عمرو موسى ينتحر، ويثبت كل يوم أنه ابن بار من أبناء الدبلوماسية المصرية الفاشلة، وأن ما كان يُرى من اختلافه عن غيره من رجالها إنما هو نوع من خضراء الدمن، التي هي المرأة الحسناء في المنبت السوء، ولئن كان الناس ظنوا أنه بذرة صالحة نبتت في الجدب العربي كشذوذ عن القاعدة غير أنها لا تجد أرضا تحتضنها لتثمر، فإن عُمْر المناصب قد طال بالرجل حتى خاب الظن –والحمد لله- وثبت ماهو حق. ذلك أن “الذي خبث لا يخرج إلا نكدا” كما قال الله تعالى.
لقد انضم عمرو موسى إلى ركب الساقطين بجدارة، فأثبت أن الأمر ليس متوقفا عن عجز في إدارة المنظمة العربية المتشتتة والمتناحرة، بل إن اختياراته هو مشبعة بالتردد والتذبذب، حتى في تصريحاته بشأن ترشحه للرئاسة المصرية، وبعد أن كان –حينا من الدهر- يقول كلاما صريحا واضحا يمكن فهمه كما يفهم الناس لغاتهم، بدأت لهجته تتسم بالميوعة والضبابية والهلامية حتى كادت تفقد المعنى، صحيح أن المستوى لم يصل لرداءة لغة أحمد أبو الغيط الذي يقول كلاما يشبه شعر ما بعد الحداثة، إلا أن التحول من الوضوح إلى الالتواء فضيحة بحد ذاته. ولقد صار عمرو موسى يقول كلاما ثم “يلحسه” ببساطة –وهي عادة كنا نظنه بريئا منها- ثم أضحى وكأنه اعتاد السوء فلا حرج أن تسمع منه كلاما عن موت ودفن عملية السلام وعن إسرائيل التي هي فوق القانون، ثم بعد قليل تجده يتحدث عن السلام والعجلة والمسار والمفاوضات المباشرة وغير المباشرة.
وحين كانت غزة تحترق عبر أربع سنوات حتى الآن، لم يكن هم الرجل إلا أن يُصلح بين الفرقاء اللبنانيين الذين كانوا لا يستطيعون “تشكيل حكومة” وكل منهم له سلاح يحميه، ولم يلفت نظره مطلقا أن إلى جواره أناس لا يستطيعون “الحصول على الغذاء أو الدواء”، ليس لهم من دون إسرائيل سلاح.
وأخيرا.. أخيرا.. حين تحرك الصخر ونطق الحجر وظهر القمر في عين الشمس، أعلن عمرو موسى أنه سيزور غزة، وأرهق المحاصرين هناك بزيارتين لمساعده ليرتب له الأجواء، ثم وضع برنامج زيارة مهين كم كنت أتمنى أن ترفضه حكومة حماس الشرعية، (وبالمناسبة فشرعية حماس هي الشرعية الوحيدة في العالم العربي، وعمرو موسى نفسه لا شرعية له على الإطلاق ولم يتول منصبا واحدا باختيار من الناس)، ثم كانت زيارة قصيرة ميتة كل هدفها أن ينفي عن نفسه تهمة دعم حماس أو إضفاء الشرعية عليها، بل إنه التقى إسماعيل هنية –رئيس الوزراء الشرعي- باعتباره “القيادي في حركة حماس” لا “رئيس الوزراء”، هذا بعد أن زار عائلات “فتحاوية” والتقى مع مستقلين آخرين، والتقي مع غير ذوي موضوع، بل طلب في البداية أن يذهب إليه هنية في مقر استراحته ثم استقر الأمر على حل وسط تمثل في أن يزور هو هنية في بيته. ثم وقف في المؤتمر الصحفي إلى جوار إسماعيل هنية الذي كان يتحدث بينما عمرو موسى يحدث مستشاره غير مبال بأبسط آداب البروتوكول التي لا يجرؤ أن يخالفها في “حضرة” أي رئيس أو ملك عربي “غير شرعي”.
ويأبى أن يختم زيارته دون أن يسقط السقطة الكبرى، حين يصرح بأن أموال إعادة الإعمار موجودة بمقر الجامعة لكنها لن تخرج إلا بعد إتمام المصالحة!! هذه عبارة أقل ما يقال فيها أنها سفالة! فلا هي أموال عمرو موسى ولا أموال أبيه ولا حتى بذل جهدا في جمعها كي يكون له كلمة بشأنها، ولا هو بالوصي على الفلسطينيين لكي يحدد لهم متى يعطيهم “المصروف”، ولا أهل غزة فوضوه في شيء، ولا الذين تبرعوا بالمال اشترطوا لوصوله أن تتم المصالحة.
ليس عمرو موسى من خضراء الدمن، بل ممن يقال فيهم “والذي خبث لا يخرج إلا نكدا”.
وبهذا نبارك له الانضمام إلى ركب الساقطين المفضوحين، وعلى رأسهم حسني مبارك ومحمود عباس، وأكرم بركب مثل هذين على رأسه، وخلفهما ملوك وأمراء ورؤساء عصر الذل والخيانة. أما إسماعيل هنية وإخوانه الكرام فيعبر عنهم قول المتنبي:
أبدو فيسكت من بالسوء يذكرني … فلا أعاتبه صفحا وإهوانا
مُحَسَّد الفضل مكذوب على أثري … ألقى الكميّ ويلقاني إذا حانا
لا أشْرَئِبّ إلى ما لم يفت طمعاً … ولا أبيت على ما فات حسرانا
ولا أُسَرُّ بما غيري الحميد به … ولو حملت إلى الدهر ملآنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق