اقرأ أولا: وليد سيف ساحر الفن والتاريخ جـ1
كانت السطور الماضية تتحدث عن الإشكالية ما بين النزاهة والأمانة العلمية، وما بين "ضرورات" الحبكة الدرامية.
فإذا دخلنا إلى تفاصيل القصة التاريخية، سيجد الكاتب نفسه على محك آخر، وهو تحليل وتفسير الشخصيات الفاعلة، شخصيات الأبطال، وشخصيات الأقزام، وكذلك شخصيات الخونة.
والبشر ليسوا خيرًا خالصًا، وليسوا شرًّا خالصًا كذلك. ومنهم من ينتقل من البطولة إلى الخيانة، ومنهم من ينتقل من الخيانة إلى البطولة. وقد صار مملاًّ وكئيبًا وفضائحيًّا أن تتحول المسلسلات التاريخية إلى شخصيات هي إما خيرٌ مصفى أو شرٌّ مكثف.. فإذا وجدت شخصية من كان بطلاً ثم تحول إلى الخيانة فلا بد حينئذ أن تفسر على أنه كان متآمرًا منذ أول لحظة ويصطنع البطولة، كما تفسر شخصية الخائن الذي تحول للبطولة بأنه بطل منذ أول لحظة، ولكنه "بذكائه" كان يقف منحازًا للعدو ثم سيختار اللحظة المناسبة للانقلاب عليه.
حياة البشر ليست بهذه السذاجة والسطحية.. ولم تكن كذلك يومًا.
وهذا ما يجعلنا نُصِرُُّ ونؤكد على أن يكتب التاريخ كما نقلته المصادر التاريخية التي تَوَفَّر عليها باحثون مجتهدون فقدموا أفضل ما استطاعوا من مجهود لاحتواء تفاصيل الفترة التاريخية، وألا يُترك هذا لكاتب يجتهد وحده دون امتلاك الأدوات، فإن كان يمتلك الأدوات البحثية فربما اضطرته ظروف الإنتاج إلى "سلق" المسلسل (وهذا لا يغفر له).
إن الكاتب سيجتهد لا محالة في ملء الثغرات التاريخية لأنه يكتب للصورة، ويجب أن يكون اجتهاده في إطار التاريخ الموجود لا أن يصنع تاريخًا من رأسه، ولو بحسن نية.. حسن النية هذا الذي دفع من قبل أناسًا لتأليف أحاديث نبوية؛ لكي يحثوا الناس على فعل الخير وترك المعاصي.
ولا يطلب أحد أن يكون الكاتب محايدًا، فهذا لا يستطيعه بشر ولا حتى الباحث العلمي، ولكن كما نطلب من الباحث الالتزام بمقاييس البحث العلمي، يجب أن نطالب كاتب التاريخ خصوصًا بالالتزام بالتاريخ؛ لأنه يعيد تقديم التاريخ الذي وقع ولا يؤلف قصة من خياله.
لم أصدق نفسي حقًّا حين شاهدت مسلسل صلاح الدين، الذي لم يتردد كاتبه أن يذكر أن صلاح الدين مثلاً شرب الخمر في شبابه، أو أن البطل الكبير عماد الدين زنكي غدر بحامية قلعة حارم بعد أن أعطاهم الأمان، أو أن عبد الرحمن الداخل قتل أسرى في بعض حروبه مع اليمنية، أو أن البطل الكبير المنصور بن أبي عامر -ذروة تاريخ الأندلس- كان يشرب الخمر قبل أن يتوب عنها.. وهكذا.
هذا هو المطلوب فعلاً، أن نقدم أبطالنا بشرًا كانت لهم أخطاؤهم وفي السياق الطبيعي الذي لا يجعل هذه الأخطاء تأخذ كل الصورة، كما يفعل مزورو التاريخ لأغراضهم، ولا أن تختفي من الصورة، كما يفعل مزورو التاريخ منا بحسن نية، وأن تقدم الشخصية التاريخية بأقرب ما يمكن لحقيقتها التاريخية لا بأفضل ما يمكن ولا بأسوأ ما يمكن.
وأُطَمْئِن الجميع أن هذا لن يخدش لأبطالنا بطولتهم، ولكنه سيجعلهم مثالاً قريبًا من الناس وقابلاً للتكرار والوجود، بل سيُعَوِّد الناس على أن يفهموا أنهم ليسوا شر خلف لخير سلف، بل هم من الأمة التي كالغيث لا يدرى أولها خير أم آخرها، وعلى أن يحكموا بالموضوعية والعدل فيقبلوا الخير، ويرفضوا الأخطاء، ويزنوا الناس بحسناتهم وسيئاتهم، فكل بني آدم خطاء.
وكذلك يجب أن نحاول فهم أولئك الذين خانوا، لماذا خانوا؟ وما هي حججهم وأفكارهم؟ وكيف استطاعوا أن يغلفوا هذه الخيانة بعبارات وشعارات وحجج إسلامية؟ سنرى في التاريخ أمثال صدام وعبد الناصر... وغيرهما الكثير ممن ذبحوا الأمة وقدموها لعدوها لقاء أن يظلوا على كراسيهم (وإن كنت أعتبر أن تاريخنا لم يعرف ملوكًا كملوك هذه الأيام في الخيانة أبدًا، ولهذا حديث وتفصيل آخر).
إنه من الضروري أن نفهم الشر والفساد والاستبداد؛ كيف يتغطى بـ"الوطنية والعروبة ومصلحة الأمة"، وقديمًا كان سيدنا حذيفة بن اليمان t يسأل النبي عن الشر مخافة أن يقع فيه، ومسلسل (ملوك الطوائف) خير من قدم هذه الأمثلة من الطغاة: المعتضد بن عباد، والوزير أبو بكر بن عمار وزير المعتمد. وما يمكن أن يجنيه هذا على الأمة التي تساقطت -في عهدهم- عواصمُها، كما سقطت في عصرنا القدس وكابول وبغداد، وعواصم أخرى مهيأة للسقوط.
بقيت شخصيات ترددت بين الخير والشر، أو وقفت في مناطق بينهما فلا يغلب عليها الخير أو الشر إلا في الأهوال وبعض الأحوال، أو لنقل بدقة أكثر: ترددت بين الصواب والخطأ، بين مثالية الأخلاق وضرورات الواقع، بين المفترض والمفروض. وستبقى هذه شخصيات يختلف فيها المؤرخون أبد الدهر، وإنها حقًّا مهمة جسيمة لرجل يريد أن ينقل التاريخ عبر الصورة، وهو مهما فعل فلن يرضي جميع الأطراف، وإني أشهد أن ذلك الساحر المبدع د. وليد سيف قد قام برسم هذه الشخصيات خير قيام، وحاول أن يقدم لها الصورة المتماسكة التي تتراوح بين الخيانة والبطولة أو تقف فيما بينهما أو حتى لا تتبين أحيانًا قرار الصواب من قرار الخطأ، بل أحيانًا كان يذكر اختلاف المؤرخين في ثوب درامي بديع. وهو رسم للشخصية يراعي أحوالها وأهوالها وإمكاناتها وطريقة تفكيرها ومواقع مصالحها، مما يجعلك تشعر أنك ترى تاريخًا حيًّا نابضًا لا مجرد سرد لما في بطون الكتب.
فمن هذه الشخصيات مثلاً: الأمير الشاعر أسامة بن منقذ ومعين الدين أنر حاكم دمشق والعاضد خليفة مصر الفاطمي (مسلسل صلاح الدين)، أبو مسلم الخراساني وأبو سلمة الخلال وعبيد الله بن أبان والمغيرة بن الوليد وعبد الملك المرواني (مسلسل صقر قريش)، وغالب الناصري وجعفر المصحفي الحاجب وعبد الله بن الملك المنصور (مسلسل ربيع قرطبة)، ويزخر مسلسل ملوك الطوائف بهذا النوع من البشر.
وخلاصة القول: أنك ترى تاريخًا حيًّا نابضًا، ورسمًا بديعًا للشخصيات بعيدًا عن حدية الأبيض والأسود، وحدية الخير والشر، وحدية البطولة والخيانة، وهذه النقطة تحديدًا -في نظري- أكبر مزية في مسلسلات الدكتور وليد سيف عن غيرها، حتى إننا كثيرًا ما نختلف في التقييم -أصدقائي وأنا- لبعض الشخصيات، تمامًا مثلما نختلف -في الواقع- في تقييم شخصيات معاصرة. ذلك أننا رأينا تاريخًا يقدم صورة أقرب إلى المتكاملة وأقرب إلى البشرية، حيث الأخطاء لها أسباب ولها مبررات ولها تفسيرات، وكذلك البطولة قد تكون سمعة ومفخرة وليست عملاً خالصًا لوجه الله والأمة.
ولعلي قد أطلت في هذا الجانب، جانب الأمانة العلمية في العمل الدرامي التاريخي، وهي إطالة بعضها مقصود؛ لما أرى من فضائح في مسلسلات أخرى، وبعضها غير مقصود لانبهاري بما يكتبه الدكتور وليد سيف.
هل تصدق مثلاً أن مسلسل (هارون الرشيد) المصري -وأنتج تقريبًا منذ 12 سنة- كان هارون الرشيد (قام بدوره نور الشريف) يلبس الأخضر والأصفر والأزرق من الثياب، بينما طالب التاريخ المبتدئ يعرف أن الدولة العباسية منذ نشأتها وحتى عصر المأمون كان شعارها السواد، وكانت تلبس الثياب السوداء؟
وهل تصدق كذلك أن مسلسل (أبو جعفر المنصور) السوري الذي عرض في رمضان الماضي (1429هـ/ 2008م) قدم العباسيين وكانوا يلبسون السواد حتى قبل أن يظهروا الدعوة ويحوزوا الدولة؟ في خطأ يعد فضيحة حقيقية لكاتب السيناريو أولاً، وللمخرج ثانيًا.
على أية حال، بقيت نقطتان في جانب الأمانة العلمية هذا نذكرهما بإيجاز:
1- الأمانة العلمية في نقل معسكر الخصم أو العدو
كان الصليبيون أعداءنا.. نعم، وذبحوا الآلاف.. لا شك في هذا، وكان تخلفهم الحضاري وتوحشهم الحيواني لا شبهة فيه، ولكن هذا لا يمنع أن يكونوا أبطالاً صناديد في القتال، وأن منهم من كان يؤمن بعقيدته إيمانًا يبذل فيه النفس والنفيس، كما كان منهم خونة وقتلة وأهل بطش وقسوة.
ليس من الواقعي أبدًا أن نصور كل الأعداء، كلهم وفي سلة واحدة، بأنهم أحط أهل الأرض أخلاقًا ونفوسًا وطباعًا، فهذا -فضلاً عن أنه ضد الطبيعة البشرية- فإنه مخالفة لحقائق تاريخية، ونحن نرى في عصرنا هذا نشطاء السلام الصهاينة ولهم حقًّا فعاليات ونشاطات مهمة ومشكورة، فلا هذا يحببنا في الكيان الصهيوني ولا هو يمنعنا من مقاومتها، ولا هو يحذف من عقولنا الصورة الوحشية الدموية للكيان الصهيوني.
وفضلاً عن تلك الأمانة العلمية في الوصف، فإني لا أعرف كاتبًا آخر اهتم بتفاصيل معسكر الخصم وما يدور فيه كما فعل الدكتور وليد سيف، حتى لو كان المسلسل يناقش فترة تاريخية مزدهرة لا يأخذ فيها الأعداء نصيبًا كبيرًا من المشهد مثل مسلسل ربيع قرطبة.
2- تنبيه مهم
أخشى بعد هذا أن يُفهم أحد أني أريد أمانة علمية تبحث عن أخطاء أبطالنا وعن بطولات أعدائنا، وأن يكون هذا هو "الأمانة العلمية". وقد مورس هذا ضدنا في مجال الفكر والتأريخ يوم أن سيطرت على بلادنا حكومات الاستعمار ثم عملاؤهم، وصعد "مثقفون" إلى مناصب التعليم والثقافة لأنهم لم يكونوا يفعلون إلا هذا، بل أشد منه.. كانوا يزورون التاريخ تزويرًا فاحشًا، بل ويزورون التاريخ القريب لا البعيد فقط، وقد منَّ الله علينا في هذا الزمن بحرية نسبية للإعلام من خلال الفضائيات والإنترنت، فصار الكذابون لا يحوزون ما كان لهم من سطوة فيما مضى. ولئن كان كل مهتم بالفكر الآن يعلم من هم المنافقون والكذابون من المرتبطين بالحكومات أو الاستعمار، فيُشْبِعهم لعنة واحتقارًا.. فلم يكن هذا متاحًا لمن كان قبلنا، فارتفعت نفايات الفكر وأصبحت أسماء كبرى، ولو قُدِّر لهم ما قُدِّر لخَلَفِهم ما صنعوا فتيلة.
القصد أن يقدم التاريخ كما هو، لا تاريخ المناقب ولا تاريخ المثالب، حتى نعمق بطولاتنا ونستفيد من أخطائنا، وهي بطولات بشرية ولهذا تستحق التعظيم، وهي كذلك أخطاء بشرية؛ ولذا تستحق التقويم. ويظل التاريخ الإسلامي أفضل تاريخ بشري، ويظل المسلمون حقًّا وصدقًا أعظم أمة صنعت حضارة إنسانية أخلاقية لم تتكرر حتى يومنا هذا، فالمنهج العلمي النزيه هو من يحكم بهذا ويُصَدِّق عليه، وشهادة التاريخ هذه تُقَدَّم لمن لم يؤمن بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
وليد سيف ساحر الفن والتاريخ جـ3
وليد سيف ساحر الفن والتاريخ جـ4
وليد سيف ساحر الفن والتاريخ جـ5
(3)
كانت السطور الماضية تتحدث عن الإشكالية ما بين النزاهة والأمانة العلمية، وما بين "ضرورات" الحبكة الدرامية.
فإذا دخلنا إلى تفاصيل القصة التاريخية، سيجد الكاتب نفسه على محك آخر، وهو تحليل وتفسير الشخصيات الفاعلة، شخصيات الأبطال، وشخصيات الأقزام، وكذلك شخصيات الخونة.
والبشر ليسوا خيرًا خالصًا، وليسوا شرًّا خالصًا كذلك. ومنهم من ينتقل من البطولة إلى الخيانة، ومنهم من ينتقل من الخيانة إلى البطولة. وقد صار مملاًّ وكئيبًا وفضائحيًّا أن تتحول المسلسلات التاريخية إلى شخصيات هي إما خيرٌ مصفى أو شرٌّ مكثف.. فإذا وجدت شخصية من كان بطلاً ثم تحول إلى الخيانة فلا بد حينئذ أن تفسر على أنه كان متآمرًا منذ أول لحظة ويصطنع البطولة، كما تفسر شخصية الخائن الذي تحول للبطولة بأنه بطل منذ أول لحظة، ولكنه "بذكائه" كان يقف منحازًا للعدو ثم سيختار اللحظة المناسبة للانقلاب عليه.
حياة البشر ليست بهذه السذاجة والسطحية.. ولم تكن كذلك يومًا.
وهذا ما يجعلنا نُصِرُُّ ونؤكد على أن يكتب التاريخ كما نقلته المصادر التاريخية التي تَوَفَّر عليها باحثون مجتهدون فقدموا أفضل ما استطاعوا من مجهود لاحتواء تفاصيل الفترة التاريخية، وألا يُترك هذا لكاتب يجتهد وحده دون امتلاك الأدوات، فإن كان يمتلك الأدوات البحثية فربما اضطرته ظروف الإنتاج إلى "سلق" المسلسل (وهذا لا يغفر له).
إن الكاتب سيجتهد لا محالة في ملء الثغرات التاريخية لأنه يكتب للصورة، ويجب أن يكون اجتهاده في إطار التاريخ الموجود لا أن يصنع تاريخًا من رأسه، ولو بحسن نية.. حسن النية هذا الذي دفع من قبل أناسًا لتأليف أحاديث نبوية؛ لكي يحثوا الناس على فعل الخير وترك المعاصي.
ولا يطلب أحد أن يكون الكاتب محايدًا، فهذا لا يستطيعه بشر ولا حتى الباحث العلمي، ولكن كما نطلب من الباحث الالتزام بمقاييس البحث العلمي، يجب أن نطالب كاتب التاريخ خصوصًا بالالتزام بالتاريخ؛ لأنه يعيد تقديم التاريخ الذي وقع ولا يؤلف قصة من خياله.
لم أصدق نفسي حقًّا حين شاهدت مسلسل صلاح الدين، الذي لم يتردد كاتبه أن يذكر أن صلاح الدين مثلاً شرب الخمر في شبابه، أو أن البطل الكبير عماد الدين زنكي غدر بحامية قلعة حارم بعد أن أعطاهم الأمان، أو أن عبد الرحمن الداخل قتل أسرى في بعض حروبه مع اليمنية، أو أن البطل الكبير المنصور بن أبي عامر -ذروة تاريخ الأندلس- كان يشرب الخمر قبل أن يتوب عنها.. وهكذا.
هذا هو المطلوب فعلاً، أن نقدم أبطالنا بشرًا كانت لهم أخطاؤهم وفي السياق الطبيعي الذي لا يجعل هذه الأخطاء تأخذ كل الصورة، كما يفعل مزورو التاريخ لأغراضهم، ولا أن تختفي من الصورة، كما يفعل مزورو التاريخ منا بحسن نية، وأن تقدم الشخصية التاريخية بأقرب ما يمكن لحقيقتها التاريخية لا بأفضل ما يمكن ولا بأسوأ ما يمكن.
وأُطَمْئِن الجميع أن هذا لن يخدش لأبطالنا بطولتهم، ولكنه سيجعلهم مثالاً قريبًا من الناس وقابلاً للتكرار والوجود، بل سيُعَوِّد الناس على أن يفهموا أنهم ليسوا شر خلف لخير سلف، بل هم من الأمة التي كالغيث لا يدرى أولها خير أم آخرها، وعلى أن يحكموا بالموضوعية والعدل فيقبلوا الخير، ويرفضوا الأخطاء، ويزنوا الناس بحسناتهم وسيئاتهم، فكل بني آدم خطاء.
وكذلك يجب أن نحاول فهم أولئك الذين خانوا، لماذا خانوا؟ وما هي حججهم وأفكارهم؟ وكيف استطاعوا أن يغلفوا هذه الخيانة بعبارات وشعارات وحجج إسلامية؟ سنرى في التاريخ أمثال صدام وعبد الناصر... وغيرهما الكثير ممن ذبحوا الأمة وقدموها لعدوها لقاء أن يظلوا على كراسيهم (وإن كنت أعتبر أن تاريخنا لم يعرف ملوكًا كملوك هذه الأيام في الخيانة أبدًا، ولهذا حديث وتفصيل آخر).
إنه من الضروري أن نفهم الشر والفساد والاستبداد؛ كيف يتغطى بـ"الوطنية والعروبة ومصلحة الأمة"، وقديمًا كان سيدنا حذيفة بن اليمان t يسأل النبي عن الشر مخافة أن يقع فيه، ومسلسل (ملوك الطوائف) خير من قدم هذه الأمثلة من الطغاة: المعتضد بن عباد، والوزير أبو بكر بن عمار وزير المعتمد. وما يمكن أن يجنيه هذا على الأمة التي تساقطت -في عهدهم- عواصمُها، كما سقطت في عصرنا القدس وكابول وبغداد، وعواصم أخرى مهيأة للسقوط.
بقيت شخصيات ترددت بين الخير والشر، أو وقفت في مناطق بينهما فلا يغلب عليها الخير أو الشر إلا في الأهوال وبعض الأحوال، أو لنقل بدقة أكثر: ترددت بين الصواب والخطأ، بين مثالية الأخلاق وضرورات الواقع، بين المفترض والمفروض. وستبقى هذه شخصيات يختلف فيها المؤرخون أبد الدهر، وإنها حقًّا مهمة جسيمة لرجل يريد أن ينقل التاريخ عبر الصورة، وهو مهما فعل فلن يرضي جميع الأطراف، وإني أشهد أن ذلك الساحر المبدع د. وليد سيف قد قام برسم هذه الشخصيات خير قيام، وحاول أن يقدم لها الصورة المتماسكة التي تتراوح بين الخيانة والبطولة أو تقف فيما بينهما أو حتى لا تتبين أحيانًا قرار الصواب من قرار الخطأ، بل أحيانًا كان يذكر اختلاف المؤرخين في ثوب درامي بديع. وهو رسم للشخصية يراعي أحوالها وأهوالها وإمكاناتها وطريقة تفكيرها ومواقع مصالحها، مما يجعلك تشعر أنك ترى تاريخًا حيًّا نابضًا لا مجرد سرد لما في بطون الكتب.
فمن هذه الشخصيات مثلاً: الأمير الشاعر أسامة بن منقذ ومعين الدين أنر حاكم دمشق والعاضد خليفة مصر الفاطمي (مسلسل صلاح الدين)، أبو مسلم الخراساني وأبو سلمة الخلال وعبيد الله بن أبان والمغيرة بن الوليد وعبد الملك المرواني (مسلسل صقر قريش)، وغالب الناصري وجعفر المصحفي الحاجب وعبد الله بن الملك المنصور (مسلسل ربيع قرطبة)، ويزخر مسلسل ملوك الطوائف بهذا النوع من البشر.
وخلاصة القول: أنك ترى تاريخًا حيًّا نابضًا، ورسمًا بديعًا للشخصيات بعيدًا عن حدية الأبيض والأسود، وحدية الخير والشر، وحدية البطولة والخيانة، وهذه النقطة تحديدًا -في نظري- أكبر مزية في مسلسلات الدكتور وليد سيف عن غيرها، حتى إننا كثيرًا ما نختلف في التقييم -أصدقائي وأنا- لبعض الشخصيات، تمامًا مثلما نختلف -في الواقع- في تقييم شخصيات معاصرة. ذلك أننا رأينا تاريخًا يقدم صورة أقرب إلى المتكاملة وأقرب إلى البشرية، حيث الأخطاء لها أسباب ولها مبررات ولها تفسيرات، وكذلك البطولة قد تكون سمعة ومفخرة وليست عملاً خالصًا لوجه الله والأمة.
ولعلي قد أطلت في هذا الجانب، جانب الأمانة العلمية في العمل الدرامي التاريخي، وهي إطالة بعضها مقصود؛ لما أرى من فضائح في مسلسلات أخرى، وبعضها غير مقصود لانبهاري بما يكتبه الدكتور وليد سيف.
هل تصدق مثلاً أن مسلسل (هارون الرشيد) المصري -وأنتج تقريبًا منذ 12 سنة- كان هارون الرشيد (قام بدوره نور الشريف) يلبس الأخضر والأصفر والأزرق من الثياب، بينما طالب التاريخ المبتدئ يعرف أن الدولة العباسية منذ نشأتها وحتى عصر المأمون كان شعارها السواد، وكانت تلبس الثياب السوداء؟
وهل تصدق كذلك أن مسلسل (أبو جعفر المنصور) السوري الذي عرض في رمضان الماضي (1429هـ/ 2008م) قدم العباسيين وكانوا يلبسون السواد حتى قبل أن يظهروا الدعوة ويحوزوا الدولة؟ في خطأ يعد فضيحة حقيقية لكاتب السيناريو أولاً، وللمخرج ثانيًا.
على أية حال، بقيت نقطتان في جانب الأمانة العلمية هذا نذكرهما بإيجاز:
1- الأمانة العلمية في نقل معسكر الخصم أو العدو
كان الصليبيون أعداءنا.. نعم، وذبحوا الآلاف.. لا شك في هذا، وكان تخلفهم الحضاري وتوحشهم الحيواني لا شبهة فيه، ولكن هذا لا يمنع أن يكونوا أبطالاً صناديد في القتال، وأن منهم من كان يؤمن بعقيدته إيمانًا يبذل فيه النفس والنفيس، كما كان منهم خونة وقتلة وأهل بطش وقسوة.
ليس من الواقعي أبدًا أن نصور كل الأعداء، كلهم وفي سلة واحدة، بأنهم أحط أهل الأرض أخلاقًا ونفوسًا وطباعًا، فهذا -فضلاً عن أنه ضد الطبيعة البشرية- فإنه مخالفة لحقائق تاريخية، ونحن نرى في عصرنا هذا نشطاء السلام الصهاينة ولهم حقًّا فعاليات ونشاطات مهمة ومشكورة، فلا هذا يحببنا في الكيان الصهيوني ولا هو يمنعنا من مقاومتها، ولا هو يحذف من عقولنا الصورة الوحشية الدموية للكيان الصهيوني.
وفضلاً عن تلك الأمانة العلمية في الوصف، فإني لا أعرف كاتبًا آخر اهتم بتفاصيل معسكر الخصم وما يدور فيه كما فعل الدكتور وليد سيف، حتى لو كان المسلسل يناقش فترة تاريخية مزدهرة لا يأخذ فيها الأعداء نصيبًا كبيرًا من المشهد مثل مسلسل ربيع قرطبة.
2- تنبيه مهم
أخشى بعد هذا أن يُفهم أحد أني أريد أمانة علمية تبحث عن أخطاء أبطالنا وعن بطولات أعدائنا، وأن يكون هذا هو "الأمانة العلمية". وقد مورس هذا ضدنا في مجال الفكر والتأريخ يوم أن سيطرت على بلادنا حكومات الاستعمار ثم عملاؤهم، وصعد "مثقفون" إلى مناصب التعليم والثقافة لأنهم لم يكونوا يفعلون إلا هذا، بل أشد منه.. كانوا يزورون التاريخ تزويرًا فاحشًا، بل ويزورون التاريخ القريب لا البعيد فقط، وقد منَّ الله علينا في هذا الزمن بحرية نسبية للإعلام من خلال الفضائيات والإنترنت، فصار الكذابون لا يحوزون ما كان لهم من سطوة فيما مضى. ولئن كان كل مهتم بالفكر الآن يعلم من هم المنافقون والكذابون من المرتبطين بالحكومات أو الاستعمار، فيُشْبِعهم لعنة واحتقارًا.. فلم يكن هذا متاحًا لمن كان قبلنا، فارتفعت نفايات الفكر وأصبحت أسماء كبرى، ولو قُدِّر لهم ما قُدِّر لخَلَفِهم ما صنعوا فتيلة.
القصد أن يقدم التاريخ كما هو، لا تاريخ المناقب ولا تاريخ المثالب، حتى نعمق بطولاتنا ونستفيد من أخطائنا، وهي بطولات بشرية ولهذا تستحق التعظيم، وهي كذلك أخطاء بشرية؛ ولذا تستحق التقويم. ويظل التاريخ الإسلامي أفضل تاريخ بشري، ويظل المسلمون حقًّا وصدقًا أعظم أمة صنعت حضارة إنسانية أخلاقية لم تتكرر حتى يومنا هذا، فالمنهج العلمي النزيه هو من يحكم بهذا ويُصَدِّق عليه، وشهادة التاريخ هذه تُقَدَّم لمن لم يؤمن بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
وليد سيف ساحر الفن والتاريخ جـ3
وليد سيف ساحر الفن والتاريخ جـ4
وليد سيف ساحر الفن والتاريخ جـ5
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق