صبرنا إلى أن ملَّ من صبرنا الصبرُ ... وقلنا: غدًا أو بعده ينجلي الأمرُ
فإذا غدٌ دهرٌ، ولو مُدَّ حبله ... لانطوى في جوف هذا الغد الدهرُ
أين هي النقطة الحرجة الكامنة في أعماق الشعوب الإسلامية؟
ما يزال المحللين والمراقبين والمنظرين، بل والإصلاحيين، يتلقون في كل مرة صدمة جديدة من شعوبهم التي يتوقعون أنهم خبروها وحللوها ووصلوا إلى أعماقها وعرفوا من أين تُؤكل ومن أين تُساق، حتى لقد صاروا كمن قال الله فيهم (يُفْتنون في كل عام مرة أو مرتين).
حماس نفسها فوجئت بنسبة النجاح التي اكتسحت بها الانتخابات الفلسطينية، والإخوان فوجئوا بأنهم حققوا (33) مقعدا في المرحلة الأولى من انتخابات البرلمان، كذلك فإن مؤيدي حزب الله كانوا يضعون أيديهم على قلوبهم من انفضاض الناس عن حزب الله بعد حرب 2006، ومؤيدي حماس كانوا على وجل من قدرتها على مواجهة الحصار وإدارة القطاع ثم الانتصار في حرب الفرقان، لكن الشعوب فعلت هذا وصمدت وانتصرت، وإلى الآن لا ترى احتجاجات شعبية ضد حماس المحاصرة المرهقة التي اجتمعت عليها الدنيا، أو ضد حزب الله الذي يحاولون هزيمته سياسيا بعد هزيمتهم عسكريا.
فإذا كان هذا حال المصلحين ومؤيديهم وهم الأقرب للشعوب، فكيف بالحكام الذين انفصلوا عن شعوبهم منذ زمن بعيد، أو بالأجانب من صحفيين وخبراء وسفراء وباحثين وهم ثقافة أخرى وبيئة أخرى ونظرة أخرى.. فهؤلاء أبعد مكانا وأضل عن سواء السبيل.
واللافت للنظر أن هذه النقطة الحرجة دائما متقدمة عن التحليلات وسابقة لها، أي أن الشعوب دائما أفضل من المتوقع، وهذه الحقيقة ينبغي أن تنقل السؤال من "لماذا لا يثور الشعب؟" إلى "كيف نستطيع تثوير الشعب؟".
***
ما حدث في تونس كشف –أول ما كشف- عن جهلنا بها، فهذا الشعب الذي لم يَبْدُ منه قبل الآن شيء، فاجأ الجميع بأنه انطلق مرة واحدة، ثم تصاعدت ثورته حتى هرب رئيسه من أمامه مذعورا.
لم نكن نتوقع شيئا من بلد استطاع فيها القهر أن يحارب الناس في دينهم إلى الحد الذي كان رئيسه يجاهر بالفطر في نهار رمضان (بورقيبة) ثم يُمنع فيه ارتداء الحجاب –وهو فرض إسلامي- لا بل تفتي المؤسسات الدينية بأنه ليس من الإسلام في شيء، بل إن القيروان –وهي المنارة الإسلامية في الشمال الإفريقي- لا تقام فيها صلاة الجماعة.
لابد أن في الأمر ما نجهله، وجهلنا هذا سيؤدي إلى خطأ في التحليل والتقييم لما حدث، كما سيجعلنا ننتظر مفاجآت أخرى فيما سيحدث من بعد.. ونسأل الله أن يتم الثورة التونسية على خير وأن تحقق أهدافها كاملة.
ولئن كنا نجهل تونس الشعب، فالحمد لله أننا لم نجهل رئيسها البائد المخلوع، فلقد كرر المخلوع سيرة الطغاة من قبله حتى أكملها، ولقد كان تعامله مع الثورة كما تعامل كفار قريش مع دعوة الإسلام، تجاهل في البداية، ثم ضرب وتعذيب ومواجهة وحشية لا أخلاق فيها، ثم محاولات التفاوض، ثم لحظة الغرق التي قال فيها "فهمتكم، إيوه فهمتكم" فكأننا نرى فرعون يقول: "آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل"!!
ولقد أخبرتنا ويكيليكس –حفظها الله!!- في وثيقة سابقة أن الرجل لا يسمع لا لعدو ولا لحليف، إنما يعمل من رأسه وفقط، فكأنما تسمع قول فرعون (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).
ويبدو أنه تعود على هذا النمط إلى الحد الذي لم يعقل فيه متى يمكن أن يُقدم ومتى يمكن أن يتراجع، فكان أسوأ ما فعله أن أقال قائد جيشه ووزير داخليته وهو في قلب الأزمة، وهذا هو خطؤه القاتل الذي عجل برحيله؛ فلئن كان الطغاة لا يحفلون بحب الناس لهم، فإنهم يحفلون جدا بامتلاكهم نقاط القوة المتمثلة في الجيش والشرطة. ولا شك في أنه -في هذا الوقت العصيب الذي يواجه فيه الشعب- لو لم يصنع مشكلة مع الجيش والشرطة لكان استطاع إخماد الثورة.. كما استطاع غيره من الطغاة إخماد كثير من الحركات الشعبية بل والانقلابات المسلحة أحيانا.
وما إن فقد "بن علي" قوة الجيش والشرطة حتى فقد سلطانه جميعا، وما هو إلا أن هرب في طائرة قبل أن يقرر إلى أين يتوجه..
***
الحمد لله الذي أضله وقذف في قلبه الرعب..
إلا أن ثورة تونس غامضة، نتمنى أن تفاجئنا بكل خير كما فعلت حتى الآن، لكننا نخشى أيضا أن تفاجئنا بما لا نحب..
إنها ثورة لا نعرف لها قائدا ولا مفجرا ولا زعيما، حسنا؛ إن هذا يجعلها شعبية خالصة، ليست ملكا لأحد، وينفي عنها كل شبهة خارجية أو شبهة تآمرية، كما سيجعل الجميع متوحدا حولها ومن ثم فلن يحاول طرف أو توجه أو حزب إفسادها نكاية في الطرف الذي هو صاحبها.
إن ثمة ميزات كثيرة لكون هذه الثورة بلا قائد ولا زعيم ولا تيار..
إلا أنها ميزة على طريق الهدم، ومعضلة على طريق البناء.. إن الهدم لا يحتاج إلى مهندس ولا إلى فريق متناسق ولا إلى تخطيط مسبق، إنه يحتاج إلى مجموعة منطلقة تستطيع إحالة البناء إلى ركام، غير أن البناء لا مناص منه.
لقد قامت شعوبنا بثورات كثيرة على الاحتلال، تكاد كلها أن تكون قد سرقت حتى ليصح قول القائل "الثورة يشعلها ثائر ويقطف ثمارها جبان"، وتمخضت ثوراتنا المباركة ضد قوى الاحتلال عن أنظمة هي أشد علينا من الاحتلال نفسه فنكبتنا نكبة جديدة لم يستطعها الاحتلال ذاته.
لقد هدمت الثورة التونسية شخص "بن علي"، وهي الآن تعيش في الفراغ، فإن لم يكن ثمة بديل فإن بقايا النظام القديم ستعيد ترتيب صفوفها لتعود، كما أن الخارج لا يجلس منتظرا، وهو لاشك يعمل الآن على قدم وساق.
وعلى سبيل المثال: فثمة معلومات قريبة من اليقين عن أن فرنسا تواصلت مع أحزاب صغيرة لتدفعهم باتجاه منع صدور قانون عفو عام أو رفع الحظر عن التوجهات المحظورة، ولقد ظللت أتتبع هذا الخبر تحديدا فإذا به صحيح، وإذا كثير من التيارات تم التواصل معها إلا حزب النهضة الإسلامي المحظور، ولقد عادت بعض القيادات المعارضة إلى تونس فيما لا يستطيع –حتى لحظة كتابة هذه السطور- راشد الغنوشي أن يحضر إلى تونس.
المقصود أن الخارج قد دخل على الخط، وهذه الثورة إن لم تستطع إفراز قيادة، أو –بعبارة أخرى- إن لم تستطع قيادة ما أن تقود هذه الثورة، فإن عودة النظام القديم في طلاء جديد هو احتمال قائم، بل –للأسف- هو الاحتمال الأكبر.
ما أصعب إشعال الثورات، ولكن ما أسهل سرقتها ما لم تكن الثورة على مستوى المرحلة.. ما لم تكن ثمة قيادة تستطيع أن تمسك بالوضع الداخلي وتخاطب أحلام الجماهير.. وتتفاهم مع الخارج، نعم الخارج..
صحيح أن الخارج ليس إلها، لكن الخارج ليس صفرا.. وواقع الحال أن تونس دولة صغيرة وضعيفة، ويكاد ألا يكون لها عمقٌ يرحب بالثورة (يمينها بوتفليقة ويسارها القذافي وفوقها أوروبا).. فلا بد من قيادة تستطيع على الأقل أن تتفاهم مع هذا الخارج الذي يملك امتدادت بالداخل.
ومن المؤسف كذلك أن أحدا من قيادات المعارضة الذين امتلأت بهم الفضائيات والصحف في اليومين الماضيين لا تسمع منهم أي خطوات محددة يفكرون في القيام بها، ما يؤكد أن ثمة فراغا لا يوجد من يملؤه.. ولئن كان الشعب قد استطاع الثورة فالحقيقة المعروفة أن الجماهير لا تستطيع أن تتفق على رأي واحد ولا أن تسير في البناء والتعمير على قلب رجل واحد.. فيكون إلقاء التبعة على الجماهير في مثل هذا الأمر من تحميلهم ما هو فوق طاقتهم.
إن مشاهد الانفلات الأمني التي قامت بها ميليشيات بن علي بعد هروبه تثير القلق، وتؤكد أن الجماهير قد انتهت مهمتها بعد أن حققت "الهدم" وبقيَ أن يأتي من ينظم هذه التيارات الكثيرة في سياق واحد نحو "البناء".
***
هذه هي معضلة أن الثورة حتى الآن بلا قيادة معروفة.. لا أدري كيف ستحل ولا أحب أن أكون مثبطا فأتوقع هذا الاحتمال الأكبر..
ربما ينبغي أن نعلم أن الحاكم ليس إفرازا لشعبه، بل هو إفراز لمحصلة القوى المؤثرة في المجتمع، فأين هذه القيادة الداخلية التي ينبغي أن تظهر فتجمع قوة الجماهير في نسق يجعلها أقوى القوى العاملة في البلد.
ورحم الله المتنبي لما قال:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق