لماذا
اختارَ النبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - تحديدًا خُلُقَ “الحياء” ليذكره من بين
شُعَبِ الإيمان جميعًا؟ فلا هو أعلاها فنتوقَّع أن الغايَة هي أن ترتفع أبصار المسلمين
وهممهم إلى هذه الذروة الإيمانية، ولا هو أدناها فنتوقَّع أن الغايَة التحذير من ترْك
الحدِّ الإيماني الأدنى، إنَّه شيء بين هذَيْن الحدَّيْن، ثم هو شيء لا نعرف إلى أيِّهما
أقرب.
عن أبي
هريرة - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: “الإيمان
بِضْعٌ وسِتُّون شعبةً، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطَة الأذى عن الطريق،
والحياء شعبةٌ من الإيمان”[1].
ولو
كان - صلَّى الله عليْه وسلَّم - تَوَقَّف عند قوله: “وأدناها إماطَة الأذى عن الطريق”،
لكان المعنى مُكتمِلاً ليس بحاجَةٍ إلى مَزِيد، أمَّا وأنه لم يتوقَّف بل زاد إلى ذلك:
“والحياء شُعبةٌ من الإيمان”، فلا ريب أن ذلك قد كان بحكمة، حكمة رجل “لا ينطق عن الهوى”.
فتلك
مُحاوَلة لاستِيضاح طرفٍ من هذه الحكمة.
***
أعلى
الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، بها ينطِق المرء، فيُعلِن
للناس أنه صار مسلمًا، وبها الناس يعرفون أنه أمسى في عِداد المؤمنين، شهادة استَطاعَتْ
وتستطيع فعْل الأعاجيب؛ لأنها رُوح تستطيع فعْل الأعاجِيب، نقلت الناس من الظلمات إلى
النور، ونقلتْ رُعَاة الغنم إلى سِيادة الأُمَم، وبها صار المرء يأكل في مِعًى واحد
بعد أن كان يأكل في سبعة أمعاء، وبها نزل مصعبٌ عن جواد العِزِّ ومِشيَة التِّيهِ وبهرَجَة
الفتى الغنيِّ إلى ثوب قصير تلطَّخ بالدماء، لم يكفِه أن يكون له كفنًا، ذلك أثر لا
تُخطِئه العيون.
وإماطة
الأذى عن الطريق أدنى شُعَبِ الإيمان، ولا ندري منهجًا غير منهج الإسلام، أو فلسفة
أو طريقة أرادت أن تُصلِح الدنيا وتُغَيِّر عقائد الناس وأديانهم وأنظِمَة حياتهم،
ثم هي انتبَهَتْ في خِضَمِّ هذه المَعارِك الكبرى إلى تفاصيل دقيقة تصل إلى “إماطة
الأذى عن الطريق”، ذلك الانتِباه للتفاصيل بحدِّ ذاتِه أمرٌ مُعجِز، ودليلٌ على تفوُّق
المنهج الإلهي على مناهج البشر، ثم يأتي كونه شعبة من شُعَبِ الإيمان دليل آخر، فأيُّ
إيمانٍ - في حسابات البشر - ذلك الذي يتقوَّى أو يَضعُف أو يَنقُص أو يَكتَمِل بأمرٍ
كإماطة الأذى عن الطريق؟!
لكن
الحياء شيءٌ آخر، شيء يحدث وراء العيون، ويستقرُّ في داخل النفوس.
أعلى
الإيمان شهادة التوحيد، أمر مُعلَن ظاهر، وتأثير قويٌّ ملموس، كما أن أدنى الإيمان
إماطة الأذى عن الطريق، وهو أمر ظاهر كذلك، فهل كان النبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم
- يُرِيد أن يقول: إن الإيمان ليس ما هو ظاهرٌ فحسب، وإنما هو شامِلٌ ما اختَفَى واستتر؛
فلذلك قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: “والحياء شعبة من الإيمان”؟
لعلَّ
السرَّ كامِنٌ هنا، ولو أنه تَوَقَّف - صلَّى الله عليْه وسلَّم - دون أن يذكر الحياء،
لكان قد استقرَّ في عقول الناس أن الإيمان إجراءات وسلوكيات وأفعال ملموسة فحسب، هو
ظاهر ملموس من أعلاه “شهادة التوحيد” إلى أدناه “إماطة الأذى”، فلمَّا عرفنا أن الحياء
الذي هو طبع وخُلُق شعبة من شُعَبِ الإيمان، عرفنا بذلك أن الإيمان رُوح داخل النفوس
مع كونه مظْهَرًا على الجوارح.
وعرفنا
بذلك أن كلَّ ما هو معنوي هو أمر داخِلٌ في باب الإيمان، فالرحمة والحلم والصبر والنزاهة
كلها واحات في ساحة الإيمان الفَسِيحة،
ثم عرفنا
- بذلك - أن الخُلُق من الإيمان ولو لم يدلَّ عليه العمل، فالفقير الذي يَنضَوِي على
كرمٍ ثم لا يجد بيده ما يُحَقِّق هذا الكرم واقِعًا هو رجل مؤمن، والغَضُوب لحرمات
الله ولا يملك المنْعَ مؤمن، والشُّجاع الذي لا يملك جهاد العدو مؤمن، والصَّبُور في
وقت الرَّاحَة واليُسْرِ مؤمن، ذلك أن وجود الخُلُق والتحلِّي به إيمان.
فالإيمان
ليس مادَّة فحسب، بل هو رُوح، ليس سلوكًا ظاهريًّا، بل هو مع ذلك خُلُق معنوي.
***
لكن
هذا لا يكفي وحدَه في تفسير ذكْر الحياء على وجه الخصوص، ولو كان الأمر هو - فحسب
- تذكيرَ الناس بأن شُعَبَ الإيمان تشمل ما هو معنوي، لكان كلُّ خُلُق معنوي داخِلاً
في هذه الدائرة، فلِمَ اختار النبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - الحياء تحديدًا من
بين الرحمة والصدق والصبر والحلم والكرم وغيرها؟ لِمَ الحياء على وجه الخصوص؟
ربما
- والله ورسوله أعلم - لأن الحياء هو أخفى هذه الأخلاق جميعًا، فهو أخفى الخفاء.
إن الرحمة
الكامِنَة في الصدور تتبدَّى حين يستخرِجُها موقف رحمة، وإن الشجاعة تَنطَلِق حين يدعوها
النَّفِير، وإن الكرم يَسِيل إذ يأتيه المال، وإن الصبر يَستعلِن حين تستفزُّه الحَماقَة،
لكنَّ الحياء يظلُّ عميقًا في أغوار النفس فلا يُعرَف ولا يُكشَف.
قد يقدر
المرءُ أن يأخذ - وهو في أشدِّ الحاجة - فلا يمنعه إلا الحياء، ثم قد يُقال: إنه الكرم
أو الاستِغناء، كما قال ربنا - تبارك وتعالى -: ﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ
مِنَ التَّعَفُّفِ ﴾ [البقرة: 273]؛ ولذا لا يُعرَفون إلا بأخلاقهم وصِفاتهم، ولا يعرفهم
إلا ذوو الألباب[2]، ﴿ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا
﴾ [البقرة: 273].
ولقد
شَكَر عبدالرحمن بن عوف - رضِي الله عنه - وهو المُهاجِر المُعذَّب الذي وصل إلى المدينة
لا يملك شيئًا، لأخيه سعد بن الرَّبِيع الأنصاري - رضِي الله عنه - الغني صاحب المال
والزوجتين، ولم يَرْضَ بعرضٍ منه باقتِسام الأموال والتنازُل عن زوجة، وقال: “بارَكَ
الله لك في أهلك ومالك، دُلَّني على السوق”[3]، ونحن لا نعرف حتى الآن - على وجه التحديد
- إن كان ذلك نبَعَ من الحياء، أم هو وثوق بالنفس وقدرتها على استجلاب المال، لا نعرف
ذلك يقينًا؛ لأن الحياء أخفى الخفاء.
وقد
يملك المرء أن يقول فلا يمنعه إلا الحياء؛ كما حدث لعبدالله بن عمر - رضِي الله عنهما
- قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: “إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها،
وإنها مثل المسلم، فحَدِّثوني ما هي؟”، فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبدالله: ووقع
في نفسي أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: “هي النخلة”[4].
لقد
استحيا عبدالله لأنه كان غلامًا شابًّا في مجلسٍ به كبار الصحابة، ومنهم أبوه عمر
- رضِي الله عنه - فسكت، ولو أنَّه لم يخبرنا بهذه الواقعة بنفسه لَمَا جالَ بالعقول
أن ثَمَّة واحدًا في المجلس كان يعرف وسكت، بل لظننَّا بهم جميعًا الجهل بالمسألة.
ومثل
هذا وقع لعبدالله بن عباس - رضِي الله عنهما - الذي روى فيقول: كان عمر يُدخِلني مع
أشياخ بدرٍ، فقال بعضهم: لِمَ تُدخِل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممَّن
قد علمتم، قال: فدعاهم ذات يومٍ ودعاني معهم، قال: وما رأيته دعاني يومئذٍ إلا ليريهم
مِنِّي، فقال: ما تقولون في ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ
يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا… ﴾ [النصر: 1- 2]، حتى ختم السورة؟ فقال
بعضهم: أمَرَنَا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصَرَنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري،
أو لم يقل بعضهم شيئًا، فقال لي: يا ابن عباس، أكذلك قولك؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟
قلت: هو أجل رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أعلَمَه الله له ﴿ إِذَا جَاءَ
نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ [النصر: 1- 2] فتح مكة فذاك علامة أجلك، ﴿ فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾[النصر: 3]، قال عمر: ما
أعلم منها إلا ما تعلم[5].
وفي
هذه الواقعة نرى ابن عباس ساكِتًا لم يتكلَّم إلا حينما سُئِل على وجه التعيين، ولو
لم تكتمل الصورة بسؤال عمر لما جال في الخاطر أنه الحياء؛ بل لظننَّا أيضًا أنه الجهل
بالمسألة.
وقد
يملك المرء أن يفعل ما هو حقٌّ له، بل ما هو في حاجة إليه ولا يمنعه إلا الحياء، وهذه
أمثلتها من الماضي والحاضر كثيرة، وأطرف ما يَرِدُ فيها ما يُروَى عن أبي حنيفة - رضِي
الله عنه - أن رجلاً علَيْه سِمَات أهل العلم والصلاح جلَسَ بوَقارٍ إلى حلقة أبي حنيفة
وهو بين تلاميذه يُناقِشهم في بعض المسائل، وكان يمدُّ رجله مُتعَبًا في جلسته، فجمَعَها
إليه حين جلس الرجل بينهم، ثم إذ به يسأل سؤالاً ساذجًا أخبر عن مبلغه من العلم والفهم،
فضَحِك أبو حنيفة وقال: آنَ لأبي حنيفة أن يَمُدَّ رجله.
وكل
هذا لأن الحياء أخفى الخفاء.
وهل
نجد دليلاً على أخفى الخفاء من فعل عثمان - رضِي الله عنه - يُروَى في هذا أن حياءَه
بلغ به أن يَغْتَسِل جالِسًا لئلاَّ تنكشِف عورته وهو في داخل بيته، ولقد رفَعَ الله
مقام عثمان لحيائه؛ فكان يستحيي منه رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وأخبر
- صلَّى الله عليْه وسلَّم - أن الملائكة تستحيي منه[6].
***
يستطيع
الحياء أن يُغَيِّر حياة الناس وطبائِعَهم، ولا يكاد المرء يَتخيَّل صورةً لذي الحياء
حتى يرى فيه صورة التهذُّب، ورِقَّة الحاشية، ودَماثَة الخلق، وحسْن الكلام، ولِينَ
الجانب، وخفْض الجناح، وسَلاسَة الطبْع، هي صورة في الغايَة من الإنسانية الصافِيَة
الرائِقة، وهل يَحتاج زماننا هذا إلى غير هذه الصورة.
ومن
أسفٍ أن أقول: إن غير المسلمين “اكتشفوا” حاجة الإنسان إلى هذه “الصورة” فما كان منهم
إلا أن “صنَعُوها”، فالرقَّة والتهذُّب في المعامَلات المالية والتجارية أمر ظاهر في
حياة الغربيِّين، وهو أظهر من هذا عند اليابانيِّين الذين وصَفَهُم المؤرِّخ الأمريكي
الكبير ول ديورانت بأنهم بلغوا “حد التوحُّش”، فآداب السلوك قد تبلغ من رقَّتها حدًّا
يُلَطِّف من حِدَّة العداوة مهما بلغَتْ من استيلائها على النفوس[7].
وما
هذا إلا لأن هذه “الصورة” قريبة إلى النفوس، فهي أسهل وأفضل في إنجاز المعاملات واستِجلاب
الأموال والاحتِفاظ بالزبائن.
هذا
برغم أن الطرفين كليهما يعرِفان أنها “صورة مصنوعة”، لا تُعَبِّر عن حقيقة حبٍّ أو
مودَّة، بل إن هذا التاجر الخلوق اللطيف هو ذاته المُرابِي المتوحِّش أو المُحتَكِر
الحَرِيص في مشهد آخر ومع أناس آخرين، غير أن “الصورة” تظلُّ محبوبة ومرغوبة.
فكيف
ولدينا دِيننا الذي لا “يصنع صورة” على سطح الجلد، بل يغرس إيمانًا في أعماق القلب،
ثم من بعدِها تُشرِق آثاره من الباطن إلى الظاهر، ومن أعماق الأعماق إلى مَلامِح الوجوه،
وهو إيمانٌ لا يرضى بصناعة الصورة؛ فإن الله - عزَّ وجلَّ - ((لا ينظر إلى صُوَرِكم
وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))[8]، كما قال رسول الله - صلَّى الله عليْه
وسلَّم.
ولأن
الأمر ليس “صناعة صورة” لم يكن النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - دبلوماسيًّا بالمعنى
الذي يَستَدعِيه هذا اللفظ الآن، بل كان رجلاً حَيِيًّا، بل كان - صلَّى الله عليْه
وسلَّم، وهو القدوة - أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها[9]، وبهذا نشَأَتْ دولة الإيمان.
كيف
لا نكون بمثْل هذه الرقَّة والتهذُّب، والحياء شعبة من شُعَبِ الإيمان؟! ذلك الإيمان
الذي به عن جميع الناس تَمَيَّزْنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]
رواه مسلم (35).
[2]
ابن كثير: “تفسير القرآن العظيم”؛ تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع،
الطبعة الثانية 1420هـ - 1999 م، 1/ 705.
[3]
البخاري (3722)
[4]
البخاري (61)، مسلم (2811).
[5]
البخاري (4043).
[6]
مسلم (2401).
[7]
ول ديورانت: “قصة الحضارة”، ترجمة د. زكي نجيب محمود، دار الجيل، بيروت، لبنان،
1419 هـ = 1998م. 5/179.
[8]
مسلم (2564).
[9]
البخاري (3369)، ومسلم (2320)
نشر
في الألوكة
بارك الله فيك والله انا نجد هذاالمقال مرسوم على محياك
ردحذف