لأنه على عكس فضاء التنظير دائما يضع الواقع أمامك اختيارات محدودة، على حسب قوتك تزيد الاختيارات أمامك، والآن نحن أمام قوتين: قوة الشعب وقوة الجيش.
دعونا لا نخدع أنفسنا كثيرا، إن الزخم الثوري يتراجع كل يوم، ليس لأننا مللنا أو لأن الثورة المضادة نجحت، لا.. بل لأن هذا –بكل بساطة- طبيعة كل زخم ثوري، وكل فعل بشري، وكل نشاط إنساني.. لا شيء يمكنه البقاء في الذروة.
ولقد كنا نتخوف من أن يتجمد الحال السياسي في أثناء الثورة فيتراجع الحماس الثوري المشتعل غير أن الله لطف بنا، وكان حسني مبارك يستفز الناس في كل مرة إما بخطابه أو بأفعاله فيعود النشاط الثوري من جديد.
يسعدني أن أخبركم أن مرحلة استفزاز الناس قد انتهت، وأنه لا أحد في المدى القريب سيتكلم مع الشعب بغير لسان الأدب والذوق والاحترام (هل تتذكرون أن الجيش اعتذر في أسلوب درامي جديد ومبتكر: رصيدنا لديكم يسمح؟!)، إن هذا الخطاب الناعم مما يؤدي إلى تراجع الزخم الثوري. أضف إلى هذا أن ما تم تحقيقه من أهداف الثورة يساهم في تفتيت الإجماع حول استمرار الزخم الثوري، فمنذ جمعة النصر وكل جمعة في ميدان التحرير أقل من سابقتها في الأعداد.. ينبغي ألا يغتر أحد بأنه يستطيع أن يجمع الناس ولا أن يفرقهم.
يسعدني أيضا أن أخبركم بحقيقة نحب أن نتغافل عنها: تلك هي أن الثوار لم يستطيعوا أن يتوافقوا في أي لحظة على قيادة تمثل الثورة، ولا في ذروة التوحد والحماس.. ربما نختلف حول هذه النقطة: سلبية أم إيجابية، غير أني أظن أننا سنتفق أن توافقهم الآن نوع من المستحيل!
وعلى هذا فإن قوة الشعب تتفتت وتذوب، فيما تبقى قوة الجيش كما هي لأن طبيعة المؤسسة تجعل الأمر أسهل؛ قيادة موحدة، أوامر لا تقبل النقاش، تنفيذ لا يفكر في التراجع.
إذا لم يُنجز الشعب أهم تحولاته في أثناء الزخم الثوري، فإن الزخم الثوري سيتراجع لتكون هذه التحولات بيد القوى الباقية المتماسكة.. قوة الجيش، ولا شك أيضا: قوة الخارج (ما الذي يجعل بعض الناس يتخيلون أن الخارج يقف متفرجا؟!!).
لا بأس أن يثق بعض الناس في الجيش، لكن من حق الذين لا يثقون أن يصيبهم التخوف من ألا يعود الجيش إلى ثكناته مثلما حدث في 1954 على سبيل المثال! وحينها نكون قد عدنا إلى النقطة صفر.. لكن، دعنا من الثقة لنتحدث عن الاتفاق القائم على أن الجيش يجب أن يعود إلى الثكنات لحساب سلطة مدنية منتخبة.
ربما ينبغي أن نتفق أيضا على أن الجيش لا يعمل "ديليفري" اقتراحات، فنحن الآن في عصر الاقتراحات: إعلان دستوري مؤقت، رئاسية قبل البرلمانية، مجلس رئاسي من ثلاثة أو خمسة أو أكثر من ذلك أو أقل، مد الفترة الانتقالية لتكون سنة أو اثنين أو أكثر أو أقل، وتحت كل اقتراح من هذه الاقتراحات عشرات ومئات من آليات التنفيذ المقترحة –أيضا- لضمان خروج الاقتراح بصورة أفضل.
الإدراك بأن الجيش لا يعمل في توصيل الاقتراحات، كما أنه ليس "بابا أو ماما" لكي نمارس عليه –في دلال- كل هذه الاقتراحات مفترضين أن يسعى بكل الطرق لإرضاء جميع الأبناء كما تفعل الأم الحنون.. الإدراك بهذا يجعلنا نسارع لأن ندير حياتنا المدنية بأنفسنا في أسرع وقت، وإلا فنحن أمام احتمال قائم أن يقرر الجيش البقاء في الحكم.. ولا يحسن بأحد أن يتفاجأ ولا أن ينتفض غضبا ويصرخ: بأننا سنثور مرة أخرى. ذلك أنه من دروس التاريخ أن الجيل الواحد لا يقوم بثورتين، كما أن عليه أن يتذكر مثال عمر مكرم الذي لم يستطع أن يفعل شيئا أمام استبداد محمد علي رغم أن عمر مكرم هو الذي وضع محمد علي في حكم مصر بعد ثورة على الوالي العثماني خورشيد باشا ورغما عن إرادة الباب العالي، وكذلك مثال سعد زغلول الذي لم يستطع أن يشعل ثورة بعدما فشل في مفاوضاته مع الإنجليز، ومثال مصطفى النحاس الذي لم يستطع أن يشعل ثورة أمام عبد الناصر، ولا الإخوان المسلمون أمام عبد الناصر أيضا (هل نعيد مشهد عبد القادر عودة الذي صرف المتظاهرين بإشارة من يده ثم لم يستطع أن يتظاهر واحد فقط ضد إعدامه؟!!!).. لن نكون أكثر وطنية من هؤلاء جميعا، وهم الذين تمتعوا بشعبيات هائلة وتنظيمات جيدة ثم انهزموا جميعا حين انسحب المد الثوري من حولهم فواجهوا السلطة منفردين.. فسحقتهم.
إن الدنيا حلوة خضرة، وإن كرسي السلطة ساحر جبار، وقديما قالت العرب: المُلك عقيم، يقتل الرجل ولده أو أباه أو أخاه في سبيل الملك.. والحمد لله، لست أظن أحدا من القراء يرى أن الجيش المصري مجموعة من الملائكة.
وعليه.. فيجب أن ننجز هذه التحولات المهمة في ظل المد الثوري القائم.
في كل المقالات التي قرأتها لمن يرفض التعديلات الدستورية رأيت حالة من حالات البلاغة الأدبية التي هبطت فجأة على "المحللين السياسيين" وكثرت في كتاباتهم الألفاظ العاطفية عن الدستور القديم والشرعية الدستورية والحياة الحزبية، وكلها تريد أن تقول إننا لا نريد تعديلات دستورية بل نريد دستورا جديدا..
حسنا.. لدينا أيضا اختيارات محددة في أرض الواقع: إما أن تضع هذا الدستور جمعية تأسيسية تأتي بالتعيين أو تأتي بالانتخاب. فإذا كان المستشار طارق البشري –وهو أحد العلامات المصرية- واجه اعتراضات على اختياره واختيار لجنته التي ستعدل مواد محددة لفترة مؤقتة.. فكيف إذا اختار المجلس العسكري جمعية تأسيسية تضع دستورا كاملا دائما؟؟؟ هل يمكن أن يحصل هؤلاء على التوافق فضلا عن الإجماع؟؟
الأحسن والأحسم للمشكلات والنزاعات أن تأتي هذه الجمعية عبر الانتخاب.. ولهذا فنجن –في هذه اللحظة- لا نحتاج إلا إلى ضمانات للانتخابات النزيهة.. ولقد قامت التعديلات الدستورية بهذا على خير وجه، وجعلت الإشراف القضائي كاملا.
حسنا.. فإذا تمت هذه الخطوة جاءنا مجلس منتخب يعبر بأفضل ما يمكن عن اختيار الشعب المصري، ثم لينظر هذا المجلس في تشكيل جمعية تأسيسية منتخبة منه ومن خارجه (كما تلزمه التعديلات) تضع دستورا دائما خاليا من كل العيوب التي يراها من لا يوافق على التعديلات التي تمت.. هل في هذا ما يضير؟
ثم ينبغي أن تأتي انتخابات برلمانية قبل الرئاسية، كي يكون الرئيس مستندا إلى برلمان يعبر عن قوة الشعب لا مستندا إلى قوة الجيش، ولكي يكون موضوعا تحت رقابة برلمان سابق على مجيئه ولا دخل له فيه لا مشاركا هو في صناعة برلمان بما له من صلاحيات واسعة باقية من الدستور القديم، ولكي نشعر بالاطمئنان حين تتم انتخابات البرلمان في زخم ثوري حر بلا رئيس لا أن تتم بعد ذبول هذا الزخم الثوري في ظل رئيس جلس على كرسي السلطة.
إن من يخافون أن يأتي البرلمان بالحزب الوطني من جديد (وأحسبهم مبالغون أو مغرضون) لعدم استعداد الأحزاب ولقلة الوعي الشعبي ولانتشار العصبيات (وهذه وصاية على الشعب واستعلاء لا أقبله).. هؤلاء الذين يدفعهم هذا الخوف للمناداة بإجراء انتخابات رئاسية أولا، يجب عليهم أن يخافوا أكثر من الانتخابات الرئاسية، لأنها قد تأتي لهم –إذا وافقناهم على كلامهم- بصفوت الشريف وفتحي سرور وجمال مبارك.. أو عمرو موسي!.. وحينها نكون قد ذبحنا الثورة من الوريد إلى الوريد.
فإذا كانوا يراهنون على تكتل كل القوى الوطنية خلف المرشح المناهض للوطني والطاهر الثياب من آثار النظام.. فلماذا لا يتكتلون في الانتخابات البرلمانية وراء مرشحي المعارضة والمستقلين؟؟ (تذكروا أن الحزب الوطني في ذروة السطوة والنفوذ لم يحصل على أغلبية في انتخابات منقوصة النزاهة.. كما تذكروا أيضا أن مرشحي العصبيات والقبليات ولاؤهم الأول لقبائلهم وعائلاتهم لا للحزب الوطني ولا لغيره).
إن إجراء انتخابات برلمانية قبل الرئاسية يحقق أفضل ما يمكن من توازن القوى، هذا إذا لم يتكتلوا أساسا في قوائم تنسيقية فيما بينهم.
إن الخوف –كل الخوف- الآن من أن يتم تأجيل موعد الاستفتاء، هنا يتبخر أول استحقاق وَعَد به الجيش، ولا ضمانة أن يكون ما بعده من الوعود خيرا منه، ولا شك أيضا أن التنصل من هذا الاستحقاق سيتم تحت عناوين الرغبة الشعبية والحالة الأمنية والحفاظ على الثورة .. وكل هذه المعاذير.. هذا هو الخوف الأعظم الذي يظهر في الأفق.
لكن، إذا تم الاستفتاء.. فلماذا يُقال: لا.
أستطيع أن أتفهم هذا الموقف لو أن صاحبه أعطاني ضمانات على قدرته على فعل الأفضل من ضمن الخيارات المتاحة، وأؤكد: قدرته على الفعل لا على الاستمرار في مناشدة الجيش، ولنكن صرحاء لنؤكد مرة أخرى على: قدرته هو، لننسى الآن أن "الشعب يريد".. لقد تفرقت الجموع.
لأنني أثق في الشعب.. لا في أحد غير الشعب.. أريد أن يحكم الشعب نفسه بنفسه.. في أقرب فرصة وفي أسرع وقت.. لأجل هذا سأقول "نعم" للتعديلات الدستورية.
أنصفت يا م/ إلهامى بارك الله فيك
ردحذفسيد يوسف
بعد هذا الكلام البليغ سيدي لم تجب على السؤال الذي طرحتة بنفسك لماذا أقول "نعم" للتعديلات الدستورية؟ فانت لم تجب لماذا ستقول نعم ليس من المعقول ان تقول نعم لان الجيل لا يقوم بثورتين (هذا باعبار ان ثورتنا قد انتهت ) و ان لم تكن كذالك و ليس من المعقول ان تقول نعم لانك شايف انا الجيش مش بابا و ماما
ردحذفوشكرا
شكرا
ردحذفأقول نعم لأني لا أثق في تجدد الثورة، وذلك لسبب بسيط: أن الهدف الذي كنا نجتمع عليه (إزاحة مبارك) قد تحقق.. والأهداف التي نريدها الآن فيها الكثير من الآراء والتفصيلات، ولا يجتمع عليها الناس.
ردحذفولأن الجيش فعلا مش بابا ولا ماما.. وعلى هذا فهو لن يكون دائما عند رغباتنا (التي اصبحت لا تحظى بالإجماع)..
لهذا، فإن انتقال السلطة إلى المدنيين الآن، هو الضمانة الوحيدة لعودة حياة ديمقراطية سليمة إلى مصر.
نعم و ألف نعم
ردحذف