هذا ما يسميه المؤرخ البريطاني إدوارد كار “أنف كليوباترا”، على اعتبار أن ثمة شيء صغير يمكن أن يقع في لحظة ما فتتفاعل الأحداث في اتجاه غير متوقع، وضرب على هذا عددا من الأمثلة الطريفة، قال: “حينما امتنع القائد العسكري Bajazet بسبب إصابته بالنقرس عن السير إلى وسط أوروبا فإن جيبون لاحظ أن مزاجاً حاداً يصيب شخصاً ما قد يمنع أو يؤخر بؤس أمم عدة، وحين توفي الإسكندر اليوناني في خريف 1920 نتيجة عضة من قرد مدلل فإن تلك الحادثة افتتحت سلسلة من الأحداث (دخول اليونان في حرب مع تركيا) دفعت السير ونستون تشرشل إلى القول: إن ربع مليون إنسان ماتوا نتيجة عضة القرد تلك! أو لنأخذ تعليق الزعيم الروسي تروتسكي على الحمى التي أصابته حين كان يصطاد البط البري، وقد أصابته في لحظة حاسمة من نزاعه مع زينوفييف وكامنييف وستالين في خريف 1923 فقد علق قائلاً: بوسع المرء أن يتنبأ بثورة أو بحرب، ولكن يستحيل عليه أن يتنبأ بعواقب رحلة خريفية لصيد البط البري”.
يمكننا أن ننسج الكثير على هذا المنوال، والتاريخ مليئ بأمثالها، فكم من حوادث صغيرة في لحظات فارقة كان لها أثر كبير.. إلا أن هذا السلوك للتاريخ الإنساني يدفع بالمؤرخ الغربي إلى الظن باستحالة التنبؤ بالتاريخ، لأن حوادث غير معروفة قد تأتي فجأة فتقلب كل التوقعات.
إنها لحظة بائسة يعيشها الفكر الغربي عامة، إذ يحاول الغربيون “السيطرة” على الإنسان والتاريخ والنفس، كما استطاعوا “السيطرة على الطبيعة والعلوم”، والمشكلة الأساسية وراء كل هذا وذاك هو الاعتقاد بأن الإنسان ليس إلا جزءًا من الطبيعة، وهو – لهذا – محكوم بقوانين علميَّة صارمة لا بد من اكتشافها وتسخيرها كما تم في حالة الطبيعة, المواد الخام.
وهذه المشكلة المزمنة التي تواجه كل من لا يؤمن بالإله ويعتقد اعتقادًا دروينيًّا في أصل الإنسان، لا نراها تواجه المؤمنين بالإله في عمومهم، فهم بالتالي يملكون إيمانًا بأنَّ الإنسان فوق الطبيعة وغير خاضع لقوانين المادة.
مشكلة “أنف كليوباترا” تُعيق الفكر الغربي عن التوصّل إلى طريقة تتيح “السيطرة على الإنسان” و”السيطرة على التاريخ”.
بالتأمل في هذه المشكلة لاحظت مفارقة عجيبة، إن “أنف كليوباترا” في الفكر الغربي هي “قدرة الله” في الفكر الإسلامي، أو هي “الأمل في الله”.. إن الشيء الذي يمثل مشكلة عند الغربيين هو ذاته الذي يمثل الأمل عندنا نحن الشرقيين؛ ذلك أن الحوادث والضوائق مهما بلغت صعوبتها وضيقها لا ينبغي أن تدفع بالمؤمنين إلى اليأس لسبب في غاية البساطة، أن الله يرى ويسمع ويقدر.
يا له من تفسير عجيب لقول الله تعالى “إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون”.
قبل شهور فقط، من كان يظن أن صفعة من يد جندية (اسمها فادية حمدي) في مدينة تونسية هامشية على وجه عاطل يمكنها أن تحدث موجة ثورية هادرة تؤثر في العالم كله، فتقلب أوضاعا مستقرة منذ أكثر من نصف قرن، وتزلزل عروشا ظنها الناس لا تتزلزل.
إن الله يرى ويسمع ويقدر.. و”إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون”.
ولَرُبَّ نازلة يضيق بها الفتى ذرعا … وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت … وكنت أظنها لا تفرج
نشر في: يقظة فكر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق