ليس يحتاج كاتب أن يتحدث اليوم عن الشرف التركي وعن خسة النظام المصري، تماما كما لا يحتاج أحد أن يثبت وجود الشمس، ولكن المشهد الواضح المتجدد كل يوم يستطيع في كل مرة أن يلهم القلم شيئا جديدا، تماما تماما، كما تستطيع الشمس أن تلهم العلماء كل يوم جديدا من أسرارها، وهي هي التي تشرق منذ كانت البشرية.
كانت إسرائيل “تعبر عن أسفها” بعدما تقتل جنديا مصريا، وهذا في حالة أن يعلن الجيش الإسرائيلي عن خطأ في إطلاق النار باتجاه الجانب المصري، أو في حالة أن يُكتشف الأمر بطريقة ما، ولكن ثمة جنود قتلتهم إسرائيل والتزم النظام المصري الصمت الوضيع، وعادوا في أكفانهم إلى أهلهم مصحوبين بالقول بأنه مات في حادث.
أما حين يُقتل جندي مصري في ظروف مليئة بالالتباس، ويكون ثمة مجال لاتهام حماس، فما هي إلا ساعات وتخرج قوافل النظام المصري، ويأتي الإعلام بخيله ورجله وينصب المأتم العظيم ويصدح بالعويل الطويل على روح “سيد الشهداء” الجندي المصري الواقف على الحدود، حتى ولو كان هذا الجندي المصري قد قَتَل من الفلسطينيين قبل أن يقتل، كما في حالة قتيل حرب غزة لا رحمه الله، والذي أفتت جبهة علماء الأزهر بأنه ليس شهيدًا وبأنه قتل في باطل.
على الجانب الآخر تقف تركيا شامخة؛ هي المرة الأولى -على حد ما أعلم- التي “تعتذر” فيها إسرائيل لأحد من “الأغيار” (وهم غير اليهود) على موقفها مع السفير التركي قبل بضعة أشهر، وأحسب أن الفارق واضح بين أن “تعتذر” وبين أن “تعرب عن أسفها”.
بعدها بقليل كان الأمن المصري يعتدي على الأتراك الموجودين في قافلة شريان الحياة (3) التي نظمها النبيل المحترم جورج جالاوي، ويصيب منهم، وتسيل الدماء. إلا أن تركيا مررت هذا الموقف بهدوء شديد ودخلت في نفق الاتصالات الودية السرية مع النظام المصري، ولم تثر ضجة وكان يمكنها أن تفعل وكان لها الحق في ذلك.
إلا أن النظام المصري الغبي كعادته، فكل عميل غبي كما أن كل غبي هو مشروع عميل، لم يفهم الرسالة التركية ولم يعيها، واستمر الحال على ما هو عليه، علاقات حميمية مع إسرائيل، وباردة جامدة مع تركيا، إلى الحد الذي قيل فيه بوضوح وفي مفاجأة صاعقة لأكثر الناس تشاؤما على لسان بنيامين بن إليعازر بأن مبارك هو “كنز إستراتيجي بالنسبة لإسرائيل”!!
وصدق الذي قال بأن الليالي حبالى يلدن كل عجيبة، فمن الذي توقع أن يقال مثل هذا على الملأ بهذا الوضوح؟!! ثم من توقع أن لا يكون ردٌّ على هذا الذي قيل ولو على سبيل حفظ ماء الوجه وذر الرماد في العيون؟!!
والآن بعدما جرى في مجزرة أسطول الحرية، هل نتوقع جديدا على خريطة الأحداث؟
هل يمكن مثلا أن يرتفع ثمن المصري الذي يُقتل على يد الإسرائيليين كما رأينا الثمن الذي تبذله كل الدول لرعاياها؟
هل نتوقع أن يغامر مبارك بفتح معبر رفح بشكل حقيقي ينهي الحصار، مطالبا إسرائيل بأن تحفظ له شيئا من سمعته التي انتهت بما جرى لأسطول الحرية؟ وأن تُمَكِّنه أن يفعل شيئا يستطيع أن يرفعه في وجه الرأي العام، ولو تسيير قافلة مواد بناء، أو فتح الحدود لعبور الناس من وإلى غزة؟
هل نتوقع أن تتغير خريطة العلاقات المصرية تجاه تركيا وإسرائيل، فنراهن على الجواد المتألق، وندع الجواد الذي كسرت ساقه؟
الحقيقة أن الواقع لا يبشر بتغير، والعضو حين يتمكن منه السرطان فلابد من بتره، لأن انتظار صلاحه يودي بالجسم كله، فما بالنا والسرطان ينتشر منذ ثلاثين سنة؟ أيرجى له بعد هذا شفاء؟؟!!
صدق المتنبي:
رِدِي حياض الرَدَى يا نفسُ واتركي … حياض خوفِ الرَدَى للشآء والنعمِ
إن لم أذركِ على الأرماح سائلةً … فلا دعيتُ ابن أم المجد والكرمِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق