تذكرت في هذه الأيام دراسة كتبتها قبل ست سنوات عن تأثير الانترنت على الأمة الإسلامية، وجعلت عنوانها "الأمة توشك على النهوض"، وفيها اعتبرتُ أن الانترنت هو النعمة الكبرى التي أنعمها الله على هذه الأمة، وأنه بداية تحول المسار التاريخي نحو النهوض مرة أخرى، وفيها قلتُ بأن الانترنت هو البديل العصري عن مؤسسات الوقف الإسلامية.. هذه المؤسسات التي كانت حجر الزاوية في بناء الحضارة الإسلامية.
ولشرح هذه الفكرة ينبغي أن يكون لنا حديث في التاريخ.. وفيه نرصد أربعة محطات مَثَّلت التحولات الرئيسية:
أولا: قبضة الدولة
فيما عدا القرون الأخيرة من عمر البشرية، كانت قبضة السلطة تتوقف عند حفظ الأمن وضمان الولاء، وكلما كان للسلطة جيش قوي كلما اتسع نطاق مُلكها، وكلما ضمنت ولاء الولاة كلما تمتعت بالاستقرار والهدوء، وكانت نهضة الدولة حينئذ أن تكثر الأموال عبر الاستيلاء على الموارد والثروات وممارسة قدر من ضبط وتنظيم عمليات الزراعة والصناعة وتوفير الأمن، لاسيما في حاضرة الدولة، وكان ظهور الحاكم القوي البعيد النظر إيذانا بدخول أمته في نهضة حضارية عبر رعايته للعلوم والآداب والفنون.. فإذا جاء إلى السلطة حاكم ضعيف كان ذلك إيذانا بدخول أمته في تراجع حضاري يظل سائدا حتى يأتي حاكم قوي مستنير لمرة أخرى.
ثانيا: التمويل الذاتي يرعى "الشرارة الحضارية"
إلا أن الأمر كان مختلفا في الحالة الإسلامية، ذلك أن الإسلام أتى باختراع عبقري جديد، جعل الأمة تمتلك تنمية وتطوير وتمويل نهضتها الحضارية بمعزل عن السلطان، ذلك هو "الوَقْف"؛ فلقد مثلت الأوقاف عبر التاريخ الإسلامي حصنًا أمينًا يحمي مسار النهضة الحضارية من تقلبات السياسة والسلاطين، ولم تكن الأمة تحتاج من السلطة إلا إطلاق "الشرارة الحضارية" لتبدأ في رعايتها وتثميرها وتمويلها ذاتيا عبر الأوقاف، فكان السلطان القوي يأمر بإنشاء المستشفى الفلاني أو المرصد الفلاني أو مدرسة أو بيت للترجمة والعلوم أو ما إلى ذلك من مؤسسات النهضة، وكذلك كان يفعل الأثرياء والقادرون كلٌ حسب طاقته واهتماماته، ثم يُوقِف السلطانُ أو الرجل القادر شيئا من أملاكه للإنفاق على هذه المؤسسة، فكانت الآجال تأخذ الرجال فيما يتولى ما تركوه من أملاك موقوفة تمويلَ مشاريعهم حسب وصيتهم.
هكذا مَوَّلت الأوقاف المساجد والمدراس والمستشفيات والمكتبات والفنادق والخانات والحمامات والأسبلة وإصلاح الطرق وإنشاء القناطر والجسور، كما ساهمت في وتحرير الأسرى والإنفاق على الفقراء واليتامى والعجائز والعَجَزة ومن لا عائل لهم وسائر المحتاجين من طوائف الناس بل لقد وُجدت أوقاف لرعاية الطيور والحيوانات وعلاجها، وأهم مما سبق أنها وَفَّرَت التمويل اللازم لطلبة العلم الفقراء، وأهم من هذا أنها وفرت الاستقلال المالي للعلماء، فأغنتهم بهذا عن التبعية للسلطان.
فمن هنا كانت الحركة الحضارية منفصلةً عن الحركة السياسية، فلربما ضَعُفَت القوة السياسية بل حتى ربما وقعت البلاد تحت الاحتلال، بينما ظلت الحالة الحضارية متوهجة ومتألقة ومزدهرة، فإذا الذين دخلوا بلادنا ليحتلوها يقعون في "الأَسْر الحضاري" فمنهم من دخل في ديننا كالمغول والأتراك، ومنهم من عاد إلى قومه بقبس من نورنا كما في الحروب الصليبية والأندلس.
ولا شك أن هذا الانفصال لم يكن تاما بإطلاق، فلا ريب أن الحركة الحضارية تتأثر بالتراجع السياسي لاسيما إن طال، غير أن الحالة العامة كانت على هذا الشأن، بفضل مؤسسة الوقف التي جعلت الأمة في موضع الفاعل والمشارك في صناعة النهضة والحضارة.
ثالثا: الدولة المركزية والسلطة الحديدية
ثم كانت النكبة الكبرى التي حلت بالأمة حين ظهرت الدولة المركزية، تلك الدولة التي جاءها التطور الحديث بأسلحة جديدة جعلها لا تكتفي فقط باستقرار الأمن وضمان الولاء، بل أعطاها فرصة للتحكم في كل شيء حتى في صناعة العقول، والرقابة على الأفكار، والتحكم في سائر التصرفات التي تشمل حياة الناس، فهي التي تضع مناهج التعليم وتتحكم في اختيار من يقومون بتدريسه (لابد أن يخلو من أفكار لا يهواها السلطان)، وهي التي تضع –بمعزل عن الناس ورغما عنهم- سياسة المال ونظم الإدارة، بل هي التي تصنع الخطاب الإعلامي الذي يسمعه الناس صباحا ومساءا عبر التلفاز والإذاعة والصحافة فتصوغ عقول الناس وقلوبهم على مثالها الذي تريد.. وهي أيضا التي تُشرف على الأوقاف!
ومن هنا صارت السلطة هي الفاعل الوحيد في الحياة بامتلاكها كل المؤسسات، وخرجت الأمة من المعادلة الحضارية، فإذا أنعم الله على أمة بحاكم صالح فهو يسير فيها بالعدل وينهض فيها بالحضارة، وإن كان غير ذلك دخلت الأمة في استبداد مستفحل لا تملك معه شيئا في ظل موازين القوى الجديدة التي تجعل السلطة ذات قبضة حديدية، وكثيرا ما ينتهي هذا الاستبداد إلى الاحتلال.. الظاهر منه والخفي.
وكثيرا ما كانت النخبة الحاكمة غير معبرة عن الأمة بل ربما كانت ضدها على طول الخط، شيءٌ من بقايا الاستعمار وأذنابُه وأذيالُه، حتى لقد كان الكفر يُرَوَّج له بمال الأمة، وتُمَوَّل الأفكار الهدامة من ثرواتها ومقدراتها.
لقد كان من سوء الحظ أن ظهرت الدولة المركزية والأمة في حالة ضعف وتراجع حضاري، فحَكَمَها من لم يكونوا أوفياء لها ولثقافتها وحضارتها فصنعوا أزمتها ورَسَّخوا لتخلفها وتبعيتها في كل المجالات، ثم ما لبث الأمر أن ازداد سوءا حين أتى التطور الحديث بما جعل العالم كله رقعة صغيرة فصار يُراد للأمة لا أن تكون على مثال حاكمها فحسب، بل على مثال القوة الدولية المهيمنة في عصر القطب الواحد.. وعانت الأمة من خطر العولمة والأمركة.
رابعا: ظهور الانترنت وبداية استعادة الأمة للفعل
ثم ظهر الانترنت.. نعمة الله الكبرى على هذه الأمة، ومهما قال القائلون في سلبيات ظهوره وتأثيراته السيئة، فإن المعنى الأهم هي أنه أعطى للأمة فرصة الفعل.
إن معادلة التكنولوجيا معقدة، صحيح أنها تتيح للسلطة تحكما كاملا في النظام التقني (system) لكنها في ذات الوقت تعطي المستخدم صلاحيات واسعة ليكون في موضع الفاعل والمشارك، وهذه هي النقلة الكبرى التي حُرِمتها الأمة منذ ظهرت الدولة المركزية ذات القبضة الحديدية والسلطة الأخطبوطية.
ما الذي حققه الانترنت؟
لن تكفينا صفحات المجلة للحديث عن الفوائد العظمى التي جنتها الأمة من الانترنت، إلا أننا سنمر سريعا وبغاية الممكن من الإيجاز على أهم المحطات الكبرى.
1. مرحلة المواقع
من هنا بدأ التحرر من الإعلام الرسمي وكسر احتكار المعلومات، لقد صارت وسائل الإعلام لا نهائية ولا محدودة، ولئن كانت الفضائيات قد وَفَّرت للأثرياء نوعا من هذا التحرر قبل سنوات، فإن الانترنت وَفَّر هذا لعموم الناس.. لقد كانت هذه هي الخطوة الأولى ليعرف الناس طريق الحقائق كما ترويها الأطراف المختلفة لا كما ترويها السلطة وحدها.. هذه بحد ذاتها نقلة في الوعي هائلة.
2. مرحلة المنتديات
لئن كانت المواقع قد كسرت احتكار المعلومات إلا أنها ظلت في موقع التوجيه وظل الذي يُطالعها في موقع المُتَلقي، فلما جاءت المنتديات الحوارية التفاعلية صار المُتَلَقِّي في موضع الفاعل والمشارك، وهنا التقت الأمة عبر الانترنت، ورويدًا رويدًا بدأت حركة الشعوب تعمل في صمت في هذا العالم الافتراضي، ولقد كانت الأمة –كالعادة- على مستوى المرحلة، فمن المنتديات وُلدت مشاريع حضارية هائلة صغيرة وكبيرة وضخمة، تعارف أصحابها عبر المنتديات ومنها انطلقوا، كثيرة جدا هي فوائد المنتديات من أهمها: إطلاق المواهب والطاقات التي لم يكن واقعها على الأرض يسمح لها بالظهور أو الفعل، التعارف على الأفكار من أصحابها والتحاور حولها دون التقيد بالزمان أو المكان أو السلطة، وفي ظني أن الحوار على المنتديات هو أفضل حوار على الإطلاق؛ ذلك أن الحوار يدور حول الفكرة ولا يرى الأشخاص بعضهم بعضا – لا مجال للمقاطعة – لا مجال لأن يستقل الصغير بنفسه أو يمارس الكبير وصايته.. لقد أسفرت المنتديات عن أدباء وشعراء وكُتَّابًا وفنانين كثيرين جدا، وصاحب هذه السطور لم يكن يدري أنه يجيد الكتابة إلا بعد أن مارس المنتديات وسمع تشجيعا ولقي ثناء وإعجابا.
لقد صنعت المنتديات للأمة شيئا عظيما لا يعرفه حق المعرفة إلا من مارسها طويلا، فمنها بدأ صاحب كل موهبة وعلم في التعاون مع أمثاله لتطوير أنفسهم ولتعليم من لا يعلم، مجانا، دون انتظار أجر، وبدأ صاحب كل طاقة في تسخير طاقته لإدارة الحملات الإعلامية والتنموية والخيرية.. ربما كانت انتفاضة الأقصى الحدث الأول الذي يساهم فيه العرب على الانترنت، ولا شك أن الجانب الأكبر من الزخم الإعلامي المصاحب لها كان الفضل فيه للمنتديات التي كانت تنقل الأخبار عبر المشاركين في الانتفاضة أنفسهم، وبالصور، والفيديو، فأعطى هذا مادةً هائلةً لوسائل الإعلام ما كان بالإمكان أن تصل إليها.. هذا بخلاف التفاعل الذي انهال عليها من كل أنحاء الأمة، وحملات الضغط الإعلامي، وجمع التبرعات، والتوعية بالقضية ونشرها.. لقد كان الحدث يُدار في الحقيقة عبر المنتديات، وبها تحققت انتقالة نوعية في مستوى الوعي والتعاون بين أفراد الأمة بعيدا عن –بل ورغما عن- الحكام الذين اضطروا أن يلاحقوا حركة الشعوب.
وعلى هذا قس ما بعد انتفاضة الأقصى من أحداث، فكل حدث كان أفضل من سابقه، إذ تنضج الخبرات القديمة، وتأتي طاقات جديدة بازدياد عدد الداخلين والمشاركين والمتفاعلين في المنتديات، وتكثر المنتديات نفسها وأحيانا تتحالف، وتشترك في حملات وفاعليات وتديرها معا.
3. مرحلة المدونات
ثم جاءت مرحلة المدونات، وأهم ما فيها أنها وفرت الحرية الكاملة لكل شخص في أن يعبر عن نفسه كيفما أراد دون أدنى نوع من الرقابة، لقد كان من عيوب المنتديات أن لها شروطا تضعها المجموعة التي تدير المنتدى، ويمكنهم حذف وتوقيف عضوية المشارك أو التدخل في مشاركته وتحريرها، وبطبيعة الحال اختلفت مساحة الحرية تبعا لكل منتدى: توجهه وشروطه ومرونة القائمين عليه. فلما صار لكل إنسان القدرة على إنشاء مدونة له يفعل فيها ما يشاء سقطت كل القيود.
وفي المدونات ظهر التلاقح بين كل الأطياف والأفكار من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار (كانت المنتديات الإسلامية تضيق بالملحدين والعلمانيين، والعكس بالعكس أيضا، ويمارس كل توجه في منتداه سلطاته على الأعضاء المخالفين، أما في المدونات فالأمر يختلف).
كما ظهرت شخصيات مثلت رموزا فكرية من الشباب في كل هذه التوجهات، فالمدونة أرشيف للكاتب مقالاته وحوارته، وبعدما كان الواحد من هؤلاء تائها وسط الآلاف مثله في المنتديات، فإنه صار الآن في وضع خاص كالذي يُزار في بيته على وجه الخصوص ليستفاد منه.
أظهرت المدونات كثيرا من الفوائد الجمة، إلا أن أهمها على الإطلاق هو أنها ولدت ما عُرف باسم "الصحافة الشعبية"، حيث نجح البعض من ذوي الموهبة الصحافية والإعلامية في أن يتفوق على الإعلاميين الرسميين في الموهبة، فوق أنه متميز عنهم بانعدام القيود عليه من قبل المؤسسة الإعلامية، وصارت بعض المدونات مصدرا أساسيا للأخبار تنقل عنه وكالات الأنباء العالمية والمؤسسات الإعلامية الكبرى، وبعض هذه المدونات مَثَّل صداعا دائما للسلطات التي فوجئت بأن فضائحها التي كانت تمارسها في الحارات والأزقة حيث لا تصل إليها العيون قد صارت في لحظات منقولة على المدونات ومنها إلى وكالات الأنباء.
لقد كانت المدونات الخطوة الأولى على طريق قلب المعادلة، وجعل الأمة في مكان الفاعل بينما السلطة في مكان المفعول به وموقع رد الفعل.
4. شبكات التواصل الاجتماعي
إلا أن ثمة عيبا في مرحلة المدونات، ذلك هو صعوبة المتابعة، فإذا كنت حريصا على متابعة أربعين أو خمسين مدوِّنًا فأنت مضطر للدخول في كل يوم –أو أكثر من مرة في اليوم بحسب نشاط صاحبها- إلى كل هذه المدونات، وقد لا تجد جديدا.. جرت عدد من المحاولات للتغلب على هذه المشكلة مثل المجمعات التدوينية وبرامج قراءة المغذيات (feed) وغيرها.. إلا أن الثورة الكبرى التي عالجت هذه المشكلة وأضافت إليها ميزات جديدة كانت في ظهور شبكات التواصل الاجتماعي لا سيما الفيس بوك (facebook) والتويتر (twitter) بالإضافة إلى اليوتيوب (youtube)، فبإمكانك أن تتابع مئات وآلاف الأشخاص عبر هذه الشبكات.
صدق أحد الشباب حين قال: لقد تحولت شبكات التواصل الاجتماعي في العالم العربي إلى شبكات تواصل سياسي، ولمرة أخرى كانت الأمة على مستوى الحدث تماما، فعبر هذه الشبكات تم تنظيم كل ما يمكن تنظيمه من فعاليات: سياسية واقتصادية وخيرية ودعوية، وفيها تم نشر المقالات والتصميمات الفنية ومقاطع الصوت والفيديو، وصارت هذه الشبكات عقبة حقيقية أمام الحكومات الاستبدادية، فهي توفر مناخا ممتازا لنشر فضائحها ولتنظيم الفعاليات ضدها..
لقد تحولت السلطات إلى موقع رد الفعل، واضطرت في كثير من الأحيان إلى حجب المواقع والصفحات، بل إلى قطع خدمة الانترنت كلها كما حدث في الثورة المصرية التي تم تحضير شرارتها على شبكات التواصل الاجتماعي، وأتوقع أن تستمر الأمة في القيام بالفعل حتى تضطر السلطات إلى القيام بإصلاحات حقيقية أو مواجهة الثورة.. وهذا ما يحدث أمامنا الآن، ونراه بعين الحقيقة لا في الخيال والأحلام.
لقد وضع الانترنت الأمة في موضع الفعل، وهيأ لها سبلا لم تكن متوقعة.. فمن هنا نقول بأن الأيام دارت دورتها، وأن الأمة الآن في طريقها لاستلام زمام نفسها وقيادة نهضتها وإبداع حضارتها من جديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق