غزة – تونس – السودان.. تعددت الأحداث والعُمْق واحد
في مثل هذا اليوم حققت الحركة المباركة، حركة المقاومة الإسلامية حماس، معجزةً عسكرية لا نعرف لها مثيلا في تاريخنا الحديث، حيث انتصرت الثلة القليلة المؤمنة على الوحش الإسرائيلي المسلح بما يفوق قوة العرب مجتمعة، حتى انسحب الجيش صاغرا، لم يحقق من أهدافه شيئا، وعاد إلى ثكناته بمزيد من الفضائح والجرائم ودماء المدنيين الذين لم يجد غيرهم ليستأسد عليهم.
إن حديث الحرب ومعجزة النصر حديث طويل، وجوانب روعته كثيرة، من صمود الناس خلف حماس، وتقديم حماس لقياداتها شهداء في المعركة –ولقد كدنا ننسى هذا من بعد ما طال علينا العمر مع زعماء إما متنازلين أو هاربين أو مختبئين- وما سمعناه عن قصص المجاهدين التي تبدو أسطورية لا تصدق.. إنه حديث طويل لا يُملُّ، على رغم ما أفاض فيه المتحدثون، ذلك أنه آية من آيات الله، و(لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا).
إلا أن أمرا مهما يظل مُلِحَّا على الذهن في كل هذه الحرب، وهذا هو ما امتازت به حماس عن كل الذين انتصروا على إسرئيل، ذلك هو أنها كانت وحيدة في الميدان، وحيدة تماما، لا ظهر لها ولا نصير. فحتى النصر الخالد الذي حققه حزب الله اللبناني، جاء وحزب الله مستند إلى عمق لبناني مفتوح، من ورائه قناة سورية تُفْضِي إلى المنجم الإيراني الكريم الذي لم يبخل (وجزاهم الله خيرا أن قاموا بواجبهم في الدعم والمساندة).. لكنَّ حماس انتصرت وحدها، على رغم الضيق والحصار والعنت الذي تفرضه مصر عليها، إن عمالة النظام المصري لإسرائيل صارت حقيقة لا تحتاج إلى إثبات بل يُشَكُّ في القدرات العقلية والبصرية لمن لا يراها.
لقد استمرت حماس في معركة الصمود والبطولة بعد حرب الفرقان، إلا أنها –مع ذلك- لم تستطع استثمار نصرها على النحو الممكن في البناء والتقدم على مسار القضية.. وما هذا إلا لنفس السبب.. مصر.. أو "العمق الاستراتيجي".
إن هذا "العمق الاستراتيجي" هو نفس المعضلة التي تواجهها تونس هذه الأيام، وهو الخطر الأكبر الذي قد يُفضي إلى اختطاف ثورتها، فالقذافي قال بوضوح أنه ضد هذه الثورة لا يؤيدها بل وسار في تمنياته إلى أن تمنى بقاء زين العابدين بن علي مدى الحياة، إن القذافي محير في الكتابة عنه حقا، إن وصفه بالمخبول يكاد يكون أفضل الألفاظ تهذبا، إلا أننا نفهم من صراحته –الصراحة أيضا أكثر الألفاظ تهذبا- أن تونس ستعاني من جهة القذافي. وعلى الجهة الأخرى ترقد جزائر بوتفليقة التي أضحت الآن محطة إدارة العمليات بين المخابرات الأمريكية والفرنسية مع دعم ومساندة من السعودية وليبيا، ولربما أطراف أخرى لم تظهر بعد في التسريبات الإخبارية.
إلا أن تونس في الوضع الأخطر.. ذلك أنه لا قيادة للثورة، بخلاف حالة حماس التي هي حركة من الطراز الأول في النظام والانضباط، ما يجعل اللاعبين الدوليين –ومعهم هذا العمق الاستراتيجي- يعملون في مسرح فارغ، في حين لم يكن لأحد أن يتحدث -فضلا عن أن يعمل- في غزة متجاوزا حماس.
لَكَم ضيَّعت علينا الزعامات العربية فرصا للتحرر والنهضة والتخلص من النفوذ الأجنبي وبناء المشاريع الوطنية، وها نحن – في يناير 2011- نرقب الوضع في تونس وأيدينا على قلوبنا، كما نرى قطاع غزة وبعد عامين من الحرب لم يرَ حتى وعود الإعمار تُقيم ما هَدَّمته الحرب، ونرى جنوب السودان ينفصل في غياب العمق الاستراتيجي للسودان والمتمثل –لمرة أخرى- في مصر!
كان أسوأ ما نُشر من أخبار في الفترة الماضية أن الرئيس جيمي كارتر صرَّح بأنه طمأن الرئيس مبارك أكثر من مرة بأن انفصال جنوب السودان لن يمثل خطرا على الأمن القومي المصري في الفترة الحالية!!!
لنا أن نضع ما نشاء من علامات التعجب، إذ أن القيادة المصرية صارت تعمل بالتطمينات فيما يخص أمنها القومي، كما أن هذه التطمينات يُقَدُّمها طرف غير ذي ثقة، وهذا الطرف نفسه يصرح بوضوح بأن التطمين قائم في "الفترة الحالية".
فإن كان هذا عمقا استراتيجا للسودان، فلنا أن نفهم جيدا كيف تضيع الفرص، بل كيف تضيع البلاد كلها!
لئن كان من أمل في شأن هذه المعضلة، معضلة العمق الاستراتيجي لحركات المقاومة والإصلاح، فهي أن كثيرا من القيادات باتت تنتظر ملك الموت، أو ربما تنفجر في وجهها ثورة الإصلاح بغتة وهم لا يشعرون.. (ولكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق