اقرأ أولا:
الإسلاميون وضرورة الترشح للرئاسة (1)
الإسلاميون وضرورة الترشح للرئاسة (2)
الإسلاميون وضرورة الترشح للرئاسة (3)
كان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول: اللهم إني أشكو إليك جَلَد الفاجر وعجز الثقة. والمعنى البسيط: أن ثمة فاجر لديه عزم وقوة وصبر وإرادة، كذلك فإن من أهل الثقة والأمانة والدين أصحاب تردد وارتباك يؤثرون السلامة والأمان على الدخول في غمار عزائم الأمور.
وبالنسبة للتيارات الإسلامية فإن هذا الانسحاب يكون تحت غطاء إسلامي، فلا بد من "تبرير إسلامي" لهذا الانسحاب من المعركة القائمة، وهذا أنتج دائما ما أسميه "الحالة المثالية المنعزلة"، فالشيعة منذ قديم وحتى سنوات مضت كانوا "ينتظرون" المهدي، وهم في انتظارهم هذا مستسلمون لمعركة ينتصر فيها الباطل ويسود، ويشبههم على الجهة الأخرى الصوفية الذين اتكأوا على فكرة "الخلاص الفردي" فانصرفوا عن الدنيا إلى التكايا والزوايا والخوانيق، ويشبههم السلفيون الذين منهم من ينتظر إماما ينادي بالجهاد إذ "لا يجوز القتال من غير راية ولا إمام" (بعض السلفيين في فلسطين يمتنعون عن الجهاد لهذا السبب)، ومن السلفيين من ظل خارج السياسة طيلة السنوات الماضية بإرادته لأن "اللعبة السياسية بشكلها الحالي تفرض تنازلات لا يمكن القبول بها"، وإلى حد ما ظل الإخوان أسرى لكثير من "الثوابت" أو "المثاليات" التي منعتهم من اتخاذ خطوات جريئة باتجاه الحل.
ليس الوقت لاجترار الماضي، إنما هو وقت التعلم منه، والخلاصة التي أريد التركيز عليها في البداية هي أن: الانسحاب من المعركة القائمة لا يورث إلا الخسارة، ثم هو يورثنا تبرير هذه الخسارة والتماس سبيل يجعلنا أهل الحفاظ على الثوابت لا الحفاظ على البلاد والتمكين لشرع الله، وأهل التضحية والصمود في وجه الباطل لا القائمين بالحق في هذه الأرض!
***
الإسلاميون الذين اختاروا عدم المنافسة على الرئاسة أو على أغلبية البرلمان دفعهم إلى هذا كثير من المخاوف التي تحيط بوصول شخصية إسلامية إلى الحكم:
· لا يقبل الغرب وجود شخصية إسلامية في موقع رئاسة الجمهورية.
· وراثة الخراب الهائل من النظام السابق تجعل المهمة عسيرة.
· انقلابات الأجهزة الأمنية: الشرطة – أمن الدولة – المخابرات ... إلخ
· احتمال انقلاب الجيش على نتائج الانتخابات.
وكلها مخاطر لا تُنكر ولا يُقَلَّل من شأنها، إلا أن مناقشتها ينبغي أن تكون مرتكزة على أساسين كبيرين (التصور الكلي)، وأما التفاصيل فأمرها يطول ويتنوع وهو يُترك لنقاش موسع وللمختصين والخبراء.
***
الأساس الأول: منهج النبي في مواجهة المشكلات لا سيما مشكلات الفترة الأولى من العهد المدني، وسيبدو واضحا:
1. أنه صلى الله عليه وسلم لم يتراجع أمام عمل تترجح فيه مصلحة الدين والدعوة مهما تهددته المخاطر، فالسيرة في مكة كلها إنما هي سيرة المخاطر، وكذلك الهجرات إلى الحبشة والمدينة، ثم عند المفاجأة المدهشة حين خرج ليقابل العير ففوجئ بالنفير، فلو أنه يحسبها بالمخاطر لرجع على الفور وما كان استشار أحدا في البقاء والقتال... وهكذا، والمقام لا يتسع لعرض مفصل، غير أن الخلاصة هي أن منهج النبي الدائم هو فِعْل ما يترجح أن فيه مصلحة الدين والأمة ولو راح في سبيل هذا دماء وأموال.
2. ولا يكون التراجع عن خطوة ذات مخاطر إلا حين يتحقق أن هذه الخطوة لم توصل إلى الهدف فعلا، من ذلك جهاده في محاولة إقناع سادة قريش، فلم يتراجع (صلى الله عليه وسلم) على رغم ما أصابه من أذى إلا حين تبين أن رفضهم راسخ أكيد، وكذلك في رحلة الطائف، وكذلك في دعوته القبائل، وكذلك في سيرته مع يهود المدينة... وهكذا: لا تراجع إلا حين يتحقق فشل هذا المسعى يقينا.
3. لقد كان حكم المدينة في العام الأول للهجرة عملا كله مخاطر، ومخاطره فيما يبدو للناظر أعظم بكثير من فرص النجاح فيه، وإليك مختصر مبسط جدا لصورة الوضع:
- الدين: مسلمون (أغراب عن بعضهم، وذوي إرث جاهلي)، ومشركون، ويهود، ومنافقون.
- الاقتصاد: المدينة أرض زراعية، وتعتمد على الاستيراد، ويحتكر التجارة فيها اليهود، والمهاجرون فقراء، وهم أهل تجارة لا يجيدو الزراعة فانتشرت بينهم البطالة.
- التاريخ: عداء بين المدنيين: أوس وخزرج، وعداء بين اليهود وبعضهم، وعداء بين اليهود وأهل المدينة.
- فلول النظام القديم: وعلى رأسهم الزعيم الكبير عبد الله بن أبي بن سلول الذي كاد أن يكون ملكا لولا أن جاء محمد إلى المدينة.
والمقام لا يتسع لتفصيل أكثر من هذا، غير أن دراسة الفترة الأولى من المرحلة المدنية دراسة وافية ستمكننا من اكتشاف الطريق الذي تم به القضاء على هذه المشكلات على خير وجه (يمكن الاستزادة بالرجوع إلى محاضرة ألقيتها بعنوان: كيف نبني نظاما جديدا؟ في جمعية مصر للثقافة والحوار، في 20/4/2011)
***
والأساس الثاني: الثقة في الشعب
الإسلاميون أولى الناس أن يعلموا أن هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس، بشهادة القرآن، وأن هذه الأمة إنما هي كالغيث لا يُدرى أوله خير أم آخره، بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الأمة لم تُخيَّر أبدا بين الإسلام وغيره إلا واختارت الإسلام، وهذه شهادة التاريخ طوال الخمسة عشر قرنا، وأن كل الاتجاهات المغايرة والمذاهب الباطلة إنما فرضت بالقهر والقمع والإجبار ولم تدخل أبدا إلى قلوب الناس، بل غاية ما فعلت أنها ظلت قشرة خارجية وطلاء لا يلبث أن يزول عند أول فرصة ويسقط عند أول تمرد.
إن الإسلاميين أنفسهم يُفاجَأون في كل انتخابات شبه نزيهة بنتائج تفوق توقعاتهم، وفي هذا درس بليغ وينبغي ألا يُنسى.. وفي هذا السياق ليس من تجربة أوضح ولا أبلغ من تجربة حماس التي يساندها شعب القطاع في ظروف بالغة الخطر والصعوبة.. وهذا هو معدن أمتنا الحقيقي الذي يجب أن نراهن عليه ونستند إليه.
***
وتبقى ملاحظات سريعة في جانب الخواطر المتوقعة:
· الغرب:
لا شك في أن القوى الكبرى لا تقبل حُكْما إسلاميا في مصر، بل هي لا تريد أن ترى حكما إسلاميا في كل الدنيا، ولكن متى سارت الدنيا على هوى أحد؟ ومتى استطاع أحد أن يُسيِّر الدنيا كما شاء؟
إن القوى الكبرى تستخدم الورقة الاقتصادية في الضغط لمصالحها، إلا أنها هي نفسها أسيرة الحالة الاقتصادية، وخسران السوق المصرية وما يتبعها ليس قرارا سهلا، ومصر لديها من الإمكانات ما يُمَكِّنها من أن تلاعب هذه القوى الدولية لا سيما إن تمت الاستعانة بالإمبراطور الصيني الذي صار طرفا قويا في المعادلة الدولية. فعلى أساس المصلحة المشتركة يمكن التفاهم مع هذا الغرب، وهو لا شك تفاهم الأعداء الأشبه بالهدنة، فالعلاقة بين الشرق والغرب علاقة صراع تاريخي مستمر، حتى لو لم نرغب في هذا.
مع العلم بأن البديل هو أن هذا التفاهم سيتم مع العلمانيين، على قاعدة استمرار الهيمنة والتغريب، إضافة إلى قمع الإسلاميين.. فإما أن نكون أو لا نكون!
· الجهاز الأمني
وهذه هي المعضلة الأعمق والأخطر، فنحن نعلم على سبيل اليقين، ومن خلال تصريحات للإسرائيليين أنفسهم بأن المؤسسات الأمنية المصرية مخترقة، ولا يُعرف على وجه اليقين إلى أي حد تم هذا الاختراق.
والجهاز الأمني هو حجز الزاوية في بناء الدولة، ولئن نسيت فلست أنسى كلمة قالها عزام الأحمد في مفاوضات تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية قبل أعوام بأن حركة فتح على استعداد للتنازل عن كل الوزارات لحماس مقابل أن تسيطر فتح على وزارة الداخلية!!
وعلى خطورة هذا الأمر إلا أنه لا يستعصي على وجود حل، والتفصيل يُترك لأهل الشأن المختصين، وقد يكون بعض الحل في الاستعانة بشركات أمنية، أو حتى تكوين لجان شعبية، أو تخريج دفعات حديثة، وكل هذا يتم مع الاستعانة بالشرفاء والمخلصين.. ومن صحَّ منه العزم أُرشد للحيل، وما كان الله ليضيع إيمانكم.
وينبغي أن يُعلم أيضا أن البديل هو بقاء هذه المؤسسات على فسادها واختراقاتها، ولا يستبعد أبدا أن تسلط على الإسلاميين مرة أخرى كما فعلت عهود الطغيان جميعا، فإما أن نكون أو لا نكون!
· الجيش:
وما يقال على الجهاز الأمني يقال أيضا عن الجيش، فمن المؤكد أن الجيش هو مجموعة من البشر فيهم الصالح والطالح وفيهم الوطني وغير الوطني، ومن المؤكد أن قيادات الجيش ليست بعيدا عن مسرح السياسة، ومن المؤكد أن الجيش له قناة مفتوحة مع أمريكا.. وكل ما بعد ذلك فهو غير مؤكد، ولا مضمون!
ما زال موقف الجيش من الثورة تشوبه الكثير من علامات الاستفهام، وكذلك موقف أمريكا التي لا بد أنها كانت تملك خطة بديلة حين تخلت بسرعة مدهشة عن حليفها الكبير حسني مبارك، وكل ما لا نعرفه ينبغي أن نحذر منه، فمثل هذه المعلومات لا تخرج إلى العلن إلا حين لا يكون منها فائدة عملية.
على أن المهم هو أن هذه اللحظة إنما هي اللحظة الأبعد التي يُتوقع فيها انقلاب الجيش على النتائج الديمقراطية، ففي ظل الثورة تكون الحسابات مختلفة، أما الانتظار بعد أربع سنوات أو خمس فهو يعني تراجع الزخم الثوري الذي يمثل القوة الشعبية فلا يظل فاعلا على الساحة إلا القوة الفعلية.. هذه هي لحظة الاحتماء بالجماهير الثائرة، وتفويتها يعني أن تتكرر مأساة الحركات الإسلامية جميعا! فعلى طول القرن الماضي تستطيع الحركات الإسلامية بناء جماهيرية شعبية ثم تستطيع السلطة إنهاء كل شيء بحملة أمنية شرسة، فلا تُغني الشعبية عنها شيئا، اللهم إلا التعاطف والدموع ثم الانصراف إلى مظانّ الأمان.
تلك هي اللحظة التي تستطيع فيها الشعبية الجماهيرية أن تتحول إلى فعل مقاوم ملموس في حال الانقلاب على النتائج الديمقراطية من أي جهة.. وتفويتها يعني نصف قرن آخر من الانسحاق!
· الإعلام العلماني
كل ما سيُقال في هذه النقطة معروف، وتأثير الإعلام لا جدال حوله، فالإعلام يستطيع تحويل القضية التافهة إلى مصيرية، ويستطيع سحق وشيطنة القضية مهما كانت عادلة ونبيلة، وما رأيناه في هذه الشهور من الإعلام العلماني الذي يحركه المال السياسي من الداخل والخارج يساوي ما رأيناه عبر عشرين سنة.. وما من شك في أن أحد أخطر سبل محاربة الحكم الإسلامي هو الإعلام، وعلى الجهة الأخرى فإذا لم يتم رفع القيود عن الإعلام وإتاحته للقاعدة الأوسع من الشعب فإن الخطر سيظل قائما!
لقد أرجع الإعلامي والخبير في الشئون التركية توران كيشلاكجي، وهو مدير موقع تايم تورك، أرجع سقوط أربكان إلى أسباب من أهمها عدم اهتمامه بالإعلام وهو عكس ما فعله أردوغان، كذلك فإن تجربة حماس في قطاع غزة تثبت أن الوجه الإعلامي لحماس كان أحد أهم أدوات الصمود والتحدي ومحاربة هجوم الشرق والغرب والداخل والخارج.
***
إلى هنا تنتهي طاقة العبد الفقير إلى الله في هذا الموضوع، ولعل الله أن يجعل فيه الخير.. ويحضرني الآن قول أبي الفضل الرياشي:
وعاجز الرأي مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمرٌ عاتب القَدَرا
وقول أبي جعفر المنصور:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا
ولا تمهل الأعداء يوما بقدرة ... وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا
وقول المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس عيبا ... كنقص القادرين على التمام
نشر في: شبكة رصد الإخبارية
كل ما أقرأ ليك مقال أقول ده بقي احسن مقال عملته ,أحسنت وجزيت عنا خيرا تعلمت الكثير من هذا المقال
ردحذف