الأحد، مايو 04، 2025

الخديعة العظمى.. الدعاة على أبواب جهنم!


ما إن أصدر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فتواه الأخيرة حتى انبعثت أبواقٌ آثمة مجرمة تنهش في الاتحاد وعلمائه وترميهم بأنواع الزور والبهتان، وبعض هذه الأبواق لبث الثوب الشرعي واستعمل في مضادة فتوى الاتحاد لسان أهل العلم وألفاظهم، فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون!

وما كانت فتوى الاتحاد العالمي شيئا جديدا، بل لقد يُقال إن الفتوى تأخرت كثيرا، فلا تزال الحرب مشتعلة في غزة منذ عام ونصف العام، بل هي جارية لا على أصول الشرع ومعهود قول العلماء فحسب، بل هي امتداد طبيعي لفتاوى المؤسسات العلمية الرسمية ذاتها قبل سنوات. وللتدليل على هذا فقد خصصنا قسم الراحلين من عدد المجلة هذا لفتاوى الأزهر الشريف في ذات الشأن، وفيه ترى أن فتوى الاتحاد العالمي لا تخالف ألبتة فتاوى علماء مشيخة الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية، بل إن فتوى الاتحاد في بعض وجوهها أقل لهجة وصرامة من فتاوى هؤلاء السابقين.

من رأى انتفاضة أبواق السوء هذه، أو من يسميهم شيخنا القرضاوي رحمه الله "علماء السلطة وعملاء الشرطة"، يحسب أن الاتحاد قد جاء بشيء جديد مستنكر، وما كانت فتوى الاتحاد إلا أنها تعلن وجوب الجهاد على الدول الإسلامية في فلسطين، ووجوب إمداد المجاهدين بالمال والسلاح اللازميْن لهم في معركتهم الإسلامية الخالصة، وفي الامتناع عن التعاون مع الصهاينة وإمدادهم بالمال أو السلاح أو الطعام والشراب.. وذلك كما ترى أقل الواجب الذي على المسلمين لإخوانهم المذبوحين.

ولستُ في هذا المقام بوارد التعليق على هذه الفتوى ونصرتها، وإنما أريد أن أبذل للقارئ شيئا من باب التاريخ يزيد في وضوح الحالة التي نحن فيها، والتي توضح لماذا انتفضت أبواق السلاطين فزعا لهذه الفتوى الطبيعية.. فأعرني سمعك وبصرك وعقلك وقلبك!

 

(1)

رسم لنا النبي مراحل تاريخ الأمة في خمسة مراحل كبرى، كما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ:

«تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة»([1]).

والمُلك العضوض، أي: يصيب الرعية فيه عسْفٌ وظُلْم، كأنَّهم يُعَضُّون فيه عَضًّا([2]). وأما الملك الجبري، فهو القهر والعتو والجبر، من الجبروتية والعظموتية والعلُوّ، إذ يغلب الظلمُ والفساد([3]).

وهذا الحديث، كغيره من أحاديث الفتن، قد وقع الخلاف بين العلماء في تفسيره وإيقاعه على المراحل التاريخية للأمة، ولكن يكاد أن يتفق العلماء المعاصرون على أن:

-      المُلك العضوض هو الذي يمتد من بداية الدولة الأموية مع عهد معاوية رضي الله عنه، وحتى نهاية الدولة العثمانية وسقوط الخلافة

-      الحُكم –أو المُلك- الجبري هو الذي تعانيه الأمة بعد سقوط الخلافة، وحتى الآن.

ولهذا يستبشر المعاصرون بأن المرحلة القادمة هي مرحلة الخلافة على منهاج النبوة.

ويُساعد على صحة هذا الفهم، ما جاء في كثير من الروايات الأخرى، من أوصاف إضافية لفترة الملك العضوض والحُكْم الجبري، والروايات وإن كانت لا تخلو من ضعف على جهة الرواية، إلا أن انطباق وصفها على أوضاع هذه الأحقاب يحمل على تصديقها، فمن ذلك مثلا:

1. حديث أبي عبيدة بن الجراح أنه ﷺ قال: «إن الله عز وجل بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة، وكائنا خلافة ورحمة، وكائنا ملكا عضوضا، وكائنا عنوة وجبرية وفسادا في الأرض، يستحلون الفروج والخمور والحرير»([4]).

ففي هذا الحديث المراحل الأربعة متطابقة مع حديث حذيفة، وزاد في التفصيل على ذلك أن مرحلة المُلك العضوض خيرٌ من مرحلة الحكم الجبري الذي وصفه النبي بـ «العنوة والجبرية والفساد في الأرض»، كما يزداد فيه الابتعاد عن الشريعة أو تركها، حتى يصير الزنا والخمر والحرير حلالا، إما بالاستحلال: أي أن تكون مباحة ومُقَنَّنة (وهذا هو نبذ الشريعة والانخلاع منها)، أو أن يكون الاستحلال كناية عن كثرة الممارسة (وهذا هو الاستخفاف بالشريعة والاستهانة بأحكامها)، وهذا الوصف يدل في نفسه على أن مرحلة الملك العضوض لم تكن على هذه الصفة، كما يدل على أن أسوأ المراحل التي يمر بها تاريخ الأمة هو مرحلة الجبرية.

وهذا الأمر سيزيد تفصيلا في الحديث التالي، وهو:

2. حديث ابن عباس أنه ﷺ قال: «أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكا ورحمة، ثم يكون إمارة ورحمة، ثم يتكادمون([5]) عليه تكادم الحُمُر، فعليكم بالجهاد». وفي رواية: «ثم جبروتا صلعاء([6]) يتكادمون عليها تكادم الحمير». وفي رواية: «ثم جبروت صلعاء، ليس لأحد فيها متعلق، تضرب فيها الرقاب، وتقطع فيها الأيدى والأرجل، وتؤخذ فيها الأموال»([7]).

ويُروى هذا الحديث موقوفًا على عُمَر كما عند أبي نعيم والحاكم، ولكن وقفه أو رفعه لا يؤثر هنا، فإن الحديث من علم الغيب الذي لا يرويه الصحابي إلا على جهة سماعه من النبي ﷺ، فليس هو من باب الرأي.

وفي هذا الحديث نرى أن مرحلة الملك العضوض وُصِفت بالرحمة، بينما وُصِفت مرحلة الملك الجبري –أو: الحكم الجبري- بتشبيه فظيع، وهو الجبروت الواضح الظاهر الذي تُضرب فيه الرقاب وتُقَطَّع فيه الأيدي والأرجل، وتؤخذ فيه الأموال؛ أي أنه عصر قتل وترويع وإذلال.

3. حديث جابر الصدفي عن أبيه عن جده أنه ﷺ قال: «سيكون بعدي خلفاء، ومن بعد الخلفاء أمراء، ومن بعد الأمراء ملوك، ومن بعد الملوك جبابرة، ثم يخرج رجل من أهل بيتي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا»([8]).

وهذا الحديث يسرد ذات الترتيب، مع تفصيل زائد في مرحلة الأمراء والملوك، فكأنه ﷺ يشير بها إلى عصر الفتنة، حيث استقل بعض الأمراء بما تحت أيديهم، كما فعل معاوية بالشام ثم بمصر، وكما فعل مروان بن الحكم بالشام أيام عبد الله بن الزبير، ثم اجتمع الأمر مرة أخرى للملوك. ومن بعد الملوك الجبابرة، الذين هم أصحاب المُلك الجبري، ثم يأتي بعدهم المهدي الذي يملأ الأرض عدلا، فتكون خلافته هي الخلافة الأخرى التي هي على منهاج النبوة.

وهذه الأحاديث الأربعة هي وصفٌ عجيب ودقيق لأحوال عصرنا، عصر الجبرية، والفارق بينه وبين عصر الملك العضوض، الذي كان عصر رحمة وإن شابه فساد وانحراف عن الخلافة الراشدة!

وتتشابه هذه الأحاديث مع أحاديث أخرى صحيحة، لكن لم يرد فيها وصف المُلْك العضوض أو الحكم الجبري، من أهمها: حديث حذيفة بن اليمان، يقول:

«كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»([9]).

فهنا يظهر التناظر واضحا بين هذا الحديث، وبين حديث الخلافة والملك العضوض والجبرية:

- فالخير الأول هو النبوة والخلافة الراشدة

- والشر الأول هو عصر الفتنة بين الصحابة

- ثم يأتي الملك العضوض وهو الخير الذي فيه دَخَن، حيث لم يلزم الملوك سنة النبي ﷺ بحذافيرها، لكنهم ظلوا قائمين بالحق في أبواب أخرى، ولذا وُصِفوا بهذا الوصف «يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر»

- ثم يأتي بعدهم الشر الكبير، وهو المُلك الجبري أو الحُكم الجبري حيث وُصِفوا في هذا الحديث بأنهم «دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها»، وهم أيضا: «من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا». وهذا الوصف الأخير لا يُعرف أنه تحقق في تاريخ المسلمين إلا في هذا العصر منذ ضعف الخلافة العثمانية وسقوطها.

ومما يستفاد من هذه الأحاديث:

1.    أن الملك العضوض وقع فيه نقص وترك لبعض الدين، وشابته مظالم وانحرافات، ولكنه لا يزال في الجملة مُلْكًا فيه دين ورحمة.

2.    أن مرحلة المُلك الجبري أو الحكم الجبري هي التي يحصل فيها الخروج عن الدين والانخلاع منه، فيكون عصر ترويع وإذلال واستحلال للمحرمات وفرقة شديدة، حتى إن زعماءَه هم دعاة على أبواب جهنم.

وبالتأمل في نصوص الشريعة ووقائع التاريخ نستنتج الفارق بين هذه المراحل على هذا النحو:

§        الخلافة الراشدة تحقق فيها الرُكْنان الكبيران: تحكيم الشريعة، واختيار الأمة للأمير.

§        والملك العضوض تحقق فيه ركنٌ وتخلف ركنٌ؛ فقد بقي حكم الشريعة، ولم تعد الأمر تختار أميرها.

§        وأما المُلك الجبري فهو الذي انهدّ فيه الركنان؛ فلا بقي حكم الشريعة، ولا اختارت الأمة أميرها.

وقد كان معظم التاريخ الإسلامي واقعا في زمن الملك العضوض، وشهدت الأمة في تلك الحقبة مراحل من قوتها وتفوقها السياسي والحضاري وازدهارها العلمي والأدبي. بينما جاءت مرحلة الحكم الجبري بالذل والاستضعاف والتأخر في سائر وجوه الحياة([10]).

 

(2)

ومن وقائع التاريخ يسعنا أن نحدد بداية التحول الكبير من مرحلة الملك العضوض إلى مرحلة الملك الجبري في اللحظة التي سيطر فيها محمد علي باشا على الحُكْم في مصر، فتلك هي البذرة التي تمددت وتوسعت في ظل الاحتلال الأجنبي ونفوذه حتى سادت على الأمة كلها عند لحظة سقوط الخلافة العثمانية، ولا نزال فيها حتى الآن.

فنحن إذن نعيش مرحلة، قد وصف النبي ﷺ حكامها بهذا الوصف الجامع، كما في حديث حذيفة في الصحيحيْن، "دعاة على أبواب جهنم"، هذا مع أنهم "من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا".

وأريدك أيها القارئ الكريم أن تتوقف معي طويلا عند هذا الوصف الذي هو أصل أصول المخادعة والخطورة في واقعنا المعاصر.. أن القوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا!!

هنا مركز الخداع الضخم الكبير، الخداع الذي يشل العقول ويُخَدِّر التفكير ويشوش الصورة ويطمس الحقيقة.. القوم في ظاهرهم مسلمين، عرب، وطنيين.. يتكلمون بلسان المسلمين العرب الوطنيين.. من رآهم وسمعهم لم يشك في أنهم من أبناء هذه الأمة وأنهم ينطقون عن غاياتها وآمالها ويعبرون عن مصالحها ويرعون شؤونها وأحوالها!!!

هذا هو الخداع الضخم الذي يجعل النقاش حول هؤلاء طويلا ومريرا ومتفرعا وكثيرا.. فليست أحوالهم الظاهرة دليلا على حقيقتهم.. فتأمل في داعية يدعوك إلى جهنم، ولكنه يكلمك عن جهنم فيجعلها جنة موعودة وفردوسا منشودا، ولئن كنتَ تراها نارًا وجهنما فإنما هي فترة محدودة، وإن ما فيها من العذاب والعنت والمشقة إنما هو في سبيل المصلحة وطنية، وإنما هي تضحية محمودة، وإنما هو أمرٌ تفعله لأجل الأجيال القادمة، وضريبة تدفعها في طريق التقدم والنهضة، وعمل سيخلده لك التاريخ!

نعم، أخي القارئ الكريم.. قف واستعمل خيالك كله، في تصور رجل داعية يقف على باب جهنم يدعو إليها، وتصوَّر: ماذا كان سيقول في ترويج بضاعته وجذب الناس إليها؟!

ولا بأس أن تتوقف عن القراءة ثم اسرح بخيالك.. ولكم وددتُ أن تكون لي موهبة السيناريست الروائي أو الشاعر ذي الخيال الجامح، لفعلتُها ويسَّرت الأمر على نفسي وعليك!

 

(3)

على أني مطمئنٌ أنه مهما بلغ الخيال بك وبي وبالروائي المنشود والشاعر المفقود فلن نبلغ وهدة الواقع الذي نحن فيه..

ها أنت ترى في الواقع نفسه كيف انتفضت أجهزة الأمن الأردنية لاعتقال بعض الشباب الذين نهضوا لمحاولة مساعدة إخوانهم في الضفة الغربية وتهريب السلاح لهم، فاتهمتهم بالإرهاب والسعي في تخريب الوطن، وسجنتهم ونشرت ما قالت إنه اعترافاتهم لتمهد بذلك حملة على كل شيء فيه دعمٌ للمقاومة في فلسطين.. وكل ذلك باسم الوطن!

ومع أن جماعة الإخوان المسلمين سارعت بالتبرؤ من هؤلاء المتهمين وأنهم إنما فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم وأن الجماعة لم تكن على علم به ولا حتى تؤيده، إلا أن السلطة الأردنية أصدرت قراراتها بحل الجماعة ومصادرة ممتلكاتها ومحاكمة من يروج لأفكارها!

ونستطيع أن نسرد طويلا طويلا طويلا طويلا مجهود النظام الأردني ودوره المهم في إقامة إسرائيل أولا، ثم في حمايتها ثانيا، ثم في تسليم الأرض لها ثالثا، ثم في قتل ومطاردة من يعمل على مقاومتها رابعا!

وهل من دليل أجلى ولا أوضح من أن يكتب نتنياهو بنفسه في مذكراته المنشورة المعلنة أن "بقاء المملكة الأردنية هو بمثابة مصلحة حيوية لإسرائيل، ولو اقتضى الأمر فسنتدخل بجيوشنا لحمايتها من السقوط"؟!!

قطعت جهيزة قول كل خطيب..

وقل مثل ذلك عن غيره من الأنظمة، لا سيما النظام المصري، الذي يتولى الحماية من الجنوب، ويقوم بدوره في تكبيل الشعب المصري الهادر الهائل عن إنقاذ إخوانه أو دعمهم.. وللنظام المصري مثل ما للأردني من التاريخ الأسود من التسبب في إقامة إسرائيل وحمايتها وتسليم الأرض لها وقتل من يفكر في مقاومتها!!

إن حقيقة الأزمة التي نعيشها الآن، والتي تكبل الجميع عن التفكير السليم وعن التوجيه السليم، هو في تلك الخدعة الكبيرة التي هي "من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا".. هذا ما يجعل الأكثرين بدايةً من العلماء أصحاب الفتاوى وحتى العامي الذي يجلس على المقهي يستمع الأخبار غير قادر على فهم الواقع، ولئن فهمه فهو غير قادر على التعامل معه كما هو، إذ الخديعة العظمى تعيق فهم الكثيرين عن تصور ما يقول وعن الاستجابة له!

فلئن أنعم الله عليه بالفهم وبالنجاة من الخديعة.. فدورك أن تسعى في سحب غيرك منها، قبل أن يستجيب لهذا الداعية القائم على جهنم، فيقذفه فيها!!

 نشر في مجلة أنصار النبي ﷺ - مايو 2025



([1]) أحمد (18430)، والبزار (2796)، وحسنه شعيب الأرناؤوط، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5).

([2]) أبو عبيد الهروي، الغريبين: غريبي القرآن والحديث، 4/1291؛ ابن الجوزي، غريب الحديث، 2/104؛ الزمخشري، الفائق في غريب الحديث والأثر، 2/443؛ ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، 3/253.

([3]) الملا القاري، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 8/3376؛ عبد الحق الدهلوي، لمعات التنقيح شرح مشكاة المصابيح، 8/576.

([4]) الطيالسي، (225)؛ البيهقي، السنن، (17073)؛ أبو يعلى، المسند، (873)؛ الهيثمي، مجمع الزوائد، (8961)؛ وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3055) وعلته عند الألباني اختلاط أحد رواته، وبقية رجاله ثقات، وأقرَّ أن متن الحديث دون زيادة منكرة لم نوردها في المتن- صحيح، لشواهد صحيحة، وهذه الشواهد الصحيحة هي حديث الباب، وحديث البخاري «يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف».

([5]) يتكادمون تكادم الحمير: كدم الحمار كدما أي عضَّ بأدنى فمه، والحديث يُصَوِّر حال جدب ومجاعة حتى تبحث الحمير في الأرض عن أصل النبات فتعضّ عليه بأدنى أفواهها، فكأن قبض أولئك الحكام على الحكم كقبض الحمير بملء أفواهها على أصل النبات بأشد ما تملك، في حال الجدب والفقر والشدة.

([6]) صلعاء: أي ظاهرة بارزة.

([7]) الطبراني، المعجم الكبير، (11138) وهذا لفظه؛ نعيم بن حماد، الفتن، (236)؛ الحاكم (8459)، وسكت عنه الذهبي؛ والهيثمي، مجمع الزوائد، (8965)، وقال: رجاله ثقات؛ وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3271).

([8]) الهيثمي، مجمع الزوائد، (8965)، وقال: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم؛ وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3722). وهذا الحديث ضعفه شديد، إذ فيه عدد من المجاهيل. ولكنه كما ترى- منسجمٌ مع التاريخ ومع بقية الأحاديث الصحيحة.

([9]) البخاري (3411)؛ مسلم (1847).

([10]) لمزيد من التفصيل راجع كتابي: خلاصة تاريخ الإسلام، المجلد الثالث.

الجمعة، أبريل 04، 2025

قرآن الثورة والجهاد

 


ما من شهر يتعرض فيه المسلم للقرآن الكريم مثل شهر رمضان، تلاوة وسماعا ووعظا ومدارسة، وما من مسلم إلا وهو في أحسن أحواله مع القرآن عند نهاية هذا الشهر.

وهنا يأتي السؤال الكبير في الأمة المهزومة المغلوبة؛ ما بال هذا القرآن الذي أيقظ الأمة وبعثها من رقاد وسبات أول نزوله، لا يفعل الآن فيها مثل ما فعل في أول الأمر؟!!

والأصح أن يُقال: إن القرآن هو القرآن، فما بال الأمة التي انبعث به حتى غلبت وسادت وهيمنت تبقى الآن في هذا الحال الرهيب من الضعف والمذلة والمسكنة؟!

هذه السطور تحكي لك طرفا من أسباب الفارق الكبير.. وفيه ينطوي الحل الكبير أيضا!

 

(1)

ما كان العربي يسمع آيات من القرآن الكريم حتى يعرف من فوره أنه كتاب سياسة وقتال وحُكْمٍ ونظام، وأنه جاء لتغيير هذا العالم، وأنه سيصطدم مع الأوضاع القائمة فيه!

ذهب عتبة بن ربيعة إلى النبي ﷺ يساومه على هذا الدين، فيعرض عليه الرئاسة والمال والنساء، فما هو إلا أن سمع آيات من القرآن حتى عاد يقول لقومه: يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه؛ والله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تُصِبْه العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكُه مُلْككم وعزّه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.

فهذا رجلٌ سمع بعض آيات من القرآن فعرف أن نهاية الأمر مُلْك ونظام وحُكم ودولة، ونصح قومه أن يتركوا هذه المعركة، فلئن انتهى صدام محمد مع العرب إلى انتصارهم عليه فقد كسبوا أن لم يتورطوا في المعركة ولم يقطعوا أرحامهم، ولئن انتهى إلى انتصار محمد فإنه في النهاية رجل من قريش، وانتصاره في ميزان قريش وتدعيمها لمكانتها وسلطانها!

وبعدها بنحو سبع سنين جلس النبي ﷺ يعرض نفسه على القبائل، فكان منهم بنو شيبان، وما إن سمعوا منه بعض آيات من القرآن الكريم حتى قال المثنى بن حارثة الشيباني في جملة كلامه: وإن ما جئت به يا أخا العرب مما تكرهه الملوك!

فانظر أيها القارئ وتأمل وتفكر، ثم أطل النظر والتأمل والتفكير، كم مسلما الآن يقرأ القرآن ويفهم منه أن هذا القرآن تكرهه الملوك؟! فإن القرآن لم يتغير، والملوك لم يتغيروا!

وانتبه إلى أن القائل هنا إنما كان يقصد ملوك الفرس، وهم ليسوا من العرب عبدة الأوثان والأصنام، بل كانوا على دين المجوس عُبَّاد النار.. فاستوى في كراهة ما جاء به القرآن: عباد الأوثان وعباد النار!

هذا الذي فهمه العربي من بضع آيات سمعها لأول مرة من القرآن الكريم هو الأمر الذي لا يشعر به الآن إلا أقل أقل القليل من المسلمين. ولو أننا أجرينا استفتاءا بين المسلمين بعد انقضاء شهر رمضان: ماذا استفدت من القرآن في رمضان، فاسرح بخيالك وتوقَّع كم واحدًا من هؤلاء سيقول: إن هذا القرآن هو انتفاضة وحربٌ على الأوضاع الباطلة، وهو حركة ثورة وجهاد في عالم السياسة؟!

تلك الفجوة الهائلة في فهم القرآن بين العربي الجاهلي وبين المسلم المعاصر هي أصل أصول الفجوة الهائلة بين حال الأمة يومذاك وحالها الآن.. إذ كيف يمكن أن ينهض بالقرآن من لا يفهمه، ولا يعرف أشهر أصوله ومعالمه وأركانه؟!

(2)

لقد حاول المشركون أن يتخلصوا من هذا الحق القرآني الصادع الواضح الذي يصادم أحوال الجاهلية ويناقضها، ولقد ساوموا النبي على أن يفعل ذلك: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15].

ولكن الله تكفل بحفظ كتابه الكريم؛ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. وبهذا امتنع على الملوك –ومن والاهم من علماء السوء- أن يغيِّروه أو يبدلِّوه أو يُحرِّفوه، كما قد وقع في الأمم الماضية، إذ كان الأحبار والرهبان { يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 79]، وكانوا {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78].

فلم يبقَ للملوك وعلماء السوء، بعد أن عجزوا عن تبديل الكلام وتحريفه، إلا أن يغيروا معانيه ويعبثوا في تأويله.

وذلك هو الذي نعانيه الآن، ترى الواحد من أولئك الملوك ومن علماء بلاطهم يقبل المصحف الشريف ويكتبه بالذهب والفضة وينقشه على الجدران والقصور، ويبثه في الإذاعات والقنوات، ثم هو يُسَلِّط جهده كله لتزييف معانيه وصرف الناس عنها، ويصب جام سطوته وسلطته على القائمين به الذين يجاهدون لتعليمه وبيان هداياته وإرشاداته!

فالآن، ها هي أمة تقرأ القرآن ولا تعرف كيف يمكن أن تحيله عملا حيا في واقع الحياة، أكثرها لا يعرف أن القرآن ثورة وحرب وانتفاضة على الباطل، وأقلها يعرف ويعجز أو يعرف ويكسل أو يعرف وتغلبه شهوات الدنيا على نفسه!!

فهما إذن معضلتان عظيمتان: معضلة الفهم والوعي لهذا القرآن، ومعضلة تحويله إلى عمل وحركة، وبهاتين المعضلتيْن ترى كيف أن القرآن الذي بعث الأمة ونقلها من رعي الغنم إلى سيادة الأمم، لم يعد يفعل فعله في الأمة التي تسلط عليها سائر الأعداء، من صهاينة وصليبيين ووثنيين ومن لا دين لهم!

(3)

ما من سورة في القرآن الكريم إلا وهي تخاطب المسلم أن هذا الدين إنما أنزله الله ليكون نظاما وحُكْمًا وسلطانا، وأنه دين جهاد لا يقبل ببقاء الباطل والظلم، ولا يرضى بأن يكون المسلمون في ذلة وضعف!

هذه سورة البقرة قد حفلت بحديث الأمة التي نكثت عهدها مع الله، أمة بني إسرائيل، وكيف أن الله انتزع منها هذا الشرف ووضعه في أمة المسلمين، وأنزل عليهم التعاليم والتكاليف في الصيام والحج والزواج والطلاق والقصاص والقتال والأموال!

وهذه سورة آل عمران تتلو حديث جهاد المسلمين الأوائل في بدر وأحد وكونهم خير أمة أخرجت للناس، وكونهم أولى الناس بسائر الأنبياء، فهم ورثة إبراهيم وإسرائيل وموسى وعيسى، وأن المؤمنين من أهل الكتاب هم الآن مسلمون!

وهذه سورة النساء قد حفلت بتعاليم تختص بالضعفاء من النساء والأيتام والمستضعفين، وما لهم من الحقوق في الأموال وفي الرعاية، بل وبأحكام القتال في سبيل تحرير المستضعفين، وفي إدانة من رضي بالضعف وأن يبقى في دار هوان!

وهذه سورة المائدة قد حفلت بتعاليم العقود والأطعمة والصيد، والعلاقة مع أمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكيف يضرب الله مَثَلَهم على الانحراف عن الدين، وما صنعوه من التبديل والتحريف، وما أفضى بهم هذا إلى عصيان الله والاستكبار على أنبيائهم!

وهذه سورة الأنعام، تفتح بعد حديث طويل متين عن الله وخلقه وقدرته واستحقاقه العبادة والحكم، تفتح مسائل الأطعمة والزروع والثمار!

وهذه سورة الأعراف تتلو قصص الأعداء، بداية من الشيطان مع أبينا آدم، وتعرج منها على أحكام اللباس والثياب والزينة، ثم تمضي مع مواكب الأنبياء مع أقوامهم، وكيف كانت الأمم تتعامل مع أنبيائهم، ثم تتوقف السورة وقفة ضخمة طويلة مع أمة بني إسرائيل التي حملت الرسالة فلم تقم بها ونكثت عهد الله معها، وكيف أنهم جحدوا نعمة الله حين أنقذهم من فرعون ومكنهم في الأرض ثم التمسوا معصيته وعدم القيام به.. وهو تحذير شديد لأمة المسلمين التي أنقذها الله من الفرقة والخلاف والضعف، فأرسل فيهم رسولا وأنزل فيهم كتابا!

ثم تأتي سورة الأنفال ليكون حديثها كله في القيام بأعباء الرسالة والقتال في سبيل هذا الدين، وفي بيان أحكام الغنائم، وجملة من أحكام القتال مع الأعداء ومع الأسرى، وواجب الأمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاتحاد في القتال!

وبعدها سورة التوبة التي نزلت بالأحكام النهائية للقتال والحج والعلاقات الإسلامية الدولية، كما أنها فضحت المنافقين الكامنين في المجتمع المسلم، وكيف تكون أساليبهم، من بث الشائعات والاستهزاء بآيات الله والسخرية من المؤمنين والتثبيط عن القتال، بل حتى بناء المساجد يمكن أن يكون للصد عن سبيل الله!! وبينت السورة كيف يكون التعامل معهم، وكيف أن بعض الأعمال التي يرتكبها المؤمنون قد تفضي بهم إلى النفاق كالبخل والتكاسل عن الجهاد ونحوها!

وهكذا.. ونحن لم ننظر بعد إلا في ثلث القرآن الأول وحده.. وبقية السور على هذا النحو، أحكام في العلاقات الدولية والقتال، وأحكام في الطهارة والاستئذان داخل البيوت!!

(4)

لئن كان هذا شأن القرآن في توعية المسلمين بأن هذا الدين هو حكم ونظام وسلطان ودولة.. وهو ما يعالج المعضلة الأولى: معضلة الفهم! فإن هذا كله كان محفوفا بأمر آخر يعالج المعضلة الثانية..

لقد كانت هذه الأحكام والتعاليم محاطة ومغشية من قبله وبعدها بآيات هائلة عظيمة تذكر المسلم بقدرة الله وقوته وحكمته، وبديع ما خلقه في النفس وفي السموات وفي الأرض، وبأن هذه الحياة كلها اختبار وامتحان وأن المصير والأجر والنهاية ستكون في يوم القيامة!

أي أن أحكام القرآن ليست مجرد بنود قانونية تخاطب العقل والفكر.. لا، إنما هي ثمرة العبادة والخشية والمحبة لله.. وأنها مهمة عظيمة لا يقوم لها إلا أفذاذ الناس الذين آمنوا بالله وتعلقوا به وطلبوا بجهادهم الدار الآخرة!

إنه ما من قارئ يقرأ القرآن الكريم ويقف متأملا بعض التأمل فيه، إلا ويخرج منه متشبعا بشأن الدار الآخرة، فهي الأمر الحاضر القريب الدائم، كما يخرج منه زاهدا بشأن الدنيا التي ستفنى والتي لطالما مرَّ عليها مواكب السابقين فلم يبق منهم سوى الأخبار والأحاديث.

إن التوقف مع سيرة الموت الذي ستذوقه كل نفس، ومع سير المُكَذّبين، ومع سير الأنبياء، ومع آيات اختلاف الليل والنهار، وانقضاء الشهور والسنين.. كل هذا يبث في النفس خاطرا دائما بأن الحياة ذاهبة والأيام ماضية وما انقضى لن يعود وما قد جاء لن يبقى!

فمن قرأ القرآن الكريم وامتلأ من هذا الشعور انبعث بعده عاملا متحركا ساعيا باذلا قائما في الحياة بما يحب الله، راجيا وجه الله والدار الآخرة، متسلحا بهذا الإيمان وهذه الخشية في وجه ما يراه من الصعوبات والتحديات والمشكلات!

لهذا ما تكاد سورة من سور القرآن، إذا استمع إليها المرء وفهمها، إلا ويراها طاقة هادرة جبارة تنزعه من الخمول والضعف، وتهيئه للمهمة العظيمة التي هو مكلف بها في واقع الحياة!

(5)

فلو كانت الأمة تتلو القرآن حق تلاوته، وكان علماؤها وواعظوها –الذين هم ورثة الأنبياء فيها- يبينونه للناس ولا يكتمونه، لكان العيد الذي يأتي على المسلمين عيدًا آخر!

كان سيكون عيد أمة منتفضة وثابة، منبعثة وهاجة، مجاهدة مقاتلة، نازعة عنها ثوب الضعف والخور والذلة والمسكنة، قائمة في وجه أعدائها، ثائرة في وجه منافقيها!

لقد كان القرآن يُتلى على المسلمين الأوائل فكانت أعيادهم عزا ونصرا ومجدا، وكم قاتل المجاهدون في رمضان نفسه، وما ذلك إلا أنهم كانوا عاملين بما يعلمون وما يقرؤون، فقد عرفوا أن حقيقة العبادة هي إقامة الدين وبناء دولته وحكمه وسلطانه وكسر أعدائه!

كذلك نرى كم قاتل المسلمون في شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة.. ومن نظر في الغزوات والفتوحات رأى عجبا..

وإذن، فلقد كان المسلمون الأولون ينتفعون من القرآن ومن رمضان ما لا ننتفع نحن الآن بمثله أو بشيء منه.. فنحن الآن نصحو على أخبار غزة التي قد انفرد بها الأعداء يقطعونها تقطيعا ويمزقونها تمزيقا، بدعم ومساندة من المنافقين العملاء الحاكمين! ونصحو معها على أخبار لا تقل ألما بل تزيد في بورما وتركستان والهند والسودان وغيرها من ديار المسلمين!

إن أمامنا كفاحٌ شديد طويل لنحلّ هاتين المعضلتيْن: معضلة فهم القرآن، ومعضلة تطبيقه وتنفيذه.. ما يليق بأمة المسلمين أن تكون أجهل بكتابها من رجل جاهلي سمع منه بعض آيات! وما يليق بأمة المسلمين أن تظن أن هذا القرآن مما يحبه الملوك! وما يليق بأمة المسلمين أن ترى القرآن يقبل التعايش مع الباطل والظلم! وما يليق بأمة المسلمين أن تقبل بأن يكون القرآن محصورا في المساجد وأن يكون مجرد أصوات وهمهات وتنغيمات تتلى ولا أثر لها في واقع الحياة!

ليس القرآن الكريم أغنية.. وليس الذي يتلوه مطربا.. وليس المسجد مسرحا.. وليست الأمة في حاجة إلى مزيد من الغناء!

هذا القرآن نظام وحكم وسلطان، وهو داعية ثورة وحرب وجهاد.. وهذه المساجد هي مصانع المجاهدين المقاتلين المناضلين الذين زهدوا في الدنيا وأقبلوا على الآخرة!

فإذا عاد هذا الحال كما كان، عادت أعيادنا أعيادا كما كانت!

نشر في مجلة أنصار النبي - إبريل 2025م

الثلاثاء، مارس 04، 2025

طوفان الأقصى - إطلالة على كتاب مهم

 صدر قبل أيام كتابٌ مهم، كتبه مجاهد غزيٌّ باسم: أحمد أبو صهيب، والكتاب بعنوان: "طوفان الأقصى سياقات ومآلات"، نُشِر على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو كتيب صغير على أهميته لم يبلغ ثمانين صفحة. ولأهمية هذا الكتاب، فقد جعلت هذا المقال تلخيصا لأهم ما فيه، وإن كان التلخيص لا يغني عن الأصل.

أراد الكاتب المجاهد، الذي يكتب من قلب المعركة، أن يجاهد باللسان كما يجاهد بالسنان، لا سيما بعد اندلاع السؤال الكبير: هل كان طوفان الأقصى قرارا خاطئا؟

(1)

يشير المؤلف إلى أن هذا السؤال ليس نابعا في الأصل من قراءة موضوعية، بل هو مضَمَّخٌ بطعم الوحشية الدموية التي ألهبت أهل غزة بنيرانها، فكثير من الخائضين فيه هم من المستهدفين بخطة الصهاينة: كيِّ الوعي!

ومن ثَمَّ فأول ما ينبغي عمله في الإجابة عن هذا السؤال هو تذكر أصل القضية وجوهر الصراع، والنظر إلى قرار طوفان الأقصى ضمن مسار الكفاح الكبير، ليحسن فهمه، وتقييمه، ووضع اليد على ما فيه من الصواب أو الخطأ.

من ها هنا يبدأ الفصل الأول: سياقات الطوفان

ليس أهل فلسطين بدعا من الشعوب التي وقعت تحت الاحتلال؛ وجميع تلك الشعوب التي جاهدت الاحتلال دفعت الثمن العظيم لقاء هذا التحرر، وهذا الثمن العظيم تدفعه الشعوب الضعيفة وهي تواجه الاحتلال بأكثر مما تدفعه قوات المحتل نفسه، والمنتصر هو أصبرهما، حين يوقن المحتل أنه لا يستطيع تحمل هذه التكلفة فيرحل، بعد أن يكون قد أثخن في الناس كثيرا كثيرا كثيرا.

وما من شعب تحرر إلا وكان ضحاياه أكثر من ضحايا المحتل نفسه! وكثيرا ما كان التحرر قضية أجيال لا ينتهي في جيل واحد، بل إن الجيل الذي هُزِم يورث الجيل القادم مهمة التحرر، فإن استطاع الجيل فبها ونعمت وورث جيل الأحفاد بلدا محررا، وإلا واصل جيل الأحفاد مهمتهم من جديد.

وواجب الكفاح هذا ليس قرارا تختاره فئة من الشعب المحتل، بل هو واجب على الجميع أن يؤديه، والناكص عنه جبان أو خائن، ليس حكيما أو محايدا!!

(2)

فإذا نظرنا إلى الحال، كيف وصل قبل الطوفان، فسنرى بوضوح أن الصهاينة كانوا يتخوفون من ثلاث جهات: إيران، لبنان، غزة. وقد كانت مناوراتهم العسكرية في الفترة الأخيرة تحاكي حربا متزامنة على ثلاثة جبهات.

وإلى أن تأتي لحظته المناسبة –سياسيا وعسكريا- لخوض هذه الحرب الكبيرة، فإنه تعامل مع غزة على طريقة المُسَكِّنات التي تعالج الصداع والأعراض، وأهم ما في هذه الطريقة: المضاعفة المستمرة لاحتياطاته الأمنية برا وبحرا وجوا:

فالسياج البري العازل تتراكم طبقاته الأمنية ومجسّاته الأرضية حتى استطاع إفشال عمليتيْن كبيرتيْن عبر أنفاق هجومية لاتخاذ أسرى، فقُتل جميع المنفذين وبذلك أخفقت وسيلة الأنفاق الهجومية. وضاعف تعقيداته الأمنية بحريا، وضاعف من قوة منظومة القبة الحديدية جوًّا بحيث لم يعد أمام المقاومة إلا رمي 100 صاروخ دفعة واحدة لكي يفلت منها بضعة صواريخ، وهو استنزاف هائل لقدرات المقاومة.

وهذا فضلا عن تشديد الحصار –الذي يشارك فيه بهِمَّة: النظام المصري- وعن ضربات يسددها العدو بين الفينة والأخرى ليمنع تراكم القوة لدى المقاومة ويختبر ما عندها.

ووراء كل هذا: الحرب الأمنية المجنونة التي استطاع فيها العدو كشف أمور كثيرة مهمة –بفعل تفوقه التقني وقدراته التجسسية الهائلة- من خطط المقاومة ومقدراتها، وكان أي نجاح صغير في هذا الجانب الأمني ينسف عمل السنين الطويلة والأموال الطائلة والجهود الشاقة.

وأما المقاومة في غزة، فقد حاولت مرارا، بالأساليب السياسية والعسكرية أن تتخلص من الحصار، وأن تتخلص كذلك من محاولات عزلها عن القضايا الجوهرية: القدس والأسرى والأرض، وأبدت من المرونة السياسية، وكذا من العبقرية العسكرية، ما اصطدم في النهاية بواقعٍ عربي يريد إنهاءها، حتى قررت بعد 2014م ألا تخوض معركة كبرى مع الاحتلال إلا إن كان سيؤدي إلى تحقيق هدف ملموس في قضية كبيرة مثل القدس والأسرى، كي لا تكون مجرد استنزاف!

(3)

انبثقت فكرة الطوفان، بالمصادفة ضمن مسيرات العودة، التي كشفت عددا من الثغرات في السياج البري، وكان لا بد من العمل السريع والسري على استغلال هذه الأمور، فإن تنبه العدو لثغرة عنده أو تسرب معلومة له قد يعني ضياع الفرصة.

كان تقدير المقاومة هو القيام بهجوم واسع على مواقع العدو المحاذية للقطاع، وأن هذا الهجوم سيفشل على أغلب المواقع، غير أن الصدمة التي سيحققها، وبعض الأسرى الذين سيمكن أخذهم سيؤدي إلى ردة فعل قاسية لكنها محتملة في النهاية، وسيمكن بهؤلاء تحقيق إنجاز في قضية مثل: القدس والأسرى.

وقد أخفق تقدير المقاومة؛ فلقد نجح هجومها نجاها باهرا لم يكن متوقعا، كما أن ردة الفعل الصهيونية الهائلة لم تكن في الحسبان!

لقد كان الطوفان واحدًا من أعظم العمليات العسكرية المدهشة عبر التاريخ؛ كما كانت حرب الصهاينة على غزة واحدة من أكثر الحروب توحشا ولا أخلاقية كذلك!

(4)

ثارت الكثير من الأسئلة، ولكن أهمها ثلاثة:

1.    هل كان الأفضل تأجيل الهجوم حتى نكون أكثر قوة؟

2.    هل كان ينبغي أن يكون صغيرا محدودا لئلا يترتب عليه هذا العنف الهائل من العدو؟

3.    وهل قدم الهجوم ذريعة لوحشية الاحتلال؟

لو فكرنا في تأجيل الهجوم، فماذا كان سيكون؟

إن الأرض في النهاية لن تتحرر بالمعارك والمناوشات الصغيرة، فإن لم نهاجم اليوم فسنهاجم بعد مدة، وفي هذه المدة سنكون أكثر ضعفا وسيكون العدو أكثر قوة لأن الزمن وتراكم القوة يعمل في صالحه، فنحن شعب محاصر يزداد التضييق علينا، وهو عدو مفتوحةٌ له الأبواب والخزائن بالأموال والسلاح والتقنيات.

ما من يومٍ إلا والميزان يميل لصالح العدو أكثر فأكثر، ولم يكن بعيدا ذلك اليوم الذي تتطور فيه أسلحة العدو ومنظومة قبته الحديدية لتصير كل أسلحتنا وصواريخنا غير فعالة ولا قيمة لها، ولا نأمن في كل يوم أن ينكشف لنا سرٌّ أو خطة أو يتمتع العدو بمزية تقنية جديدة تكشف له الأنفاق ومخازن الصواريخ وأماكن قادة المقاومة، فيسدد لنا الضربة القاضية أو نعجز أن نفعل شيئا مطلقا أمام خطوة جديدة منه: سياسية أو عسكرية، وخطة الطوفان نفسها كان يمكن أن تفشل تماما لو أضيف تحسين أمني جديد بقصد أو بغير قصد على السياج العازل.

كذلك فإن الانتظار قد يعني موت القضية، فلقد كانت أن القضية تتعرض لضربات موجعة بموجة التطبيع الخليجية والتي تبعتها حملات كبرى لتقزيم القضية والتملص منها وجعلها قضية الفلسطينيين وحدهم، كذلك هذا التهديد المستمر للأقصى واقتحاماته المتكررة، وهذا حال المقاومة في الضفة والداخل يزداد ضعفا.

فماذا لو فكرنا في تصغير الهجوم؟

إن الذي تحقق أصلا كان مفاجئا للمقاومة كما هو مفاجئ للاحتلال، فلم يكن المتوقع نجاحٌ بهذا القدر ولا أسر كل هؤلاء، ولكن لو رجع بنا الزمن فقررنا تصغير الهجوم، فماذا كان سيكون؟ معركة صغيرة جديدة كالمعارك السابقة التي تستنزف غزة وتحتاج من بعدها سنوات لتعويض ما فقدت، وعودة إلى نفس الحال. هذا مع أن رد فعل العدو ليس مضمونا كذلك، فإن هذا العدو الخالي من كل أخلاق، والذي تتقبل كل الدول جرائمه بطيب نفس، والذي يتمتع بدعم إقليمي أيضا.. إن هذا العدو غير مقَيَّدٍ بشيء في ردّ فعله!

لو كان الهجوم أصغر من ذلك فنحن الخاسرون، لأن الأسرى الذين بأيدينا سيكونون أقل بكثير مما حصل فعلا، أي أن تصغير الهجوم لن يؤدي إلا تصغير الأوراق التي معنا، دون أن نضمن صِغَر ردّ الفعل. لو كنا سنندم على شيء فهو أن الهجوم لم يكن أكبر من ذلك، وأننا أسرنا فقط ما بين 250 – 300، فيا ليته كان بأيدينا 2500 – 3000 أسير، ولكن ما من أحدٍ كان يتوقع أن يكون العدو بهذه الهشاشة!!

إن التجربة مع الصهاينة تؤكد أن هذا العدو لا يتورع عن توحشه، لأنه لا قيد عليه من أحد! لا سيما وأن استخبارات المقاومة كانت ترصد خطط العدو لهجوم شامل مفاجئ تضرب فيه القيادات الأولى والمفصلية، وكذلك فإن خطط الاجتياح البري لغزة كانت موجودة ومعدة وتنتظر التحسينات النهائية عند لحظة اتخاذ القرار، ومثلها خطط اجتياح جنوب لبنان والجولان، كل هذا كان موجودا ينتظر اللحظة المناسبة، فلم يكن العدو يتجنب المواجهة مع هذه الجبهات، بل كان يؤجلها إلى لحظة مناسبة.

لقد فاجأه الطوفان وانتزع منه زمام المبادرة، ومعها كثير من الأسرى. لكن التوحش الذي نراه الآن كان سيحدث في كل الأحوال ولو لم يكن ثمة طوفان، لسبب بسيط: أن العدو يرى في هذا التوحش ضرورة عسكرية لصدم المقاومة وإفقادها السيطرة، لذلك فهو ينفذه كجزء من الخطة العسكرية، وبغير ضرورة عملياتية، فإن من أهداف العدو ومقصوداته: تهجير الناس وتوسيع دولته، وهذا لا يكون بغير توحش صادم وهائل! وهذه العقيدة لدى العدو حاضرة قبل الطوفان وبعده، سواء وقع الطوفان أم لم يقع.

(5)

لو أن ثمة خللا لدى المقاومة، فهو الخلل في تقدير ردّ الفعل الصهيوني، وهو الأمر الذي بُنيت عليه خطط الدفاع، وخطة الإدارة الداخلية.. ولكن من ذا يستطيع أن يلوم المقاومة إن كان هجومها قد نجح بأعلى بكثير من المتوقع؟! كما أن في محاولة علاج هذا الخلل بأثر رجعي نسيانٌ لأمور وتفاصيل كثيرة كانت مراعاتها جزءا من خطة السرية التي رافقت الطوفان. إنه ما من أحد، سوى أهل المقاومة أنفسهم، يستطيعون تقدير البدائل الأفضل في حالة كهذه.

وإذن، فقد يسأل سائل: من المسؤول عما وقع؟

والجواب بوضوح: إنه لا يُسأل الذي قام بواجبه لماذا قمت بالواجب؟ بل يُسأل الذي لم يقم بواجبه لماذا لم يفعل؟.. لئن كانت غزة قد فعلت أقصى ما بوسعها بل حققت معجزة، فالسؤال ينبغي أن يُقال بعد ذلك لسائر الذين لم يقوموا بواجبهم: في فلسطين المحتلة، وفي المحيط العربي، وفي العالم الإسلامي، وفي الخارج العالمي كذلك!.. فلو أن هؤلاء جميعا قد قاموا بواجباتهم كما قد قامت به غزة، ما استطاع العدو أن ينفذ هذه المذبحة المروعة!

إن البعض يتعامل مع قضية فلسطين بمبدأ: نتمنى تحرير فلسطين، وليس بمبدأ: نريد تحرير فلسطين. فإن الإرادة تبعث عملا محموما، بل وتبعث في صاحبها روحا ووعيا يفهم بها ومعها أن الثمن اللازم لتحرير فلسطين لن يكون أقل من الثمن الذي دفعته الشعوب المحتلة، وما أعظمه! بل سيكون أكبر من هذا الثمن لخصوصية هذه القضية وقداستها! وما دُفِع حتى هذه اللحظة ليس إلا جزءا من الثمن، ولا ندري هل ما بقي منه لا يزال هو الجزء الأكبر؟!

(6)

هل انتصرنا؟

إن الثورات وحركات التحرر لا تنتصر بالضربة القاضية، بل بالضربات المتراكمة المستمرة الصبورة الدؤوبة، النصر سيكون من نصيب الأصبر الأقدر على النهوض بعد كل ضربة! من نصيب الأعلى حظا من الأمل والأكثر استمساكا بحقه!

لهذا فإن حسبة القوة المحتلة غير حسبة الواقع تحت الاحتلال، يكفي الواقع تحت الاحتلال أنه لم ينكسر ولم ينهزم، أما قوة الاحتلال فإن لم تنتصر فقد انهزمت، وإن لم تحقق أهدافها فقد خسرت! وقد تنتهي سائر الجولات على شعب لم ينتصر، لكن النهاية تكون رحيل الاحتلال الذي هو نفسه قد انتصر في سائر الجولات الصغيرة. ولم نذهب بعيدا؟ فهذه الثورة السورية، سائر جولاتها أنها الخاسرة، لكنها انتصرت في النهاية بعد ضربات كثيرة مؤلمة، وحين يأتي النصر تتحول التضحيات إلى مفاخر!

ربما يقال: نحن في هذه الجولة لم تنتصر، ولكن في الأحوال جميعها نحن من سيقرر إن كنا سننهزم أم لا.. فالهزيمة قرار يملكه كل أحد!

(7)

لقد أخفق العدو في استراتيجيته: تصفير الأخطار.. لقد انتهت هذه الحرب، ولا تزال الجبهات الثلاثة: إيران ولبنان وغزة قائمة وقادرة على التهديد حتى بعد تعرضها لضربات مؤثرة، وحتى غزة التي هي أضعف هذه الجبهات والتي انصبت عليها النيران الكبرى لهذه الحرب، لم تزل المقاومة هي التي تديرها وتحكمها، وقد فشلت سائر المحاولات الإسرائيلية في تهجير أهلها –لا سيما أهل الشمال الذين أنجزوا بصمودهم أسطورة خاصة بهم- وفي حكمهم مباشرة أو عبر أجسام مدنية، ولا يزال بعيدا أن تستطيع قوة ما حكم قطاع غزة دون رضا المقاومة أو بالتفاهم معها.. كذلك لا يزال بعيدا أن تقول إسرائيل بأنها قد أمنت نفسها من التهديد الغزي.

كذلك فشلت إسرائيل في سحب القوى الدولية لتفتح جبهة إيران، وهي الجبهة التي لا تستطيع أن تفتحها بنفسها منفردة، وانتهى الحال ولا يزال التهديد الإيراني قائما.

كذلك جبهة حزب الله في لبنان، لقد فوجئ العدو بعد كل استعداداته بما لم يكن يتوقعه من استعدادات، ومع أنه نفذ ضربات جريئة جدا ليجرّ الحزب إلى حالة الحرب، بقي الحزب متمسكا بحالة جبهة الإسناد، وبقي حتى النهاية متمسكا بضرب المواقع العسكرية فقط دون التصعيد باستهداف المدنيين! ففي الخلاصة نجح العدو في إضعاف الحزب لكن لم يقترب إطلاقا من إزالة خطره عليه.

ثم جاء النجاح المفاجئ للثورة السورية، وفي كل الأحوال فإن مآلها سيكون أنها جبهة جديدة خطرة على المشروع الصهيونية!

انتهت المساحة المخصصة للمقال، ولم يزل ثلث الكتاب الأخير باقيا.. فلعل ما سبق يكون محفزا لقراءة الكتاب نفسه.. والله المستعان.