ذكرنا في المقال السابق كيف اكُتشف كتاب "بحرية" الذي يعد ذروة ما وصل إلينا من التطور الجغرافي البحري للتراث الإسلامي، والذي ألفه أمير الحرب والبحر، قائد الأسطول العثماني والخبير الجغرافي والبحري محيي الدين بيري ريس (أو رئيس)، وفي هذا المقال نأخذ جولة مبسطة في كتاب "بحرية" بغية تقريب تراثنا الحضاري لعامة القراء الفضلاء.
***
بدأ كتاب "بحرية" بمقدمة شعرية طويلة، ثم جاء متن الكتاب على نهج بسيط، يبدأ أولاً بوضع الخريطة للمنطقة، ثم يبدأ في وصف الخريطة. وقد بدأ الكتاب من غاليبولي ثم استمر يزحف جغرافيًّا عبر ساحل البحر المتوسط.
كتب بيري ريس المقدمة الشعرية للكتاب بأسلوب تركي سهل وبسيط، وقسمها إلى خمسين فصلاً، بمعدل 15 بيتًا في الصفحة، تدور هذه الأقسام حول فكرتين أساسيتين، فالأقسام الأولى الثمانية عن تاريخ المخطوط والمهارات التي يحتاج إليها الملاحون كالخبرة والاستعداد الفطري في هذه المهنة والمشكلات الملاحية والمعرفة بالجغرافيا الملاحية ومقدمة في استخدام البوصلة والإسطرلاب والخرائط، وعرض موجز عن تاريخ البحار وعرض لبعضها مثل منابع النيل وزنزبار وبحر عدن والمحيط الهندي وبحر الصين والمحيط الأطلنطي[1].
أما الأقسام الخمسة عشر الباقية فيتحدث فيها عن الاكتشافات الأوروبية الحديثة في القرنين الخامس والسادس عشر الميلادي حتى وصولهم إلى جنوب إفريقيا واكتشافهم لطريق رأس الرجاء الصالح، ثم توغلهم شرقًا ومرورهم بمناطق المسلمين حتى وصلوا إلى غرب الهند، كما أخذوا يهددون المناطق الإسلامية المقدسة. كما أوضح في مقدمته الشعرية بأن البرتغاليين تقدموا أكثر باتجاه الشرق حتى وصلوا إلى مضيق ملقا، وأهم ما في هذه المقدمة الشعرية أنه وصف الطريق الذي كان البرتغاليون يسلكونه من لشبونة إلى الهند، وكيف أن البرتغاليين تجنبوا المياه الحارة وحالات السكون على شواطئ إفريقيا الغربية، وقدرتهم الكبيرة على تحديد مواقع سفنهم في المياه المفتوحة، ونجاحهم في الاعتماد على حركة الرياح للوصول إلى شواطئ إفريقيا الغربية ومن ثم لاكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح. وفي القسم الثالث عشر من المقدمة وإلى آخرها أشار بيري ريس إلى جغرافية بحار العالم مضيفًا هنا وهناك معلومات متفرقة عن آخر المعلومات التي حصل عليها من الملاحين الأوروبيين، كما وصف حقائق جغرافية عن المحيط الهندي والتي كانت معروفة من قبل البحارة المسلمين، أما عن الخليج العربي فقد أورد له فصلاً كاملاً، وأشار إلى أبرز الجزر الموجودة فيه، بل وتحدث عن صيد اللؤلؤ في المنطقة، كما أوضح بأن البرتغاليين سيطروا على جزيرة هرمز، وسيطروا على الحركة التجارية[2].
واشتملت المقدمة أيضًا على حياة بيري ريس "وكيف أن السلطان بايزيد خان كلفه بخدمة الدولة سنة 900هـ = 1494م، ومن بعد ذلك كتب عن أسفاره ورحلاته، وما حققه من انتصارات منذ خروجه من منزله حتى التحاقه رسميًّا بالأسطول الهمايوني، واستنادًا إلى الشواهد التي ذكرها، وسرد تفصيلات ما حدث معه، يؤكد أن هذا الكتاب يتحدث عن الرحلات البحرية حتى سنة 932هـ = 1525م"[3].
وهذا يشير إلى أننا بإزاء كتاب لا يتحدث عن وصف البحار كما يتحدث الرحالة، بل هو حديث علمي في الملاحة وأساليبها وأدواتها، وعن جغرافيا البحار، كما هو حديث سياسي تاريخي عن أثر الاكتشافات البحرية في قلب موازين المعارك والمخططات على الساحة الدولية، ثم لا ينسى أن يشير إلى جوانب اقتصادية أيضًا كما في ذكره "صيد اللؤلؤ" في خليج هرمز.
وتنتهي المقدمة بقصيدة طويلة أشبه بخاتمة في مائة بيت يعرض فيها المؤلف للأسباب التي حدت به لوضع المسودة الثانية للكتاب[4]، وتتمثل هذه الأهداف في:
1. وضع كتاب تذكاري في علم البحار والملاحة في سواحل ومواني وجزر البحر المتوسط، لأنه حتى هذا التاريخ لم يقم أحد بمثل هذا العمل.
2. تتبع أعمال المرحوم الغازي كمال ريس وتوضيح أعمال الغازين المسلمين ممن كانت لهم مع الكفار مناوشات بحرية.
3. وضع كتيب إرشادي للملاحين المسلمين، وذكر سواحل الجزر المأهولة مع ذكر أعاصير ورياح كل منطقة على حدة.
4. ونوَّه بيري ريس بأنه قام بهذا العمل ووضع الخرائط المختلفة باستشارة بعض ذوي الخبرة والدراية بهذا العلم، ويُضيف بأنه جعل الخرائط المختلفة واضحة وسهلة الاستعمال، وقال: إنه بفضل الخرائط المرفقة يستطيع الشخص أن يُبحر ويتجوَّل بين جزر البحر المتوسط دونما حاجة ماسة لدليل أو مرشد يدله إلى الطريق، وهذا ليس بالأمر الهين[5].
وصياغة بيري ريس هذه المقدمة العلمية الطويلة في قصيدة شعرية تجعله امتدادًا للظاهرة العلمية الإسلامية التي كانت تصوغ العلوم في قالب شعري؛ ليسهل حفظ قواعد العلم، وقد حفل التاريخ العلمي للحضارة الإسلامية بأراجيز علمية؛ مثل: متن الشاطبية "حرز الأماني" في قراءات القرآن الكريم للإمام الشاطبي، وألفية ابن مالك في النحو، وألفية العراقي ثم ألفية السيوطي في علم الحديث، وأرجوزة أبان بن عبد الحميد في الفقه، وأرجوزة لسان الدين بن الخطيب "رقم الحلل في نظم الدول" في التاريخ الإسلامي، وثمة أراجيز في العلوم البحتة كأرجوزة ابن الطفيل في الطب (7700 بيت)[6]، وابن أبي الرجال في الفلك وغيرهم كثير.
"التعديل الذي أُجري في المسودة الثانية للمصنف يمس قبل كل شيء الخارطات التي زيد في عددها بشكل كبير؛ ففي المسودة الأولى حظي كل قسم من الأقسام المائة والثلاثين (130) بخارطته الخاصة به، أما في النسخة الموسعة فإن عدد الخارطات ارتفع إلى مائتين وعشرة خارطة (210)، بخلاف خارطات أخرى ذات طابع مستقل... ويتضح هذا بصورة خاصة من مثال البحر الأدرياتيكي؛ حيث تنفرد الفصول الستة المكرسة له (من الثامن والخمسين إلى الثالث والستين) باثنين وأربعين خارطة، وتبدو هذه الزيادة -أيضًا- في أقسام أخرى؛ فالنيل مثلاً (الفصلان الثامن والتسعون والتاسع والتسعون) يفوز هنا بلا أقل من عشر خارطات"[7].
ثم يختم بيري ريس كتابه بخاتمة شعرية أخرى تقع في 92 بيتًا يُصَرِّح فيها بحبه للبحر وسعادته بجولاته فيه[8].
في هذا الكتاب نرى بيري ريس في وجهه الذي كان مزيجًا من عدة وجوه، كل وجه فيها منفردًا قادر على الإشارة إلى مكانة هذا الرجل، فهو الرحالة الذي جاب الأقطار وكانت عينه تعمل كالعدسة التي تلتقط وصف الجبال والطرق والوديان وحياة الناس وطرائق معيشتهم، وهو -أيضًا- البحارة الماهر، بل أمير البحار الذي يتحدث عنها في السلم وفي العلم وفي الحرب، فيكتب عنها بروح الرحالة المتذوق، ويرصدها بروح العالم الباحث المتمكن، ويركب أهوالها ويستفيد من تفاصيلها ومرافئها وخلجانها بروح القائد العسكري البحري المجاهد الخبير بفنون الحرب في البحر.
نموذج خريطة القاهرة
تتمتع خرائط بيري ريس، لا سيما التي رسمها عبر مشاهداته، بدقة لافتة للنظر، ويتبدى ذلك على سبيل المثال من خريطته التي رسمها لمصر وساحلها، ففي "الفتح العثماني لمصر، رسم الرئيس بيري خريطة لمصب نهر النيل"[9]. ونأخذ على سبيل المثال خارطته التي رسم فيها القاهرة لنلحظ مدى الإجادة والدقة.
تشير البوصلة في هذه الخريطة إلى أنها "مقلوبة"، فجهة الشمال فيها إلى أسفل الخريطة، وكلما اتجهنا إلى الأعلى فإننا نتوغل في الجنوب، وإذا بدأنا من أقصى الجنوب (أعلى الخريطة) سنجد مسار نهر النيل الآتي من الجنوب، وتبدأ الخريطة عند "بول تومروت" –كما تبدو على الخريطة- على يسار النيل وهي النطق العثماني لـ "بولاق الدكرور"[10]، ثم تليها "ترسة"، وهي الآن "ترسا" التابعة لمحافظة الجيزة بمصر، ويقابلها على الجانب الآخر من النيل "زاوية" التي هي الآن تابعة لـ "شبرامنت"؛ إذ كانت تُعرف قديمًا بـ "زاوية أبو مُسَلَّم"[11]، ثم "جزة" وهي "الجيزة" وتبدو الأهرامات الثلاثة بوضوح على الخريطة، وإلى الشمال منها منطقة "نبابة" وهي "إمبابة" حاليًا، وحولها رسم أربع نخلات تشير إلى طبيعة الأرض، ويقابل إمبابة على الساحل الشرقي للنيل "بولاق"، ثم مساحة من النخيل حتى نصل إلى سور القاهرة، التي تبدو مكتظة بالسكان، وتظهر فيها قلعة صلاح الدين التي كانت مركز الحكم في مصر، كما تظهر في الخريطة منطقة شبرا "شوبرا" ومصر القديمة "مصر عتيق"، ومقام الإمام الشافعي، وجبل المقطم "جبل مقطم" القابع في أقصى الشرق.
وتبدو الخريطة حافلة بكثير من التفاصيل، كالنخيل والمباني، والمساجد الموجودة في قلب القرى، والأضرحة، والمباني المتفرقة، حتى أن القاهرة المكتظة في الخريطة يظهر بها الشارع الرئيسي الموصل من باب الفتوح في الشمال إلى القلعة، ويظهر بوضوح "سور مجرى العيون".
وإذا نظرنا إلى الخريطة فإننا نعدّ أربع قرى ذكرت بدون اسم، ثلاثة منها على الساحل الغربي للنيل؛ فسنرى إلى الشمال من الجيزة قرية لم يُسَمِّها، ثم قرية أخرى إلى الشمال من إمبابة، ثم قرية أخرى إلى الشمال منها، وواحدة في أقصى الشمال الغربي من الخريطة، ومثل هذا نراه كثيرًا عند بيري ريس، خصوصًا في خريطته الثانية للعالم، فهو حين لا يصل إلى المعلومة كاملة يضع ما وصل إليه ويترك الباقي فراغًا، وهذه "أدلة أخرى تكشف عن التفكير العلمي لبيري رئيس"[12].
***
لا يزال يمكن قول الكثير عن هذا المؤلف وعن أهميته في التأريخ البحري، وفي التراث الإسلامي، ولعل في السطور السابقة كفاية في مجال الإشارة ولفت الأنظار إليه..
ونسأل الله أن يهيئ لأمتنا من يعيد بعث تراثها المجهول والمقبور إلى الحياة مرة أخرى، وعندها سنكتشف أنفسنا من جديد!
نشر في: المركز العربي للدراسات والأبحاث
[1] كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافي، نقله إلى العربية صلاح الدين عثمان هاشم، لجنة التأليف والترجمة والنشر، جامعة الدول العربية، 2/591، د. فيصل الكندري: الملاح والجغرافي بيري ريس، سلسلة رسائل جغرافية، الجمعية الجغرافية الكويتية، الطبعة الأولى، شعبان 1420 هـ = 1999 م. ص19.
[6] موجودة في مكتبة القرويين بفاس برقم (3158)، كما أشار إلى ذلك الزركلي. انظر: الزركلي: الأعلام 6/249.
[7] كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافي 2/591.
[10] ذلك هو الموضع القديم لقرية بولاق الدكرور، والتي نقل موضعها بعد قرار الخديو إسماعيل (1863 م) بتحويل مجرى النيل إلى الشرق، فابتعد النيل عن بولاق القديمة، ثم أمر الخديو إسماعيل عام (1868 م) بهدم مساكن هذه القرية وتعويض أهلها، فمكان "بولاق الدكرور" القائم الآن ليس هو المكان القديم. انظر: محمد رمزي: القاموس الجغرافي للبلاد المصرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994م. 4/10.
[12] د. أكمل الدين إحسان أوغلو: المؤسسات التعليمية والعلمية عند العثمانيين (منشور بكتاب الدولة العثمانية تاريخ وحضارة بإشراف د. أكمل الدين إحسان أوغلو، ترجمة صالح سعداوي – اسطنبول، 1999م) 2/498.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق