محمد إلهامي[1]
أنعم الله على قبيلة غِفَار برجل موهوب، طاقة متفجرة وحماسة هادرة مع فصاحة وبيان وقوة حجة، ذلك هو جندب بن جنادة المعروف في التاريخ الإسلامي بكنيته ونسبه: أبي ذر الغفاري.
عندما سمع أبو ذر بأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يتأثر بالدعايات المنتشرة كما يتأثر بها ضعاف النفوس ومحدودي الثقة في أنفسهم، بل أرسل أخاه يستطلع له الخبر، إلا أن أخاه لم يأته بما أرضاه فقرر أن يقوم بهذه المهمة وحده، فخرج إلى مكة وأتى النبي (صلى الله عليه وسلم) وسمع منه، وأسلم، ثم واجه قريشا في عقر دارها بما تكره حتى ضربوه وآذوه، وما منعهم منه إلا أنه كان يملك أن يعطل مصالحهم التجارية باعتراض قوافلهم التي تمر على مساكن غِفار، ثم إنه عاد إلى بيته ودعاهم إلى الإسلام فأسلم أهل بيته منذ اليوم الأول، ثم أسلم معه نصف قبيلة غفار، مع انتظار النصف الآخر لهجرة النبي إلى المدينة، فلما هاجر النبي لحقوا به وأسلموا[2].
وهكذا تأتي قبيلة غفار في ميزان أبي ذر، الصحابي الكبير، وأحد السابقين الأولين إلى الدين، والذي قال عنه النبي (صلى الله عليه وسلم): "ما أظلت الخضراء (السماء) ولا أقلت الغبراء (الأرض) أصدق من أبي ذر"[3].
إلا أن أبا ذر على رغم ما امتلكه من هذه المواهب المؤثرة لم يتول أمر قومه في الإسلام، بل كان يؤمهم سيدهم إيماء بن رحضة، وعندما سأل النبي (صلى الله عليه وسلم): "يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: "يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها" . وفي رواية: قال له: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم"[4].
وعلى الجانب الآخر نجد أمرا عجبا، فما هو إلا قليل بعد أن أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد إلا رأيناهما قادة كبار في جيوش المسلمين على قرب العهد بالحال الأولى.
إنه فقه اختيار الرجال للأعمال..
فقه يحرم أبا ذر من الولاية على عمل مهما صغُر رغم أنه من السابقين الأولين ومن ذوي الطاقات والمواهب الدعوية، ثم يسند قيادة الجيوش إلى رجلين كانا منذ قليل في معسكر العدو.
كذلك نرى أن أبا بكر وعمر –وهما أفضل الناس بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) جندييْن في جيش يقوده الفتى ذي السبعة عشر عاما: أسامة بن زيد، فهو "خليق بالإمارة"[5].
ومن بين الصحابة اختار النبي مصعب بن عمير ليقوم بمهمة في غاية الدقة والخطورة، مهمة السفارة في المدينة، وعلى هذه المهمة يتوقف مسار الحركة كله، وكان مصعب على مستوى المهمة وفعلها، كذلك اختار النبي من بين الجميع حذيفة بن اليمان ليخترق معسكر العدو في أصعب اللحظات التي مرت على الدولة الإسلامية وفعلها بنجاح، واختار بلالَ بن رباح ليقوم بمهمة الأذان لأنه الأجمل صوتا، واختار زيد بن ثابت لتعلم اللغات، وحسان بن ثابت للمواجهة الإعلامية... وهكذا.
بل إن من الصحابة من لا نراه إلا في موقف واحد، حين تم تكليفه بمهمة، ولولاها لما كنا عرفناه، منهم عبد الله بن أنيس الجهني الذي قام بمهمة استخبارية قتل فيها خالد بن سفيان الهذلي فأجهض بذلك حربا كان يجمع لها.
لا نكاد نعرف تكليفا اختار له النبي رجلا من الناس إلا وكان الرجل على مستوى المهمة المطلوبة، ذلك أنه لم يكن اختيارا قائما على معيار التقوى والثقة، بل على معيار الكفاءة..
وقد كان هذا المعيار واضحا عند الصحابة إلى الدرجة التي راجع عمر فيها قرار النبي بإرساله كمبعوث مفاوض إلى مكة في أزمة الحديبية، فأشار عمر إلى أن عثمان أنسب منه لهذه المهمة لأن له عصبة داخل مكة تحميه إذا فشلت المساعي فيما لا عصبة لعمر، وقد كان، وعَدَل النبي عن رأيه إلى رأي عمر[6].
وتتلخص هذه الرؤية وهذا المنهج في هذا الترتيب الذي وضعه النبي (صلى الله عليه وسلم) للإمامة في الصلاة إذ قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما"[7]، وفي رواية (سنا). ومعنى (سلما) أي أسبقهم إلى الإسلام.
وواضح أن الترتيب لا يراعي إلا جانب القيام بالصلاة على خير وجهها.
وعلى هذا الأساس استند الإمام الشافعي في تكوين رأيٍ يخالف ظاهر الحديث، فهو يرى أن الفقيه القليل الحفظ أولى بالإمامة من الحافظ القليل الفقه ذلك أن الفقيه أقدر على التعامل مع أي ظرف بما عنده من العلم على عكس الحافظ قليل الفقه؛ يقول: "وإنما قيل -والله أعلم- يؤمهم أقرأهم لأن من مضى من الأئمة كانوا يُسْلِمون كبارًا فيتفقهون قبل أن يقرأوا، ومن بعدهم كانوا يقرءون صغارًا قبل أن يتفقهوا، فأشبه أن يكون من كان فقيها كان إذا قرأ من القرآن شيئا أولى بالإمامة لأنه قد ينوبه في الصلاة ما يعقل كيف يفعل فيه بالفقه ولا يعلمه من لا فقه له، وإذا استووا في الفقه والقراءة أَمَّهُم أَسَنُّهم، ولو كان فيهم ذو نسب فقدموا غير ذي نسب أجزأهم وإن قدموا ذا نسب إذا اشتبهت حالهم في القراءة والفقه كان حسنا لأن الإمامة منزلة فضل"[8].
بهذا الفقه في اختيار الرجال تم بناء الدولة الإسلامية بنسختها الأمثل في عصرها الذهبي، ومن العجيب أن أولى خطوات هذه المسيرة كانت في الاستعانة بالكافر الخبير بالطريق (عبد الله بن أريقط) ليكون الدليل في الهجرة.. فهل ثمة أوضح من هذا في تقديم معيار الكفاءة في اختيار الرجال؟!
وحيث أن الأمر أمر دين، وأمر أمة سترث الكتاب وتحمل أمانة البلاغ للعالمين، فإن العهد بالمسؤوليات إلى من ليس أهلا لها من علامات الانهيار والاحتضار؛ قال (صلى الله عليه وسلم): "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة"، قيل: كيف إضاعتها؟ قال: "إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة"[9].
***
لا نعرف منهجا انتبه لحال الفقراء والضعفاء في المجتمع كما انتبه إليه المنهج الإسلامي، فالآيات والأحاديث لا تتوقف عند الحض على رعايتهم والبر بهم، بل إنها تصوغ رؤية جديدة لهم؛ فَرُبَّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأَبَرَّه[10]، ومر بالنبي وصحابته رجل من أشراف الناس ثم رجل من ضعفائهم فأشار النبي إلى أن "هذا (الفقير) خير من ملء الأرض من هذا"[11]، كما أن عامة أهل الجنة من الضعفاء والمساكين[12]، بل إن لهؤلاء فضلا على جميع الأمة، فمن أجلهم يأتي الرزق والنصر من عند الله، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "هل تُنصرون وتُرزقون بضعفائكم"[13].
ورغم هذا الوضع الجديد للفقراء والضعفاء، إلا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) حين كان يختار الرجال للأعمال لم يعمد إلى اختيار الضعفاء والمساكين والفقراء، كما لم يعمد إلى اختيار الأثرياء والأغنياء باعتبار المناصب حكرا عليهم، بل إن اختياره كان قائما على أساس الكفاءة للمهمة المطلوبة بغض النظر عن التفاوت في المراتب والفضائل والدرجات عند الله.. ولم يرد مرة أن النبي عهد إلى رجل من عمل لما يمتاز به من تقوى وقرب من الله، متمنيا أن تقوم التقوى بإحلال البركة في العمل أو أن يكون الدعاء المستجاب هو الضمين بالنجاح.
لقد كان اختيار الأكفاء للأعمال منهجا مستقرا، مع الاعتراف لكل ذي فضل بفضله.
ولم يمت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا وقد كان هذا النظام في اختيار الأكفاء قد صار نظاما مستقرا، ولهذا استكملت الأمة من بعده بناء نفسها وصناعة حضارتها.. وهذا ما نتناوله في المقال القادم بإذن الله تعالى، لنرى كيف أن بناء الأمم لابد له من السير على هذا الفقه في اختيار الرجال لإدارة الأعمال.
يقول المستشرق الإنجليزي مونتجمري وات: "كان محمد رجل إدارة بارعًا؛ فكان ذا بصيرة رائعة في اختيار الرجال الذين يندبهم للمسائل الإدارية؛ إذ لن يكون للمؤسسات المتينة والسياسة الحكيمة أثر إذا كان التطبيق خاطئًا متردِّدًا، وكانت الدولة التي أَسَّسها محمد أصبحت عند وفاته مؤسسة مزدهرة، تستطيع الصمود في وجه الصدمة التي أحدثها غياب مُؤَسِّسها، ثم إذا بها بعد فترة تتلاءم مع الوضع الجديد، وتتسع بسرعة خارقة اتساعًا رائعًا"[14].
[6] د. أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة السادسة 1415 هـ، 1994م. 2/ 439.
[7] مسلم (673).
[8] البيهقي: السنن الصغرى، تحقيق د. محمد ضياء الرحمن الأعظمي، مكتبة الدارن، المدينة المنورة، 1410هـ = 1989م. ص314
[10] مسلم (2622).
[11] البخاري (4803).
[12] البخاري (4900)، ومسلم (2736).
[13] البخاري (2739).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق