تنوعت الهموم في عالمنا العربي الإسلامي، ما بين دول تحبل بثورة كما في الأردن والجزائر والمغرب، ودول تمور بها وتعيش مخاضها المؤلم كما في سوريا واليمن، ودول أنجبت ثورتها وأمامها مهمة حماية الوليد من السرقة أو القتل كما في تونس ومصر وليبيا..
على أن نجاح الثورات في إزالة الماضي وإقامة النظام الجديد لابد له من توفر أمرين معا: عقل ذكي يخطط ولا ينخدع، وقوة تحميه ويستعملها، وإذا ضاع أحد هذين فمصير الثورة إلى الفشل المحقق لا ريب في ذلك، فإما ذكي مهزوم وإما قوي مخدوع، وكلاهما تضيع منه الثورة.
هذا المشهد يكاد يتكرر في تاريخ كل ثورة، وينتهي المشهد دائما إلى طرف وحيد فقط هو الذي سيجني مكاسب الثورة جميعا، ففي النهاية ثمة نظام سستؤول إليه الثورة، فإن لم يكن الثوار على قدر اللحظة التاريخية فهم أول الضحايا.
في السطور القادمة سنستعرض أربعة نماذج في تاريخ الثورة العباسية على الدولة الأموية، تلك النماذج هي: للقوي الذكي (المنتصر)، للذكي غير القوي (المنهزم)، للقوي غير الذكي (المخدوع)، لغير القوي غير الذكي (المنهزم المخدوع).
***
كانت الدعوة العباسية تعمل سرا على التحضير للثورة ضد الأمويين، وعلى رغم أن رأس الدعوة كان في الشام، إلا أن مركز الحركة كان في خراسان في أقصى شرق الإمبراطورية، وخراسان في هذا الوقت تعاني من انقسام بين القبائل العربية الكبرى، فكان الخطأ الأول الذي ارتكبه هشام بن عبد الملك (آخر الخلفاء الأمويين الأقوياء) هو أن عيَّن عليهم واليا اجتمعت فيه كل صفات الكفاءة ما عدا واحدة، تلك هي أنه ليس ذو عشيرة تحميه، أي ليس مستندا إلى دعم شعبي في خراسان، ذلك هو نصر بن سيار، وظن الخليفة أن هيبة الخلافة تُغني عن مقام العشيرة.
لكن نصر بن سيار لم يرتفع عن الانقسام بين القبائل في خراسان بل مال إلى الأقربين له من قبائل المضرية والربعية ضد القبائل اليمانية، فترسخت حالة الانقسام وتعمقت واشتد أُوارها، ربما لم يكن يمكنه أن يظل محايدا وهو يحكم مجتمعا تسوده قوة العشائر والقبائل! لا سيما وأن العلاقة بينه وبين والي العراق (وهو الذي يعلوه في الهيكل الإداري للدولة) متوترة، مما يعني أن دعم الخلافة نفسه ليس قائما كما ينبغي.
والخلاصة أن مشكلات خراسان زادت مع نصر بن سيار ولم تُحلَّ، وكان الانقسام هو الطريق الذي مهد للثورة العباسية أن تتجهز وتتقدم وتستمر في غيبة من الوالي المشغول عنها بحروبه مع جديع الكرماني (زعيم القبائل اليمانية) حتى تفاجأ الجميع بوجود حركة تدعو لآل البيت يتزعمها فتى في الثلاثين من عمره ويُدعى أبو مسلم الخراساني.
أبو مسلم الخراساني هو من يمثل القوي الذكي، يستند إلى قوة ثلاثين سنة من العمل المنظم للدعوة العباسية في خراسان، ويمتلئ هو بقوة الشباب وله من المواهب والإمكانات ما جعله على صغر سنه زعيما من أبرز زعماء التاريخ، وهو يقود دعوة ضد الظلم والجور ونصرة للحق وللحكم بكتاب الله وسنة رسوله والأئمة الراشدين.
بينما ساهمت سياسة نصر بن سيار القبلية، ومنها غدره بخصمه جديع الكرماني (زعيم اليمانية) في انفضاض الناس من حوله، فصار يعاني من الضعف في القوة والجند والعدد، ثم زاد الأمر سوءا علاقته المتوترة بوالي العراق يزيد بن عمر بن هبيرة فلم يمده بجنود من عنده متظاهرا بانشغاله بحرب الخوارج، كذلك لم يستطع الخليفة مروان بن محمد الذي اشتعلت حوله الثورات في الشام أن يفعل شيئا لنصر بن سيار في خراسان، فصار نصر بن سيار رغم ذكائه قليل الحيلة إذ لا قوة لديه، وقد أثبت بالفعل في تلك الأيام أنه سياسي من الطراز الأول.
أما الطرف الثالث في مشهد خراسان فهو علي بن جديع الكرماني، الذي ورث زعامة أبيه على القبائل اليمانية وأنصار أبيه من الربعية وبعض المضرية أيضا، وورث فوق ذلك ثأر أبيه أيضا، ولم يعد من شك في أنه سينحاز إلى حلف أبي مسلم الخراساني! وهنا دارت حرب عقول، فمن المهم لأبي مسلم أن يجعل هذا الجمع الكثير من الأتباع أنصارا للدعوة العباسية وأن يسحب انحيازهم بالتدريج لصالحه على حساب زعامة علي بن جديع الكرماني، بينما يريد علي بن جديع أن يصعد على هذه الموجة الثورية العباسية ليصير والي خراسان كما كانت رغبة أبيه ورغبة اليمانية فأَمَّل أن يكون هو الذي يبلغ ذلك الأمل. وقد فهم أبو مسلم الخراساني هذه الرغبة بطبيعة الحال فأنزل علي بن جديع منزل التكريم والحفاوة بل والرئاسة والإمارة وجعله الأمير عليه وكان يصلي وراءه ويناديه بالأمير!
ثم ظهرت في خراسان شخصية أخرى ساهمت في تغيير موازين الصراع المتوتر، وهي شخصية شيبان بن سلمة الحروري؛ كان شيبان من أتباع الضحاك بن قيس من الخوارج والذي انتهت ثورته بالفشل في العراق، ثم انضم إلى ثورة عبد الله بن معاوية في فارس والتي فشلت أيضا وهرب إلى خراسان.. ظهر شيبان الحروري فكان أول من اجتذبه إلى فريقه عليُّ بن جديع الكرماني فَتَقَوَّى مركزه، لكن يجب الأخذ في الاعتبار أن شيبان الحروري –باعتباره من الخوارج- طامح إلى الخلافة ذاتها وكان أنصاره يُنادون عليه بأمير المؤمنين كما هو المعروف عن الخوارج، ولا نعرف بالتحديد كيف كان الاتفاق بين علي بن الكرماني وشيبان الحروري غير أن المؤكد أن شيبان كان يحظى بتوقير كبير وهو في حلف علي بن جديع وكان يُنادي و"يُسَلَّم عليه بالخلافة" ، فهل كان ثمة اتفاق بينهما على أن ينصره هذا في طلب الخلافة وينصره هذا في طلب خراسان؟ أم كان اتفاقا مرحليا لم يتعرض للغايات والأهداف النهائية؟ هذا ما لم نجد شيئا عنه فيما بين أيدينا من مصادر.. فالله أعلم!
بهذا صارت خراسان بين ثلاث جبهات قوية:
1. جبهة علي بن جديع الكرماني في مرو (عاصمة خراسان) ومعه شيبان الحروري وأتباعه.
2. جبهة نصر بن سيار الوالي الأموي في نيسابور (عاصمة خراسان الثانية التي انسحب إليها نصر بن سيار بعد فشله في الاحتفاظ بمرو.
3. جبهة أبي مسلم الخراساني وأهل الدعوة العباسية فيما حول مرو
حاول أبو مسلم ما استطاع أن يجتذب إليه والي خراسان نصر بن سيار، وبذل في هذا محاولات مضنية، لكن نصر بن سيار وهو السياسي الذكي لم يكن بالذي يُخدع، واشترط ضمانات كافية ليدخل في هذه الدعوة، وبطبيعة الحال لم يكن في يد أبي مسلم أي ضمانات يمكن أن يعطيها لنصر بن سيار، فالدعوة العباسية تقف من الأمويين وأتباعهم موقف التناقض الكامل، وكل ما في الأمر أن أبا مسلم يريد انتصار دعوته بأقل الخسائر بينما لا يفوت على نصر بن سيار أنه إن استجاب ودخل في دعوة أبي مسلم فإنه سيفقد الظهر الأموي نهائيا وتذهب كل آمال الإمدادات، وسيصير أسيرا –بحكم الواقع الفعلي- في يدالعباسيين وإن كان يُنادى بالأمير.
ساهم هذا التناقض الكامل في أن يتأكد التحالف بين جبهة العباسيين بقيادة أبي مسلم وبين علي بن جديع الكرماني، وبعد أن كان أبو مسلم حريصا على أن يبدو كالمحايد بين الأطراف المتقاتلة في خراسان تم إعلان هذا التحالف، وقد نزل هذا على رأس نصر بن سيار كالصاعقة، وحاول هو الآخر محاولات مضنية مع علي بن جديع الكرماني ليفض هذا التحالف إلا أنه فشل. فحاول كثيرا مع شيبان الحروري الذي استجاب لنصر بن سيار ولكنها استجابة قلقة على خوف من نصر بن سيار أن يغدر به كما غدر بجديع الكرماني من قبل، ومن ثم أدت هذه الاستجابة القلقة الخائفة إلى انهيار التحالف الهش، فانسحب شيبان الحروري من كل هذا الصراع الدائر في خراسان، وإذا نظرنا إلى الأمور من زاوية شيبان سنجد الآتي:
1. انفضاض كثير من أتباعه عنه ودخولهم في دعوة أبي مسلم وجبهة علي بن الكرماني؛ ذلك أن طرف أبي مسلم هو الطرف الوحيد الذي يتمتع حتى الآن بطهارة الثوب والسمعة الحسنة، وهو صاحب دعوة إلى الحق ولم يرتكب حتى الآن ما يسيء إليه، بل على العكس تماما، فهو الذي رغم امتلاكه الأنصار لم يحارب ولم يقاتل وبدا حريصا على حقن الدماء. كذلك فإن أمر الأمويين مضطرب ومتشتت في الشام يقتل بعضهم بعضا، هذا بالإضافة إلى توثق التحالف بين علي بن الكرماني وبين أبي مسلم.
2. شيبان نفسه –وهو الوافد الغريب عن خراسان- ما كان بإمكانه أن يثق في نصر بن سيار ثقة تامة، فنصرٌ هو الوالي الأموي المخلص لهم، وشيبان ذو تاريخ تمردي ومتواصل.
3. وفي ذات الوقت كان علي بن الكرماني حريصا على ود شيبان فاجتمع به، وبكل لهجة الود والنصح شرح له الوضع المتردي الذي هو فيه، وأعطاه سلطة في سرخس وسمح له بأخذ الضرائب فيما المنطقة ما بين نيسابور وهرات.
وأمام هذا الوضع وهذه الإغراءات لم يملك شيبان إلا أن يطلب السلامة والموادعة واستجاب لهذا العرض وانسحب مع أتباعه من خراسان إلى سرخس، وزاد هذا الانسحاب في قوة أبي مسلم وفي ضعف موقف نصر بن سيار.
فكيف سارت الأمور؟ وكيف تطور المشهد الخراساني؟
أين انتهى الذكي القوي (أبو مسلم الخراساني ودعوته العباسية)؟ وأين انتهى الذكي الضعيف (نصر بن سيار)؟ وأين انتهى القوي غير الذكي (علي بن جديع الكرماني)؟ وأين انتهى غير الذكي غير القوي (شيبان الحروري)؟.. هذا بإذن الله ما نتعرض له في المقال القادم.
رائع بل اكثر من رائع
ردحذفمدونة رائعة
ردحذف