كاتب هذه السطور ممن يرى بأنَّ الحضارة ذات وجهين: “وجه ثقافي ووجه مادي”.. وعليه، فإنَّ ثقافةً لم تستطع أن تثبت نفسها في واقع الأرض عبر إنتاج مادي لا تكون حضارة، كذلك فإنَّ إنتاجًا ماديًّا لم تُفرزه صيغة حضارية هو “عشوائيات” أشبه أن تكون كالمشكوك في نسبه وانتمائه.
ولهذا لا يمكننا الحديث عن “حضارة بهائية” أو “حضارة صابئية” أو “حضارة درزية”.. فكل هذه الأفكار لم تستطع أن تثبت نفسها في الواقع – حتى الآن على الأقل – فلم تنشأ لها دول ولا حضارات. وظلت الإنتاجات الماديَّة في أوساط البهائيين والصابئة والدروز من إفرازات الحضارة السائدة التي يعيشون في ظلالها.
ولا يمكننا أيضا الحديث عن “حضارة صهيونيَّة” بل ولا “حضارة يابانيَّة” أو “حضارة صينيَّة” في الوقت الحاضر، لأنَّ هذه الأفكار – وإن استقرت لها دول – لم تتميز إنتاجاتها الماديَّة بأيّ خصوصيّات حضاريَّة.. بل كلاهما كان نقلاً للحضارة الغربيَّة المعاصرة، ومساحة من مساحات التأثر بها.
وحديث السطور القادمة لا عن الحضارة ولا عن فلسفتها، بل عن نقطة حرجة في مسيرتها؛ تلك هي الخلاف حول طريق بداية النهضة: هل يبدأ من التفوق الحضاري الذي يفرز تفوقًا سياسيًّا (ويدخل في السياسي التفوق العسكري والاقتصادي)، أم أن التفوق السياسي هو الذي يلد تفوقًا حضاريًّا؟
إنَّ ميدان التنظير فسيح بل شاسع، وقرائح العقول تأتي فيه بكل جديد، وكلما تخيلنا أنَّ الشعراء ما غادروا من متردّمٍ إلا ورأينا أودية جديدة يبتكرها الشعراء فيخوضونها فيصدقون قول الله عز وجل على مر الزمان (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون).. إلا أنَّ قرائح العقول تأتي بما لا يكون وبما لا يكون، تأتي بالتطوير الواقعي كما تأتي بالأحلام والخيالات والأوهام.. وهم بهذا يصدقون قول الله عز وجل (وأنهم يقولون ما لا يفعلون)، ذلك أنهم – وكما يقول سيد قطب – “يعيشون في عوالم من صنع خيالهم ومشاعرهم، يؤثرونها على واقع الحياة الذي لا يعجبهم!… والإسلام يحب للناس أن يواجهوا حقائق الواقع ولا يهربوا منها إلى الخيال المهوّم”.
ولهذا فأحسب أنّه لكي نستطيع الحصول على إجابة “واقعيَّة” لهذا السؤال فلابد لنا من أن نبحث عنها في كتب التاريخ.
***
لما أقبلت الجيوش الصليبية إلى الشرق استطاعت بتفوقها العسكري أن تثبت نفسها، رغم أنها قادمة من ظلمات أوروبا في العصور الوسطى إلى الشرق الذي كان في تألقه الحضاري في هذه الفترة.. وحدث ما هو متوقع؛ إذ وقع الصليبيون في “الأَسْر الحضاري” للشرق فارتفعوا وتمدَّنوا وتعلَّموا وترجموا، حتى لقد شكا الصليبيون القادمون من أوروبا من ترفع واستكبار إخوانهم صليبيي المشرق عليهم بما هم فيه من ترقي ومدنية.
لكنهم وإنْ وقعوا في الأسر الحضاري فإنَّهم لم يتحولوا إلى مسلمين، ولم تنشأ في الممالك الصليبيَّة دول إسلاميَّة، ولم ينتج التفوق الحضاري الإسلامي تفوقًا سياسيًّا إسلاميًّا.
بل إنَّهم لم يندحروا من الشرق إلا حين أنتجت الحضارة الإسلامية “تفوقًا عسكريًّا”، وحين خرج إلى مراتب القيادة عسكريون وأتابكية.. عماد الدين زنكي ثم نور الدين ثم صلاح الدين ثم البيت الأيوبي ثم المماليك.. سلسلة من القيادات العسكريَّة تولت جهاد الصليبيين، وبالتفوق العسكري – لا الحضاري – خرج الصليبيون من الشام.
***
نفس الحال حدث من قبل مع النورمان الذين استطاعوا إخراج المسلمين من صقلّية بعد مائتي عام من الحضارة فيها، وقعوا بدورهم في “الأَسْر الحضاري” الإسلامي، وصار بلاط صقلية حتى بعد انتهاء دولة الإسلام بلاطا عربيًّا إسلاميًّا، وتسمى الملوك النورمان بالألقاب الإسلاميَّة فحمل روجر الثاني لقب “المعتز بالله”، وحمل وليام الأول لقب “الهادي بأمر الله”، وحمل وليام الثاني لقب “المستعز بالله”، ولبسوا العباءات الإسلامية المزخرفة بالآيات القرآنية، وظلت دواوين النورمان وأنظمة مملكتهم تدار على الطريقة الإسلاميَّة.
لكن هذا لم يمنعهم من إبادة المسلمين فيما بعد على يد واحد من أكثر الملوك إعجابًا وانبهارًا بالحضارة الإسلاميَّة (فريدريك الثاني)، ولم يمنعهم من تسيير حملة صليبيَّة (هي الحملة السادسة) إلى بيت المقدس، ولم يمنعهم من احتلال شواطئ تونس وانتزاع الأراضي من دولة الأغالبة التي كانت تحكم الشمال الإفريقي في ذلك الوقت.
ومن ثم يجب أن ننتبه إلى أنَّ التفوّق الحضاري الإسلامي لم يلِد تفوقًا سياسيًّا، ولم يُعِدْ دولة الإسلام إلى صقلية، بل استفاد النورمان من وراثة الحضارة الإسلامية ثم بدأوا في صناعة حضارة لهم.
***
نفس الكلام يمكن أن نقوله عن الإسبان الذين أخرجوا المسلمين من الأندلس، فلقد ورثوا تفوقا حضاريًّا نفيسًا، ملايين المخطوطات في كل المناحي العلميَّة، وما زالت نفائس الأندلس إلى الآن لم تخرج كلها من عالم المخطوط إلى عالم المطبوع، وما زلنا لا نعرف على وجه الدقة مقدار ما بلغت الحضارة الإسلاميَّة الأندلسيَّة من آفاق.
ولو بدأنا الحساب منذ تاريخ سقوط طليطلة (عام 478 هـ)، وحتى سقوط غرناطة (897 هـ)، فنحن أمام أربعمائة عام من التفوق الحضاري الإسلامي الكاسح، بل المتزايد، ومع هذا فإن هذا التفوق الحضاري لم يُعِدْ حاضرة أو مدينة إلى دولة الإسلام بعد سقوطها فضلاً عن أن يعيد الأندلس كلها.
إنَّ الحقيقة التي ربما تصدم البعض هي أنَّ الإسبان ورثوا الحضارة الإسلاميَّة، وتأثروا بها، ولكنهم بدأوا بعد زمن التأثر من صناعة حضارتهم هم.
***
ونفس الكلام يقال أيضًا عن الحالة العثمانيَّة، فلقد بلغت الدولة العثمانيَّة من التفوّق الحضاري ما جعلها المثال والنموذج الذي يتطلع إليه الإصلاحيون في أوروبا، بل لقد كان المضطهدون في أوروبا – واليهود – لا يجدون مأمنًا لهم إلا في ظلال الدولة العثمانيَّة، ولا مقارنة على الإطلاق بين ما بلغه العثمانيون من حضارة وبين شرق أوروبا الذي كان في ظلال العثمانين في أوقات مجدهم.
وحين دخل العثمانيون في طور الضعف والتراجع، وتساقطت شرق أوروبا من بين أيديهم، لم ينفعهم تفوّقهم الحضاري في أن يُرْجع إليهم ما فقدوه بضعفهم السياسي والعسكري.. بل لقد ورثت أوروبا الأنظمة والمؤسسات العثمانية واستفادت بها على طريق نهضتها وصناعة مسيرتها الحضارية.
***
كان الأنسب – في تقديري – أنْ تكون الأمثلة المذكورة من التاريخ الإسلامي، ذلك أنَّ الخطاب متوجه إلى مسلمين في المقام الأول، وإلى أصحاب نهضة تستمد نفسها من المنهج الإسلامي والتاريخ الإسلامي وتصل نفسها بجذورها في هذا التاريخ.
إلا أنَّ الأمثلة من غير التاريخ الإسلامي لا تطرح غير نفس الإجابة، فالرومان الذين قهروا اليونان عسكريًّا وتفوقوا عليها سياسيًّا أُسِروا بحضارة اليونان، إلا أنَّ هذا الأسر لم يبعث الحضارة اليونانيَّة بل استفاد منها في صناعة الحضارة الرومانيَّة، وإنَّ القوط الذين قهروا الرومان عسكريًّا وأسَرَتهم الحضارة الرومانية لم يعيدوا الدولة الرومانيَّة بل أنشأوا دولة القوط وحضارتهم.
وفي التاريخ الحديث استطاعت فرنسا ثم بريطانيا ثم روسيا بقوّتهم العسكرية تأجيل انهيارهم الحضاري وخروجهم من المسرح العالمي سنين طويلة. بينما لم تستطع لا اليابان ولا ألمانيا دخول هذا المسرح بعد تجريدهم من القوة العسكرية.
وأمريكا تعيد الآن نفس المشهد، فهي رغم كل ما تعانيه من تراجعات اقتصادية وحضارية، تُمسك التاريخ وتؤجل انهيارها بقوتها العسكرية التي تستخدمها في إعادة تمويل نفسها إن لم يكن باستخدام “سمعة” الدولار للمضاربة عليه في البورصة وأخذ مزيد من فرص القروض، فبإشعال الحروب والاستيلاء على عقود الإعمار وعائدات النفط وأموال الدول الحليفة!
***
إنَّ الدولة المركزيَّة معضلة حقيقية، وهي في عالمنا العربي والإسلامي معضلة كبرى وعقبة كؤود، ذلك أنَّ الأنظمة العربيَّة لها مسار هو ضد مسار الأمة الحضاري على طول الخط، فالأنظمة العربية ترسخ التخلف والفساد والاستبداد، ولا تسمح لطاقات الأمة أن تعيد بناء الحضارة، هي ظاهرة يمكن أن نسميها “الحبس الحضاري” وفيها لم يسمح النظام العربي للطاقة الحضاريَّة للأمة المسلمة بالفعل، ولا حتى بالوجود في كثير من الأحيان.
كان يكفي للنظام أن يرى شعبية أحدهم تزداد حتى يتوجس منه خيفة أو يعلن عليه الحرب، مهما كانت أعماله تصب في سياق النهوض الحضاري للبلد.. إنَّ نموذج عمرو خالد في مصر نموذج مثالي على الطاقة الحضارية التي لا يُسمح لها بالفعل.
***
والخلاصة أنَّه:
لا ينبغي لمن يسعى في سبيل النهضة أن ينسى ضرورة التفوق السياسي والعسكري معتمدًا على تفوّق مشروعه الحضاري فحسب، ولا متوهمًا أن التفوق الحضاري يلد تفوقًا سياسيًّا وعسكريًّا..
فليراجع كل ذي مشروع مشروعه، فإنَّها نهضة سعيدة أو نكبة أخرى جديدة.
نشر في: يقظة فكر
se
ردحذفالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ماشاء الله تبارك الله اسلوب سلس مميز و قراءة تحليلية نادرة هذا ما يميز كل مقالاتك واكثر من هذا ، لي عودة ان شاء الله بعد الامتحانات
ردحذفشكر الله لك يا أخت أسماء.. وبانتظار المزيد.
ردحذفجزاك الله خيرا
ردحذفأحبكم في الله أستاذ محمد أستفيد من كتاباتكم وبرامجكم أسأل الله العظيم أن يسكنك الفردوس الأعلى من الجنة
ردحذفتحليل راؤع كالعادة ارجو أن يبعث فينا روح العمل والعزيمة
ردحذفبارك الله فيكم و نفع بكم البلاد و العباد ورفع قدركم في الدنيا والآخرة
ردحذفجاذكم الله خيرا على ما تقدمه لنا من فكر صائب أن. شاء الله وموفق جاذكم الله خيرا ونفع بكم البلاد والعباد والي مجد أمه اسلاميه إن شاء الله
ردحذفكامل المقالة ممتاز الا فقرة(عمرو خالد) والتي تظهر للأسف عدم إلمام حضرتك بهذه الشخصية
ردحذفالمقال جميل
ردحذفلماذا عمرو !
ممكنتوضيح عن عمرو خالد ؟
ممكن توضيح فقرة عمرو خالد
ردحذف