداد لأن تقيم مأتما لإحياء ذكرى البوسنيين بعد إبادتهم".

وهذا السرادق نفسه لا يُقام لإحقاق الحق ولا للاستفادة من التاريخ كي لا تتكرر الإبادة، بل يُقام ليكون زينة وزخرفا يتجمل به القاتل السفاح، ليواصل جولته القادمة من جديد، بعد أن يكون قد غرر ببعض المغفلين والبلهاء!

***

وما أقرب الشبه بين أهل الحق..

لا بد لهم من جهاد عظيم، جهاد حافل بالصبر، جهاد لا يقوم به ولا يصبر عليه إلا من آمن حقا بالله، وآمن بمحمد رسول الله..

جهاد لشبهات الذين كفروا، ولتشكيكهم، ولتشغيبهم.. جهادٌ لا بد فيه من علم وتقوى وحكمة، {أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151].

جهاد ينبعث من نفس موصولة بالله {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].

جهاد يستعين على مشقات الطريق بالتصبر والعبادة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

جهاد يهلك فيه الرواد حتى يقال: مات! فلا يصبر عليه إلا من آمن بأنهم: {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154].

جهاد فيه أنواع المشقات من الخوف والجوع والفقر والقتل!!

فهؤلاء هم الذين يغيرون العالم، يقيمون الحق ويُسقطون الباطل، أناس ليسوا من هذه الدنيا، شعارهم قول جدهم القديم: "الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".

على هؤلاء يُبنى المجد، أو قل: على يد هؤلاء يعود المجد، مجد البيت الأخير..

{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]

 نشر في مجلة "أنصار النبي"، مارس 2024

الأحد، فبراير 04، 2024

ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين

 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..

إليكم يا أهل غزة، وإلى سائر المسلمين في المحنة والشدة، أكتب هذه الأسطر، أذكر بها نفسي وإياكم بحقيقة ما نحن فيه..

 

(1) الصبر صفة الأنبياء والأصفياء

لقد امتحن أحب العباد إليه بالبلايا والرزايا، فأحب الناس إلى الله هم الأنبياء، ومع ذلك فهم أكثر الناس بلاء..

دخل أبو سعيد الخدري على النبي ﷺ في مرضه، وقد اشتدت عليه الحرارة، فكان النبي يضع على رأسه قطيفة، فوضع أبو سعيد يده، فشعر بالحرارة من فوق القطيفة، فقال: ما أشدَّ حُمَّاك يا رسول الله. فقال ﷺ: "إنا معشر الأنبياء، يُزاد لنا في البلاء، ويضاعف لنا في الأجر".

وسُئل ﷺ: من أشد الناس بلاء؟ فقال: الأنبياء ثم الصالحون، وقد كان أحدهم يُبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها (أي: يقطعها) فيلبسها! ويُبْتَلى بالقُمَّل حتى يقتله، ولأحدهم أشد فرحا بالبلاء منكم بالعطاء.

وفي رواية: "يُبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة، زِيد في بلائه، وإن كان في دينه رِقّة خُفِّف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة".

وقد أخبرنا الله تعالى بأن الناس جميعا خاسرون، إلا صنفا واحدا فقط، أولئك هم {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3].

وأخبرنا تعالى أنه يحاسب الناس بالميزان العدل، لكل عمل أجر، إلا صنفا واحدا من الناس، فهؤلاء لا عدَّ لثوابهم، فقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

وأرسل الله بشري ثلاثية مع نبيه ﷺ لعباده الصابرين، فوعدهم بالصلوات الربانية وبالرحمة وبالهداية، قال تعالى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157].

وأما الذين صبروا على فراق أبنائهم وإخوانهم وأحبابهم من المجاهدين، فقد زادهم الله من البشرى فوق بشرى الصلوات الإلهية والرحمة والهداية، بأن أخبرهم أن شهداءهم ليسوا أمواتا، بل أحياء، قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154]. وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 169، 170].

وقد خصَّ الله الصابرين في الجهاد بأنه معهم، ذكر ذلك في كتابه أربع مرات:

1.    فقال تعالى في سياق القتال في سبيل الله وتكاليفه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]

2.    وقال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]

3.    وقال تعالى في سياق حديثه عن المجاهدين من أهل بدر: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]

4.    وقال تعالى للمجاهدين: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66].

وهكذا ترون أن أحب الناس إلى الله هم أشدهم بلاء، ليكونوا أكثر الناس أجرا وثوابا، وما هذه الدنيا العريضة الواسعة إلا أيام، وما آلامها وأوجاعها إلا ساعات، وقد قرَّبها لنا رسول الله ﷺ فقال: "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع"!!

وأخبرنا نبينا ﷺ أن أكثر الناس بؤسا وشقاء في الدنيا، إذا غُمِس في الجنة غمسة واحدة ظنَّ أنه لم ير شقاء قط! وأن أنعم أهل الدنيا إذا غُمِس في النار غمسة ظنَّ أنه لم ير نعيما قط!!

ولما فهم أسلافنا الصالحون هذا كله ضربوا لنا أمثلة نادرة في الصبر؛ فهذا التابعي الكبير صلة بن أشيم، عرف هو وعائلته معنى الصبر، فكان هو وولده معه في الجهاد، فقال لابنه: أي بني! تَقَدَّمْ، فقَاتِلْ حتى أحتسبك. فحمل، فقاتل، حتى قُتِل. ثم تقدم هو حتى قُتِل. فلما بلغ خبره إلى أهله جاءت النساء إلى زوجته معاذة يُعزِّينها في زوجها وولدها، فبادرتهم قائلة: مرحبا إن كُنْتُنَّ جِئْتُنَّ لِتُهَنِّئْنَنِي، وإن كنتن جئتن لغير ذلك، فارجعن!

وقبل أن يموت، جاءه رجل ينعى إليه أخاه، فقال له صِلة: ادنُ فَكُل، فقد نُعِي إليّ أخي قبل حين، وتلا قول الله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30].

وصار شريح القاضي، التابعي الكبير ومن أشهر قضاة المسلمين، يعطي دروسا في الصبر يتفنن فيها، فيقول عن تجربته مع الصبر: إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله عليها أربع مرات: أحمد إذ لم يكن أعظم منها، وأحمد إذ رزقني الصبر عليها، وأحمد إذ وفقني للاسترجاع (أي: قول إنا لله وإنا إليه راجعون) لما أرجو من الثواب، وأحمد إذ لم يجعلها في ديني.

وكتب عبيد الله بن عتبة فقيه المدينة الكبير، وأحد فقهائها السبعة الذين اجتمع فيهم علم المدينة، كتب يعظ الخليفة عمر بن عبد العزيز، فقال:

واصبر على القدر المحتوم وارض به .. وإن أتاك بما لا تشتهي القدرُ

فما صفا لامرئ عيش يسر به .. إلا سيتبع يوما صفوه كدرُ

إنه موكب طويل من الصابرين، يتقدمه الأنبياء، وأصحابهم وحواريوهم، كان أحدهم يؤتى به، فيُنشر بالمناشير، ويوضع على رأس أحدهم السيف فيشطر إلى شطرين، ويُمشَّط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون لحمه إلى عظمه!

ولقد كان اتباع النبي شديد الكلفة عظيم التضحية، فهذا مصعب بن عمير وقد كان أترف غلام بمكة بين أبويه يدفع ثمن الإسلام حتى صار يتساقط جلده مما هو فيه من الجوع والرهق والخشونة، وصفه سعد بن مالك بقوله: "فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية، ولقد رأيته ينقطع به، فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القسي ثم نحمله على عواتقنا".

وحوصر الصحابة ثلاث سنين حتى ذكر سعد بن مالك أنه قام ليلة يبول، "فسمعت تحت بولي شيئا يجافيه، فلمست بيدي، فإذا قطعة من جلد بعير، فأخذتها، فغسلتها حتى أنعمتها، ثم أحرقتها بالنار، ثم رضضتها، فشققت منها ثلاث شقات، فاقتويت (أي: تقوّيت) بها ثلاثا".

فمن سار في طريق الأنبياء والأصفياء أصابه ما أصابهم.. حتى يلتحق آخر الموكب بأوله، عندما يشرب الصابرون من يد نبيهم شربة هنيئة لا ظمأ بعدها أبدا، هناك! حين يوفون أجرهم بغير حساب.

 

(2) الصبر صفة العظماء

والصبر صفة العظماء أيضا، ولو كانوا كافرين.. ولو كان مصيرهم إلى النار!!

ما من نجاح يحققه المرء في هذه الدنيا إلا ولا بد له من الصبر، وقد قال الشاعر:

لا تحسبن المجد تمرا أنت آكله .. لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

وما من بطل ولا مؤسس ولا زعيم إلا صبر وصابر، وثبت وثابر في سبيل غايته، ولو كانت غايته الدنيا وحدها.. ومثله في ذلك كل صاحب موهبة في علم أو في أدب أو في حرب أو في فن!!

لا مناص ولا بديل عن الصبر حتى في حاجة الدنيا.. فكيف بحاجة اجتمع فيها مجد الدنيا وثواب الآخرة؟!

