اقرأ أولا: الحركات الإسلامية .. نسحاب وتراجع أم عودة للتربية (الجزء الأول)
يحتاج الكلام عن منهج التربية هذا إلى كثير من الحديث، ليس لأن الموضوع ملتبس وشائك وغير واضح، بل لكثرة ما ألبست الحركات الإسلامية على مناهجها ثوب الشرعية وحاولت تدعيمها بالأدلة من القرآن والسنة.
غير أن الحركات التي تتفق على أنه لا يجوز الاستدلال في الحلال والحرام إلا بما صح من الأدلة، ولا أن يؤخذ في أمر مهم بحديث ضعيف، لا تمانع بشكل عملي أن تستند إلى روايات ضعيفة.
وإن أبرز دليل على هذا رواية تربية النبي –صلى الله عليه وسلم- للصحابة في دار الأرقم، فدار الأرقم لم تصح فيها رواية ولا توجد في كتب السيرة الصحيحة (1)!!
ربما كان هذا جهلا وليس تعمدا للاستدلال بالرواية الضعيفة، لكن الحقيقة العملية أن معلومة ضعف دار الأرقم كفيلة فعلا بهدم المنهج التربوي للإخوان الذي تأسس عليها بشكل كبير، وصاغ منها مفهومه للتربية والسرية وأجواء المرحلة المكية، ثم هو كفيل مرة أخرى بهدم الحل المتوقع لظروف المستقبل المنظور الذي يُجبر الحركة أن تعود أدراجها من الساحة السياسية إلى المحضن التربوي.
ثم إن ضعف (2) رواية إسلام عمر التي فيها دخوله المفاجئ على “أسرة تربوية” مسؤولها خباب بن الأرت وأعضاؤها سعيد بن زيد وزوجته فاطمة بنت الخطاب، إن ضعف هذه الرواية يهدم الاستدلال بكون هذا النظام التربوي جزءا من الشرع ينبغي الالتزام به.
وبالمناسبة فإن ضعف هذه الروايات لا يعني أنها لم تقع تاريخيا، بل ربما وقعت وربما لا، إنما هو ينفي جواز الاعتماد على الضعيف من الأدلة في انتهاج منهج أو رسم خطة مستقبلية لمنهج إصلاحي يستمد نفسه من الإسلام، فضلا عن تدعيم أو تبرير منهج بدا فشله.
وأما الحركة السلفية التي ينشر بين الحين والآخر أن لها “بذور” تنظيم، أو الإمساك ببضع جلسات قرآنية أو فقهية، فلايبدو لها حتى اللحظة وعلى حد علمي منهج واضح في الإصلاح، فالقوم ممسكون بشعار “تصحيح العقيدة” وببعض “الهدي الظاهر”، ويتوقعون أنهم –لا أدري كيف- سيستطيعون عبر ما يُسمح لهم به من منابر أن يغيروا ما بأنفس الناس فيغير الله ما بالبلاد والعباد.
من المدهش أن ثمة اتفاقا عاما بين الحركات الإسلامية التي لا تملك أن تفعل شيئا، عن “فقه المرحلة المكية” والذي يتمثل في أن شعارها السكوت والصبر وكف اليد و… التربية.
هذا الاتفاق غير المكتوب جعل المرحلة المكية وكأنها شرط “يجب” أن تمر به كل الدعوات، ولابد لها أن تمر به وإلا فهي ليست على هدي النبي ومنهجه.
أحسب أحيانا أن التاريخ عند الحركات الإسلامية ليس فيه إلا “المرحلة المكية” وفقط، بل ليس فيه إلا “فقه الابتلاء” في المرحلة المكية، فلا يكاد يسلك أحدهم –فيما نرى ونسمع- طريقا واضحا للخروج منها إلى المرحلة المدنية.
صحيح أن النبي عاش في مكة مضطهدا، ولكن السؤال المفيد هو مالذي فعله النبي طوال هذه الفترة؟ إننا لنجد أنه لم يتوقف لحظة مؤملا أن يزيد عدد من أسلموا في مكة، فيتكاثر المؤمنون حتى يمكنهم قلب ميزان القوة في مكة أو حتى إجراء انتخابات تضع أبا جهل وترفع أبا بكر.
لقد تحرك النبي على مستويات عدة، كان أهمها مما يضرب في صميم موضوعنا الآن، أنه ذهب إلى الطائف –الخصم العنيد لمكة- لطلب الحماية ليبلغ دعوة الله، ثم عرض نفسه على القبائل طالبا منهم الحماية أيضا، ثم وفقه الله لمجموعة من الأنصار في المدينة لم يطلب منهم سوى أن يحموه حتى لو داخل المدينة فقط وهو ما كان.
إنها تحركات سياسية فاعلة لا نكاد نرى فيها لمحة من هذا المنهج التربوي الذي تعتمده الحركات الإسلامية الواسعة، ولم يتوقف النبي –صلى الله عليه وسلم- بعد كل مشكلة ليبحث في أمر التربية، فلقد ارتد البعض بعد حادثة الإسراء والمعراج وارتد بعض من هاجر إلى الحبشة ونطق البعض تحت العذاب بكلمة الكفر واستبطأ بعضهم النصر. لم يتوقف النبي بعد كل مشكلة ظهرت ليقول بأن الحل هو مزيد من التربية .. مزيد من المعسكرات .. مزيد من ضرورة التوعية، كما لم يفني عمره يطالب قريش بتطبيق الديمقراطية ويبقى منتظرا أن يسمعوا أو يعقلوا أو يقتنعوا أنهم لو قالوا لا إله إلا الله لملكوا بها العرب والعجم.
ومنذ اللحظات الأولى كان للنبي أتباع خارج سيطرة قريش، وحرص على أن من يسلم من خارج القبائل يبقى مسلما في قبيلته ولا ينضم إليه تحت العذاب في مكة ولا حتى كي يأخذ قسطه من التربية ويحفظ ورده من القرآن والأذكار، وبعض هذه المجموعات عاد بعد الهجرة كما في حالة غفار وبعضها لم يعد إلا بعد استقرار الدولة تماما كما في حالة مهاجري الحبشة الذين عادوا في السنة السابعة للهجرة.
——————
(1) وإذا بحثت في كتب السنة فلن تجد ذكرا للتربية في دار الأرقم لا عند أصحاب الصحاح ولا السنن ولا في مسند أحمد، ولم أظفر في كتب السنة المشهورة (البخاري - مسلم - أبو داود - الترمذي - النسائي - ابن ماجه - الموطأ - مسند أحمد - سنن الدارمي - صحيح ابن حبان - مسند أبي بعلى - المستدرك) إلا بروايات ضعيفة في مستدرك الحاكم ضعفها الذهبي أو سكت عنها لضعفها.
(2) انظر: د. أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة ص180، ود. إبراهيم العلي: صحيح السيرة النبوية ص80.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق