كان يوما في غاية الثراء والامتلاء بالتفاصيل، ويمكن أن يكتب كثيرا في أشياء كثيرة، غير أن أهم ما ينبغي أن يُكتب –برأيي- هي الدروس المستفادة من هذا اليوم.
ثمة ملحوظة انتشرت جدا في إعلام النخبة مفاده أن الإسلاميين نقضوا العهد ورفعوا شعارات مخالفة، وهذا قول خاطئ تماما، فالذي اتفق لم يكن إلا جماعة الإخوان المسلمين وهؤلاء التزموا بما اتفقوا عليه، غير أن الميدان لم يكن قاصرا على الإخوان، كان فيه سلفيون وأعضاء من الجماعة الإسلامية، ومن جماعة الجهاد، وإسلاميون مستقلون.. وهؤلاء أيضا فصائل وشرائح، وقد صرح د. صفوت حجازي بأن اللجنة التنسيقية لجماهير الثورة المصرية (وهي الكيان الذي يضم تحالفات وائتلافات الثورة) لم يتفق مع أحد على أي شيء إلا على تسمية الجمعة "وحدة الصف والإرادة الشعبية".. أعرف أن ثمة مجموعة من الشباب حاولت صنع حالة من التوافق لكنها اكتشفت فشلها في ذلك، ربما لم يعلموا أن من حاولوا الاتفاق معهم ليسوا كل الميدان، وربما علموا وأحبوا تبرير فشلهم بالإنحاء باللائمة على الإسلاميين!!
***
الدرس الأكبر المستفاد أن الإسلاميين قوة لا يمكن تجاوزها في هذا البلد، بل هي القوة الرئيسية فيه، وقد اتخذت التيارات غير الإسلامية قرارا فادح الخطأ حين أعلنت انسحابها من الميدان فأثبتت من تلقاء نفسها ودون ضغط من أحد أنها لا تساوي شيئا ذا بال على المستوى الجماهيري، وأنها مجرد صوت عال. ولست أدري كيف اتخذوا هذا القرار الخاطئ تماما والذي لم يستفيدوا منه شيئا، بل لحق بهم ضرر انكشاف حجمهم ثم ضرر إعادة شق الصف (الذي أراد له البعض أن يبدو متوحدا، ولم يكن يستطع).
ليس هذا تعاليا ولا غرورا، ونعوذ بالله من هذا، ولا أقصد به –والله- إلا مجرد التوضيح لصورة واضحة لم يعد التشويه فيها مجديا. كما أن الخطأ الأكبر الذي يرتكبه الإسلاميون أن يتوقفوا عند هذه الصورة للمفاخرة بأعدادهم، فكم من أعداد كثرت ولم تغن عنهم من الله شيئا.
وعلى الجميع أن يتذكر أن الإسلاميين لم يحاولوا "استعراض عضلاتهم" إلا حين بدا أنهم لا يُحترمون ولا يلقى لهم بال في هذا الوطن رغم أنهم مكونه الأصيل، حين استجاب المجلس العسكري لطلب بوضع وثيقة حاكمة ومبادئ فوق دستورية، وهذه إهانة لهم وانقلاب على إرادة شعبية ما كان لهم أن يسكتوا إزاءها، ولم يكن ينفع الصبر في موطن الاستهزاء والاستفزاز، وقد قال الشافعي: من استُغضب فلم يغضب فهو حمار.
***
وأما الدروس المستفادة فهي بنظري كالآتي:
دروس للإسلاميين:
1. الإسلاميون طاقة كبيرة ينقصهم اتفاق القيادات وتوحدها وإدراكها اللحظة.. كم ستكون جريمة وعارا في حق قيادات العمل الإسلامي الآن إن سرقت الثورة على يد فصائل هامشية أو على يد العسكر.
2. الإسلاميون أقرب لبعضهم من غيرهم، وفي وقت الشدة لن يجدوا أحدا معهم، لا نخبة، ولا إعلام علماني، ولا عسكر، ولا تيارات أخرى.
3. الإسلاميون بحاجة إلى ترشيد، كثير من سنوات القهر والكبت جعلت رد الفعل عفويا جدا، وفي هذه العفوية كثير من الشدة والغلظة والخطاب الجاف الذي لا يليق أن يكون سمتا للإسلاميين.
4. سلوك المجلس العسكري بعد هذه الجمعة سيحدد كثيرا من نواياه، فإن كان مخلصا فيما يعلن فسيثتمر هذه الجمعة في مقاومة ضغوط النخب العلمانية والخارج، وإن كان غير ذلك فسيبدأ في إعادة إنتاج الفزاعة الإسلامية داخليا وخارجيا، وفي ضرب القوى السياسية بعضها ببعض، فإما بدأ بإغراء الإسلاميين حتى ضرب الآخرين (كما فعل عبد الناصر من قبل) أو بدأ بالعكس (كما هو في نموذج الجزائر).. وعلى الإسلاميين أن ينتبهوا لهذا جيدا ففيه يكمن طريق المستقبل كله.
5. ضرورة الخروج من حالة رد الفعل إلى حالة المشاركة في صناعة القرار، وهو حق أصيل، ولا يستحق أحد مهما كان ومهما بلغ أن تضع فيه ثقة مطلقة، ولو كانت هذه المظاهرة قبل شهر مثلا، لاختلف الوضع بوضوح!
للمجلس العسكري:
1. ما زالت التيارات الإسلامية تثق في الجيش وتؤيد بقاءه دون غيره لإدارة الفترة الانتقالية، إلا أن هذه الثقة قد تعرضت لخدش كبير بإعلان الوثيقة الحاكمة، فكانت مظاهرات اليوم أقرب إلى العتاب، ومحاولة تشكيل ضغط مقابل ليظل الجيش مستمسكا بموقفه في حماية الشرعية.
2. الإسلاميون أحرص التيارات على الهدوء والاستقرار ولم يحاولوا النزول أو استعراض القوة إلا حين بدا انقلاب المجلس العسكري على الإرادة الشعبية والاستهانة بهم لسكوتهم.
3. من دواعي الوطنية والحرص على مصلحة البلاد ألا يُعامل هذا التيار بالتجاهل فضلا عن الإقصاء والهجوم.
4. اللحظة الآتية هي الأمثل في استيعاب هذه التيارات بما لا يخلق مشكلات خارجية أو داخلية، ذلك أن إجراء الانتخابات في أقرب وقت هو الكفيل بوجود تمثيل واسع للتيارات السياسية في ظل عدم منافسة الإسلاميين على الأغلبية البرلمانية، وفي ظل عدم استعداد كثير من الفصائل الإسلامية لدخول معركة الانتخابات إما لأنها خرجت حديثا من السجون وتحتاج الوقت لتنظيم نفسها ومؤسساتها من جديد وإما لأن العمل السياسي كله غريب عليهم ويشعرون إزاءه بالتردد.. إن أي تأجيل للانتخابات يعطي فرصة متزايدة للإسلاميين على حساب غيرهم، وفي هذا ما قد يثير مخاوف داخلية وخارجية تجعل التحول الديمقراطي أصعب إزاء هذه المخاوف التي لا يسعكم تجاهلها كما يعرف الجميع.
5. كذلك فإن الإسراع بالانتخابات هو القادر على تحويل الحراك السياسي والصراع السياسي في مصر إلى حراك مأمون الجانب، يسلك مسارات سلمية هادئة كالانتخابات والاحتكام إلى القضاء ومؤسسات الدولة، فيم يعني التأجيل للانتخابات أن يظل الوضع قلقا مضطربا عند الجميع، فالكل يخاف على نفسه ويخاف من خصمه السياسي، ولا يجد أحدهما إلا الشارع سبيلا لحل النزاع، وهو وإن كان سلميا إلى هذه اللحظة فإن طول فترة القلق والاضطراب قد تدفع إلى غير هذا، فالمندفعون والمتهورون والمتحمسون موجودن لدى كل الأطراف، وهم عامة خارج السيطرة ويستطيعون إشعال المواقف لا سيما إن تمت اختراقات خارجية دفعت بهم في إطار خطة نشر الفوضى!
للتيارات غير الإسلامية:
1. التوافق واحترام كل الأطراف أفضل للجميع، وحالة العداء الشديد والهجوم العنيف التي ترتكبها وسائل الإعلام ليست في صالح أي طرف، وهي لا تؤثر فعليا في ميزان القوى، فمن المصلحة الوطنية ألا يتم التهييج والتحريض ضد طرف أصيل، ما زال قائما ومتواجدا رغم ما نزل به في المائتي عام الأخيرة عموما، وفي الستين الأخيرة منها على وجه الخصوص.
2. سيكون أبشع ما تفعل أن تأخذ من هذا اليوم بعض التفاصيل والمواقف لكي تريح ذهنك وتثبت وجهة نظرك وتظل على رأيك، من طبيعة من يحترم نفسه أن يحاول قراءة المشهد بما يضيف إليه جديدا لا البقاء على الحال الأولى، والتركيز على الأخطاء لن تغير –على الأقل في المدى القريب. وفي ظني ولا البعيد- من تأثير وجود التيارات الإسلامية بين الناس، فمن المستفيد من حالة الاستعداء هذه إلا أطرافا غير وطنية؟
3. ما زال الإسلاميون –لا سيما المُمَثَّلون في جمعيات منظمة كالإخوان وكثير من السلفيين والجماعة الإسلامية- على استعداد لتوافق وطني في الانتقال بهذا الوطن إلى حكم ديمقراطي رشيد، وحتى إن وصل الإسلاميون إلى السلطة في ظل نظام مدني حديث فإن حرية النقد والاعتراض والهجوم ستكون أفضل منها ملايين المرات في ظل حكم عسكري –هو بطبيعته سينزع نحو الاستبداد- فحينئذ لن يكون مسموحا بالوجود إلا للمتملقين المنافقين، وسيتم ضرب الجميع.. وأولهم كل من ظن في أن الحكم العسكري خير من حكم الخصم السياسي!
4. لو أن قنواتكم وصحافتكم فتحت لرؤية هؤلاء بصدق لتغيرت كثير من المفاهيم وذهبت كثير من المخاوف وانتزعتم من صدور الكثيرين أسبابا للعداء.. ولمجرد التدليل على هذا: قارنوا بين ردة الفعل الإسلامية على لقاءيْ الشيخ حازم أبو إسماعيل مع كل من إبراهيم عيسى ويسري فودة، فعيسى حين حاول التحريض والتهجم والتسفيه من كلام ضيفه اكتسب عداوات جديدة كثيرة، على عكس ما فعله فودة الذي اكتسب احتراما كبيرا من كل المختلفين معه سابقا حين أدى دوره بمهنية واقتدار.
5. الحقيقة التي أحب تذكيركم بها، أن شق الصف وزرع الاستقطاب بدأ من صحافتكم وقنواتكم، واستمر فيها وترعرع وتضخم ونما، ومنها أيضا يمكنكم الرجوع إلى حالة التوافق الوطني.. فالكرة في ملعبكم، والأمر إليكم فانظروا ماذا تفعلون؟
***
لن يخلو عمل من سلبيات، غير أن سلبيات أي عمل لا تدفع من قاموا به إلى تغيير كل منهجهم، وهذا ما ينطبق على الجميع، والأحرى بالنقد والتصويب أن يكون هادئا محبا لكي يجد آذانا صاغية.. أقول هذا، وأعلم أن البعض يراني لا أجيده، وقد يكون الحق لديهم، غير أنني وإن بدت مني حدة فإنها تنطلق من مصلحة وطنية خالصة، والله على ما أقول شهيد!
نشر في شبكة رصد الإخبارية
متفق معك يا باشمهندس إلا فى تسمية اليوم جمعة الإسلاميين
ردحذفدكتور أبو مروان
مقال رائع كالعادة ماشاء الله ..
ردحذفتحليل مُتزن ومُنصف ..
استمر وفقك الله ..
ما شاء الله
ردحذفاصبت ايما اصابه
ورأيت الميدان فى هذه الجمعه ( جمعة الاسلام ) كما لو انك عايشت كل من كان فيها فردا فردا فصيلا فصيلا
رؤيه ثاقبه وافق واسع
شكراً لك ولقد استفدت كثيرا من بوستك
تحياتى
تحليل عقلانى شكرا يا محمد
ردحذفيا أخي محمد تحليلك ما شاء الله منطقي وفيه كثير من حسن النية
ردحذفعلشان كده انت حنين على العلمانيين
يا أخي وسائل الإعلام هى وسائل إعلام رجال الأعمال في عهد المخلوع
يعني كانت أكتر ناس مستفيدة فهم أكتر ناس يهمهم أن يأتي من على شاكلتهم
يعني المفروض الإسلاميين لا يفكروا في التوافق مع أحد هم ليسوا طرف أصلا
أعتقد حان وقت تحقيق المكاسب على الأرض بأقصى سرعة قبل أن تتغير الظروف الخارجية على الأخص
وأعتقد أهم شيئ يجب البدء به وثيقة حاكمة للإعلام لكي تلزم الكل بالمهنية فبذلك سيفقدون أهم أسلحتهم وهو الكذب
ربنا يوفقك إلى ما يحب ويرضى, أحبك في الله
ردحذفالسلام عليكم
ردحذفلا فض فوك أخي الكريم..
متابع لقلمك الواعي وفكرك الناضج وأسلوبك الراقي ومنهجك الهادئ الراشد..
رابط مدونتك مدرج في مدونتي منذ فترة ليستفيد قرائي من كتاباتك كما حظيتُ سابقا بهذه الفائدة..
شديد الإعجاب بالفوائد التي اجتهت في استخلاصها، وأؤيدك تماما في تحليلك القيم.
كل عام وأنت بخير وتقبل الله طاعتكم..
تحياتي وتقديري..
كيف يظن ذو عينين مجرد ظن أن من يشتم الجيش علانية ويقبض عليه الجيش من الشارع بلافتات يسخر فيها من سلطويته..ويؤسس منظمات لمنعه من المحاكمات العسكرية يريده أن يبقى؟
ردحذفبينما من يتعامى تماما عن مخالفات المجلس العسكري ولا يستنكر كل خروقاته التي اعترف هو بها - ومنها خروقات تنتهي بكل وضوح لعدم إقامة انتخابات ولا شيء - يريده أن يرحل ويقيم حكما ديمقراطيا؟؟؟
كيف وصلت لهذه النتيجة الغريبة؟
تقول سيادتك:
ردحذف"وعلى الجميع أن يتذكر أن الإسلاميين لم يحاولوا "استعراض عضلاتهم" إلا حين بدا أنهم لا يُحترمون ولا يلقى لهم بال في هذا الوطن رغم أنهم مكونه الأصيل، حين استجاب المجلس العسكري لطلب بوضع وثيقة حاكمة ومبادئ فوق دستورية، وهذه إهانة لهم وانقلاب على إرادة شعبية ما كان لهم أن يسكتوا إزاءها، ولم يكن ينفع الصبر في موطن الاستهزاء والاستفزاز، وقد قال الشافعي: من استُغضب فلم يغضب فهو حمار."
السؤال:
ولماذا لم يغضب الإسلاميون..أو حتى يعلقون على "الإعلان الدستوري" المخالف للشريعة الإسلامية بكل وضوح بتجميع كافة السلطات في يد المجلس العسكري بما يمنحه صكا للظلم؟؟؟؟
أين كانوا وأين كان ضميرهم الديني؟
المادة 56 فقط كفيلة بأن يخرج أي متدين عن صوابه لو علم أنه سيحكم على أساسها وطنه..
ما بالك بالمواد الأخرى التي "تؤله" مؤسسات ولجان بعينها وتجعلها فوق النقض والمحاسبة؟
ما هذا التناقض المزري في المواقف التاريخية؟
لمزيد حول هذا الخطأ التاريخي الرهيب .. والذي لم ينج منه الإسلاميون مثل غيرهم:
الانتخابات .. مجلس الشعب..الرئاسية: ابقى قابلني ..أو: ايه ضماناتك؟
http://www.facebook.com/note.php?note_id=154761987927685
البيان المبين في تفسير الاعلان الدستوري المهين
http://www.facebook.com/note.php?note_id=140196176050933
السلام عليكم
ردحذفبارك الله فيك اخي محمد واجري الحق علي قلبك و لسانك
ولعل الاحداث تثبت يوما بعد يوم ان اصحاب الحق مهما كانوا اقوياء و خصمهم ضعيف فانه لايقدر علي انتزاع الحق منهم الا بتفرقهم و تنازعهم فيفشلوا و تذهب ريحهم
و دعني افتقد محمد الهامي القوي في الحق الذي كان يقول لمبارك في عينه انت ظالم وخائن وعميل و اليوم يكسو كلامه اللين للحاكم البديل لمبارك
و دعني أتفق معك ان بالرغم من جمعة الوحدة و الدروس المستفادة منها الا انها لا تعدو أن تكون مظاهرة سلمية رد فعلية
اما الفعل الحقيقي و الوحيد و فريضة الوقت للجماعات الاسلامية الدعوية و السياسية هو توحيد الصف و توحيد المرشح الرئاسي