الصبر مفتاح النجاح ولم نجد .. صعبا بغير الصبر يبلغه الأمل

هذا سليمان بن كثير، من مؤسسي الدعوة العباسية، يتذكر أيام التدبير والتخفي والعناء في سبيل تأسيس الدولة العباسية فيقول: "صُلِينا بمكروه هذا الأمر، واستشعرنا الخوف، واكتحلنا السهر حتى قُطِّعَت فيه الأيدي والأرجل، وبُرِيَت فيه الألسن حزًّا بالشِّفَار، وسُمِلَتْ الأعين، وابتُلِينا بأنواع المَثُلات، وكان الضرب والحبس في السجون من أيسر ما نزل بنا".

إني رأيت وفي الأيام تجربة .. للصبر عاقبة محمودة الأثر

وقلَّ من جدَّ في أمر يطالبه .. فاستصحَبَ الصبر إلا فاز بالظّفَر

وأنتم يا أهل الأرض المباركة في أكناف بيت المقدس، وأنتم يا أيها المجاهدون في كل مكان، إنكم لتطلبون الأمر الكبير، وتنشدون الغاية العظمى، ولقد اصطفاكم الله فأقامكم في خير أرضه، ووضعكم في أشرف المعارك، وضرب بكم المثل للعالمين، وباهى بكم ملائكته في عليين.. فهل ترون هذا الشرف الضخم يصلح معه التعب القليل؟!

على قدر أهل العزم تأتي العزائم .. وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عين الصغير صغارها .. وتصغر في عين العظيم العظائم

لو كان التعب القليل يصلح للشأن الجليل، لكان الناس كلهم مجاهدين وصابرين.. ولكن هيهات!

لولا المشقة ساد الناس كلهمُ .. الجود يفقر، والإقدام قَتّال

وليس من أحد بلغ غاية في الغِنَى أو في العلم أو في الرئاسة أو في البطولة، إلا إذا تحدث عن نفسه، تحدث عن صبره ومثابرته وعزمه وتصلبه على ما كان فيه من الشدة، ولو كان الذي أخاطبه غيركم يا أهل الأرض المباركة لقلت لهم اقرؤوا كذا وكذا من الكتب، ولكني الآن أخاطبكم أنتم، فأقول: قد جعلكم الله أنتم مثلا وقدوة وأسوة للناس.. فيقال للناس: انظروا إلى هؤلاء! وتعلموا من هؤلاء، وتمثلوا هؤلاء!

يوم القيامة ستجدون في ميزان حسناتكم، فوق الأجر الذي يُهال وينهمر عليكم بغير حساب، ستجدون حسنات لا تعرفونها.. تلك حسنات أناس خرجوا من الكفر ودخلوا في الإسلام مما يرونه من صبركم وثباتكم.. ومعها حسنات أخرى كثيرة كثيرة كثيرة.. حسنات أناس خرجوا من الغفلة إلى اليقظة، ومن الكسل إلى الهمة، ومن مسالك الدنيا إلى سبيل الآخرة!

إن الذي تفعلونه يحيي الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور، صبركم وثباتكم وإيمانكم العجيب هذا يدفق في عروق الأمة، وفي عروق العالمين، روحا جديدة ونورا جديدا! ولعل هذا من معاني قول الله تعالى {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96].

 

(3) خير الدنيا والآخرة

لئن كان الصبر صفة الأنبياء والأصفياء أحباب الله، وهو كذلك صفة الكبار والعظماء من أهل الدنيا، فقد اجتمع في أهل الجهاد خير الدنيا والآخرة.. والتقى عندهم موكب الخالدين. فالإمامة ثمرة الصبر، كما قال تعالى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24].

فهنيئا لهم! والحسرة كل الحسرة على من تركهم وخذلهم وانصرف عنهم!

الصبر خير لأصحابه في كل حال، وفي ذلك قال تعالى: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]، وكما قال تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء: 25].. وهو للأمة المغلوبة الجريحة ضرورة لا بديل عنها.. فما قامت أمة من نكبتها وكبوتها إلا على يد المجاهدين الصابرين! وفي ذلك قال رسول الله ﷺ: "إن النصر مع الصبر". وقد وعد الله المجاهدين الصابرين بالمدد السماوي فقال: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125].

ولا تزال الأمم تخلد عظماءها المقاتلين، وتخلد معهم أهلهم الصابرين، طالما بقيت حية! فتكتب سيرتهم في كتب المدارس، وتوضع على لافتات المؤسسات، وتسمى بأسمائهم الشوارع والمدن.. فلا يزالون أبطالا في الدنيا، وهم –إذا خلصت نواياهم- تنعموا فوق ذلك بالخلود في الآخرة، في زمرة خير الأولين والآخرين، النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

ولهذا، فلا عجب أن يكون ختام المشهد في قصة الصابرين هو تذكيرهم بما صبروا، هذا الختام قد أخبرنا الله به في قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23، 24].

نشر في مجلة "أنصار النبي"، فبراير 2023