تلك السطور القادمة تبحث بإيجاز في أبعاد "المؤامرة"
التي يَرْسِمُها الغربيُّون المنصفون، وهي تُحاول أن تُحلل بموضوعيَّة حجم هذه
"المؤامرة"، وننطلقُ فيها من أنَّ الأمة وإن تخلفت سياسيًّا وعلميًّا فهي
ناضجة فكريًّا، ونضوجها الفكري هذا يَحملها على أن تستوعب الأخطاءَ بنظرة عاقلة ونفس
هادئة؛ فلا ترى في كل خطأ "افتراءً"، ولا في كل مُخطئ "متآمرًا".
نظرة لتاريخ العداوة والإنصاف
يصعب عادة أن تجد تاريخًا محددًا لبداية الأفكار، ومِن ثَمَّ
اختلف الباحثون في تحديد بداية العداوة والإنصاف، ولكنَّ المجال الأكاديمي عرف ظاهرة
"الاستشراق"، وهي العناية بدراسة الشرق، فإنْ كان لا يُجزِئُنا تحديدٌ دقيق
للبداية، فيُجْزِئُنا أنْ نقول: إن البداية كانت منذ الاحتكاك الإسلامي بالغرب، وخاصَّة
منذ الأندلس، ثُم الحروب الصليبية، ولكن يبدأ الاستشراقُ الذي ترعاه الدَّولة منذ
1312م، واستمر ينمو في ظلِّ السياسة الغربيَّة، وكانت البداية زاخرة بالمُخرِّفين الذين
يسيطرُ على إنتاجهم السبُّ والشتم والصياح؛ لتنفير الناس من الإسلام، أو لدفعهم نحو
"الحرب المُقدَّسة"، وانتهى الآن إلى مُستشرقين مُحترفين وعلماءَ حقيقيِّين
في شؤون الشرق وثقافاته وعلومه؛ منهم المنصفون وأكثرهم المتعصبون[1].
ويُمكن عَزْو هذا التطوُّر في "الاستشراق" إلى
ثلاثة عوامل رئيسة:
1- التطور الطبيعي للعلوم
تبدأ صغيرةً وليدة
ضعيفة، ثم تزداد مع السنين تفرعًا وتشعبًا وتوسُّعًا ودقة وإحاطة، وإذا كان الاستشراق
أداةً من أدوات المُواجهة مع الشَّرق، ثُمَّ للاستعمار، فإنَّ دقَّة وقوة ما يطرحه
من شُبهات حول الإسلام والقرآن والنَّبي في العُصور المتأخرة، لا يكاد يُقارَن بمضحكات
الأفكار والشُّبهات في العصور المتقدِّمة.
2- الانتصار الغربي في المواجهة أخيرًا
تلك التي تبدأ حقيقةً مُنذ سقوط الأندلس، ثم دخول البلاد
الإسلاميَّة في عصر الاستعمار، إنَّ دراسة العدو من موقع المنتصر المسيطر ليست كدراسته
من موقع المهزوم الذي يخشى الفناء والذَّوَبان، الأوَّل ما عليه من بأس ولا عنده خشية
من أنْ يعرفَ "حقيقة" العدو، أمَّا الثاني فلا هَمَّ له إلا أن يُثير كراهة
العدُوِّ ما وسعه هذا، وبأي طريق، وإن كان باطلاً محضًا لا حق فيه.
3- العقل والضمير
وهما من فِطْرة الله في البشر، فالإنسانُ طالب علم دائمًا،
حبب الله إليه المعرفة، وهو لا يقنع بما عرف أبدًا؛ بل لا يزال يطلب المزيد، ومَيْدان
المعرفة ثريٌّ خصيب، فما بالك بميدان معرفة الإسلام؟! ثم ما بالك وهذا الميدان هو في
ذات الوقت ميدان مواجهة وصراع؟! فقد كان لا بُدَّ - لطبيعة الإنسان نفسه - أنْ تتطور
المعرفة عن الإسلام والشرق.
الغربيون المنصفون، إشكاليات
ستبرز صعوبة الحديث عن المستشرقين المنصفين من صُعُوبة تحديدهم
وتعريفهم، وكما هو معروف فالعلومُ الإنسانيَّة ليست كالعلوم الطبيعيَّة في مسألة التصنيف
والتقسيم؛ كالاختلاف بين الإنسان والمادة.
ولا أبتغي أن ندخلَ في غموض حين نطرح عددًا كبيرًا من الأسئلة،
ولكن رُبَّما استطاعت الإجابات التقريبية أن تفيد تعريفًا تقريبيًّا كذلك؛ فنحن إذا
آمنا بالله عرفنا أنَّ البشر ليسوا سواء، ولا الأعداء سواء، والمستشرقون وإن كانوا
في مُجملهم أداة للغرب فإنَّهم بشر، وإنهم ليسوا سواء.
وسنكون قد ظلمنا أنفسنا، والحقيقة لو حددنا المنصفين بأنَّهم
مَن اعتنقوا الإسلام فقط، فإنَّ الإسلام اتِّباع، وهو انحياز، وهذا فوق الإنصاف.
ويكاد يكون وَضْعُ حدٍّ للتفريق بين المنصفين والمتآمرين
مُستحيلاً، فهل سيكون الحدُّ هو الكلامَ بالخير عن الإسلام والقرآن والنَّبي، أو مُجرد
نَفْي التُّهم الباطلة عن الإسلام والقرآن والنبي؟ هل هو التقييم الموضوعي المعتمد
على الأسلوب العلمي؟ ولكنَّ الجميعَ يعرف أنَّ المناهج العلميَّة قد تختلف، ثم إنَّ
المسلَّمات التي ينطلق منها الباحثون تختلف، ثم إنَّ احتمال الخطأ وارد لطبيعة البشر؛
فمتى نقول: إنه تعمَّد الغش والتدليس لغرض في نفسه، أو نقول: إنه أخطأ عن غير قصد؟
وهل الأجدى لنا أن نحذر، فنفترض الشكَّ في طليعة الاستعمار
وأداته الثَّقافيَّة، أو نتلقف كلام القائل بعناية، ونفترض حُسْنَ الظن، ونحمل الكلام
على وجهٍ حسن إنْ غلب عليه هذا، ونُحيل الخطأ إلى الجهل، أو القصور البشري، أو الثَّقافات
والمناهج المغايرة التي نشأ عليها؟
ما الأخطاءُ التي لا نغفرها، ونَحْمِل مَن قال بها على الغرض
وسوء النيَّة؟ وما الأخطاء التي قد نتسامح فيها، ونرجح أنَّه قد يكون غلبه ضعفه وخطؤه،
وعازه التحقيق؟
كما قلت، لا أبتغي الغُمُوض من طرح مزيد أسئلة، خاصَّة أنَّ
كل هذا الكلام سيُختَلَف فيه، ولكل طرف من أطرافه وجهة نظر مقبولة ومحترمة، ولها منطلقاتها
ودوافعها.
ونحن هنا بالطبع نختلف حول المستشرقين الذين يظهر من كتاباتِهم
وأبحاثهم إنصافُ الإسلام، أمَّا من كان مُنَصِّرًا كصموئيل زويمر ولوي ماسينيون، أو
صريحًا في عداوته كمرجليوث ونيكلسون، فهذا قد كفانا الخلاف، وانتهى عندنا أمره.
إشكاليات تفسير الأخطاء
إذا حاولنا تتبُّع الأخطاء والسَّقطات التي وقع فيها المستشرقون
المنصفون، أو من تبعهم من الباحثين والأكاديميِّين في الغرب، فلربَّما ينبغي علينا
أن نستبعدَ أسبابًا ونستقرب - لو صح التعبير - أسبابًا أخرى.
استبعاد المؤامرة
إنَّ صدور كتب المستشرقين باللغات الغربيَّة ابتداء، وعدم
قيام الدَّوائر الغربيَّة بمجهود يذكر في أمر ترجمة هذه المُؤلفات إلى اللغات الإسلاميَّة
- يحملنا على استبعاد تهمة المؤامرة على المسلمين ونيَّة التغرير بهم، وتشويه الإسلام
في نظرهم، والذي يُؤيد لنا هذا أنَّه منذ تطور الاستشراق نحو أن يكون بحثًا علميًّا
جادًّا كان العالَم الإسلامي وحتَّى الآن في عصر الاستعمار، ثم في عصر الهيمنة الغربيَّة
حتى الآن، فما كان شيء ليضطر أحدهم أن يُراوغ ويناور ويخادع؛ لكي يتقرب من المسلمين،
ثم "يَدُسُّ لهم السُّمَّ في العسل"، فالمستهدف من جُلِّ كتابات المستشرقين،
ومن كل كتابات المنصفين - تقريبًا - هم الشُّعوب الغربية ابتداء، وانتهاء كذلك.
وما يُؤكد هذا لدينا أن كثيرًا منهم – أعني: هؤلاء المنصفين
- نرى من كتاباته وسيرته ما ينسف فكرةَ أنَّه "يدس السُّمَّ في العسل"، أو
فَعَلَ هذا ليروج بكلامه بين المُسلمين مخادعًا منطويًا على غرض.
فإنَّ بعضهم قد أشهر إسلامَه بالفعل؛ مثل: كليوبولد فايس
"محمد أسد"، وأتيين دينيه "ناصر الدين"، وموريس بوكاي "الذي
فضَّل ألا يغير اسمه؛ لأنَّ الغرب لا يتقبل كلامًا ممن اسمه محمد، أو مصطفى، أو عبدالهادي"[2].
وبعضهم ترجح الكثير من القرائن والمعلومات أنَّه أسلم دون
أن يُعلن هذا: كأنا ماري شيمل[3]،
وليو تولستوي[4].
وغالبيَّتهم كانوا يُقدِّمون كُتُبهم التي تنصف الإسلامَ
ونبيه وحضارته بما يشبه التَّمهيدات، التي تُحاول أن تراوغ العقل الغربي، وتقنعه بأنَّ
الإسلام ليس سيِّئًا كما يتصور، مثل مونتجمري وات الذي قال: "أدركَ الناسُ منذ
زمن أنَّ الكُتَّاب المسيحيين في العصر الوسيط خلقوا صورةً للإسلام، هي صورة شائهة
من وجوه عديدة، غَيْرَ أنَّ جهودَ الباحثين خلال القرن الأخير قد مهَّدت السبيل؛ من
أجلِ تكوين صورة أكثر موضوعيَّة له في عقول الغربيِّين، ومع ذلك فإننا - معشر الأوربيِّين
- نأبى في عناد أن نقرَّ بفضل الإسلام الحضاري علينا"[5].
وكذلك بودلي الذي قال: "وإنَّه لمن الغريب أنْ نلاحظ،
دون أسباب ثابتة وطيدة، أن هناك سوءَ فَهْم عام لمحمد، أكثر من أيِّ مُؤسس آخر من مؤسسي
الديانات العظيمة"[6].
ومايكل هارت الذي اختار محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم
- ليكون أعظم عظماء التاريخ في كتابه، فقدَّم دفاعًا سابقًا عن اختياره، وقال:
"لقد اخترت محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أول القائمة، ولا بُدَّ أن يندهش
كثيرون لهذا الاختيار، ولكن محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو الإنسان الوحيدُ
في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدُّنيوي"[7].
ومنهم مَن تَحايل في أعماله الأدبيَّة والفنيَّة، واستعملَ
الرَّمْز والمعنى والإيحاء كبرنارد شو[8].
ومنهم من اضْطُهِدَ وأُوذِيَ، وعاش بائسًا؛ لأنَّه لَمْ يُوافق
اللاهوتيِّين على آرائهم بشأن الإسلام ومحمد؛ مثل: جوهان رايسكه[9].
وأخيرًا:
فمنهم من اعترف بقصوره وخطئه، مثل: آربري الذي قال للدكتور
مصطفى السباعي: "إنَّنا - نحن المستشرقين - نقعُ في أخطاء كثيرة في بُحُوثنا عن
الإسلام، ومن الواجب ألاَّ نخوضَ في هذا الميدان؛ لأنَّكم - أنتم المسلمين - العرب
أقدرُ مِنَّا على الخوض في هذه الأبحاث"[10].
إذًا؛ فالبيئة الغربيَّة والمزاج الغربي، هو إلى الآن - تقريبًا
- لا يكاد يقبل ثناءً على الإسلام، ومدحًا لنبيه محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - مما
اضطر كل منصف إلى ما استطاع من "تحايل"؛ لكي يوصِّل فكرته، وقد كان أسهل
له وأيسر وأمكن لو مشى في التيَّار، ومن كان هذا حاله، ثُمَّ وجدنا عنده ما لا نقبله
من آراء، أو ما يُصادمنا من أفكار، فلا يُقبل مِنَّا توقُّعُ أنَّه يتآمر أو يُخادع
أو يتظاهر؛ "ليدس السُّمَّ في العسل"، وما هذا برأي، لا بميزان البحث العلمي
ولا بميزان الإسلام، الذي يقدم حسن الظَّن، ويفترض بالناس البراءة أصلاً.
وإنَّنا نرى أنَّ الأقربَ إلى المنهج الإسلامي والمنهج العلمي
أنَّ هناك أسبابًا أخرى غير المؤامرة وسوء النية وأهمها:
أنهم يُخطِئون
وخطؤهم يرجع لأسباب عِدَّة، منها ما هو مَقبول، ومنها ما
لا نقبله؛ بل منها ما نحن مسؤولون عنه، وأهم تلك الأسباب:
أنَّهم بشر
والبشر يُخطِئون، وما في الدُّنيا معصوم إلاَّ أنبياء الله
ورسله، وإنَّنا لنستطيع رَصْد أخطاء فادحة لبعض المُستشرقين الذين أسلموا بالفعل، وتعرَّضوا
في سبيل هذا لمصاعب شتَّى، ونحن المسلمين الذين لَم يَعرِف ديننا الكهنوت، واحتكار
تفسير النصوص المقدسة - أحرى الناس أن نتفهم هذا، فلا يكاد إلاَّ أن يكون لكل عَلَم
من أعلامنا انفرادات وعجائب وغرائب، فلا أخطاؤهم نزلت بهم عن مرتبة العلم والإمامة،
ولا رأى أحدٌ فيها سوء نية.
ومن أمثلة هذا الخطأ ما وقع فيه ليوبولد فايس اليهودي النمساوي،
الذي أسْلَم وتَسَمَّى بـ "محمد أسد"، وكتب كتبًا ماتعة، مثل: "الطريق
إلى مكَّة"، و"الإسلام في مفترق الطرق"، نراه يُخطئ أخطاء فادحة، ولولا
ما عرفناه من سيرته لاتَّهمنا نواياه[11].
أنَّهم ليسوا مُسلمين
وهذا يعني أنَّهم
لا يُؤمنون بربانيَّة القرآن، وأنَّه كان وحيًا من السماء، وهذا يدفع باتِّجاه سد الثَّغرة
التاريخيَّة بالتحليل والتقريب العقلي، فإذا كان القرآن يتحدَّث عن أنبياء سابقين،
ويدعو لنفس القيم الأخلاقيَّة الموجودة بالتَّوراة والإنجيل، فلا بُدَّ أن محمدًا
- صلَّى الله عليه وسلَّم - استقى بعضَ هذا أو نُتَفًا منه من أهل الكتاب الذين وُجِدوا
في جزيرة العرب، أو الذين يحتمل أن يكونَ لَقِيَهم محمد؛ إذ كان يتاجر في بلاد الشام.
وإنَّ هذا ليس مقام تفنيد ذلك الكلام، وإنَّما مقام إيضاح
أنَّ المستشرق القائل بهذا لا يكون بالضرورة شريرًا حاقدًا مُشوِّهًا للإسلام؛ بل هو
تحليل ومُحاولة لتفسير كيف أنَّ محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - علم هذا وقاله في
القرآن، وقِسْ على مثل هذا الكثير من الأخطاء الناتجة من مُحاولة التفسير والتَّحليل
لما لا تفسيرَ له، إلاَّ أن يكونَ القرآنُ وحيًا من عند الله، والإسلامُ دينًا نَزَل
من السَّماء، ومحمد رسولَ الله حقًّا[12].
ولأنَّهم ليسوا مسلمين فهم يَرَوْن أنَّ النبي بشر، والخطأ
عنده وارد، وبعض أعماله "يصعب تقبلها"[13]،
والاقتباس من كتاب "سيرة النبي محمد" للإنجليزيَّة كارين أرمسترونج، وهو
قطعة من الجَمَال والحب للنبي، ومن أروع ما كتبه الغربيُّون في السيرة.
ولأنَّهم ليسوا مُسلمين، فالقرآن عملٌ بشريٌّ، وقد يرى أحدُهم
أنَّ المسلمين تخلَّفوا؛ لأنَّهم لم يُطوِّروه بما يناسب العصر[14].
ويجدُر التنبيه إلى أنَّ آخرين منهم فنَّدُوا مثل هذا، وردَّه
بعضُهم على بعض، حتَّى ما يكاد موقف إلاَّ تجد فيه مَن أنصف؛ بل لقد جَمع الأستاذ محمد
شريف الشيباني سيرة النبي من كُتُب المستشرقين في كتابه "الرسول في الدِّراسات
الاستشراقية المنصفة".
صدورهم عن مناهجَ وثقافاتٍ غربيَّة غريبة عن بيئتنا وثقافتنا
وروحنا:
فيغلب على نظرتهم للأمور، وتفسيرهم للتاريخ، وفهمهم للدوافع،
وحتى روايتهم للقصَّة - أمورُ العوامل الاقتصادية والاجتماعية، والطبقية والنفسية،
وأمثال الدوافع المادية، فلا يستوعبون مثلاً كيف أن انتقال الرجل إلى الإسلام كان يعني
تغيرًا مؤثرًا عليه.
ولهذا يُرجع كثيرون منهم الخلافَ بين عليٍّ ومُعاوية - رضي
الله عنهما - إلى أصول الخلاف القديم بين بني أُميَّة وبني هاشم في الجاهليَّة،
"وينبغي أن نذكر أن هذا الرأي لم ينفردوا به، وإنَّما رواه المؤرِّخون عن الشيعة
منذ قديم"، ومثل هذا في تفسير كثير من المرويَّات أو رواية كثير من الأحداث.
كذلك تجد عدم قَبول مُطلق لبعض الأشياء من تلك التي لا يستسيغها
الفِكْر الغربي، وأبرز مثال على هذا هو تعدُّد الزوجات؛ ولكن انظرْ كَيْف قادت الموضوعيَّة
مؤرخًا مثل ول ديورانت - برغم عدم قبوله للفكرة أساسًا - لأَنْ يُعَبِّر عن رأيه على
هذا النَّحو: "ولكن علينا أن نذكر على الدَّوام أنَّ نسبة الوَفَيَات العالية
من الذُّكور بين الساميِّين في العصر القديم، وفي بداية العُصُور الوسطى، جعلت تعدُّد
الزوجات - في نظر هؤلاء الساميِّين - ضرورة حيويَّة تكاد تكون واجبًا أخلاقيًّا، وكان
تعدد الزوجات في نظر النبي أمرًا عاديًّا مُسَلَّمًا به لا غبار عليه؛ ولذلك كان يُقبل
عليه وهو مُرتاحُ الضَّمير لا يبغي به إشباع الشَّهوة الجنسيَّة... ولقد كانت بعضُ
زيجاتِه من أعمال البرِّ والرَّحمة بالأرامل الفقيرات، اللاتي تُوفِّي عنهُنَّ أتباعه
أو أصدقاؤه، وكان بعضها زيجات دبلوماسية"[15].
إنَّ هذا السبب قاله كلُّ مَن كتب عن المستشرقين، فأثبتوا
به "عدم الأهليَّة" للمستشرقين، ولَمْ أَكَد أجد مَن يعتبره "عُذرًا"،
خصوصًا في حال المُنصفين.
"لم تكن لنا هداية"
وهذا سببٌ ذهبي أخبرنا به سيدنا عمر حين تَحدَّث عن خرافات
الجاهليَّة، فقال: "كانت لنا عقولٌ، ولَم تكن لنا هداية"، وهو ما عبَّر عنه
الشاعر[16]
بقوله:
وَلَرُبَّمَا ضَلَّ الْفَتَى طُرُقَ الْهُدَى وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ
لَهَا أَنْوَارُ
إنَّك تجد كثيرًا في كُتُب المستشرقين المنصفين ما يُثيرُ
الذُّهُول من رَدِّ الباطل وتفنيده، والدِّفاع عن الحقِّ وتأييده، حتَّى يُخيَّل إليك
أنَّه سيعلن إسلامه في السَّطر القادم، فلقد فنَّد كل ما من شأنه أنْ يُشكك في نُبُوة
محمد، وربانية القرآن، وعظمة الإسلام، وتفوُّق الحضارة الإسلاميَّة، فما تلبث أنْ تفاجأ
بأنَّه يطرح تفسيرًا في غاية التهافُت والضَّعف لا يكاد عقل الطفل يستسيغه.
فهنري دي كاستري يُوقن بصدق محمد المطلق، ولكنَّه يقول:
"وأوَّلُ ما دار البحث فيه مسألة صدق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في رسالته،
وقد قلنا: إنَّ ذلك الصدق مُتَّفق عليه بين المستشرقين والمتكلمين على التَّقريب، ومعلوم
أنَّه لا ارتباط بين هذه المسألة وبين كون القرآن كتابًا مُنَزَّلاً من عند الله -
عزَّ وجلَّ - ولسنا نحتاجُ في إثبات صدق محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - أكثر من إثبات
أنَّه كان معتنقًا لصِحَّة رسالته وحقيقة نُبُوَّته"[17].
ونجد توماس كارلايل - الذي يُؤرخ البعض بأنَّ كلامه عن محمد
- صلَّى الله عليه وسلَّم - كان مرحلة فاصلة بدأ الغرب بعدها يرى أنَّ في الإسلام شيئًا
حسنًا، بعد أن يفند شبهات الاقتباس من أهل الكتاب، ويُؤكد أنَّ القرآن أصيل لم يأخذه
مُحمد عن أحد، نجده يرجع كل ذلك للنفس العظيمة والرُّوح العظيمة والعقل العظيم، وكل
ذلك كان لمحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: "وقد أتخيَّل روح محمد الحادَّة
النارية، وهي تتململ طول اللَّيل الساهر، يطفو بها الوجد ويرسب، وتدور بها دوَّامات
الفكر حتَّى إذا أسفرت لها بارقةُ رأي، حسبته نورًا هبط عليها من السَّماء، وكل عَزْم
مقدس يهمُّ به يَخالُه جبريل ووحيه، أيزعُم الأفَّاكون الجهلة أنَّه مشعوذ ومحتال؟
كلاَّ ثم كلاَّ"[18].
وجود الروايات الضَّعيفة في تُراثنا
وهذه مثلبة كُبرى ستلطِّخ عصرنا وأجيالنا الحديثة؛ إذ كيف
- ونحن أمَّة السند والمرويَّات وفي عصر الهجمة الكُبرى والتشويه المُمَنْهج - لم تصدر
حتَّى الآن كتبُ تراثنا مُنقحة ومصفَّاة على منهج المحدثين في المرويَّات، على الأقل
فيما يتعلق بالقرون الأولى؟!
إنَّ مُحاولات كتابة السيرة الصحيحة فقط، صدرت حديثًا[19]،
ثم ظهر فيما بعد كتابات تناقش مرويَّات الفتنة بين الصَّحابة، ولكن حتَّى الآن - وعلى
حدِّ علمي - لم تصدر أمهات كتبُ السيرة، معلقًا عليها بالتَّخريج والرُّواةِ ومُناقشةِ
الأسانيد[20]، وهو
مشروع سيحلُّ كثيرًا من مشكلات تفسير الرِّوايات عَبْر النظر في الرُّواة وطبقاتهم
وميولهم وأحوالهم، ويليه في الأهميَّة كتب التاريخ والطبقات؛ مثل: الواقدي، وابن سعد،
والطَّبري، وأمثال هذه المصادر.
إنَّه ليصعب على القارئ أن يتَّهم المستشرق القائل: إنَّ
النبي أُعْجِبَ بزينب بنت جحش؛ إذ رآها كذا وكذا، فتغيَّر قلبُه إليها، أقول: يصعب
أنْ يُتَّهم مثل هذا بالغَرَض، خاصَّة إذا كان مُجمل ما كتبه من قبل ومن بعد يشهد بغير
هذا؛ بل رُبَّما أقول: إنَّ بعض الرِّوايات كانت فتنة لبعض الناس عن الحقِّ، بما تزرعه
في نُفُوسِهم من شكوك واستفهاماتٍ تتأيد بمثلها من روايات ضعيفة أخرى، أو بأوجه تأويل
تُحمل عليها روايات صحيحة، ومن أمثال هذا: أنَّ عائشة وحفصة - رضي الله عنهما - تآمرتا
لتطليق الجَوْنِيَّةِ[21]،
أو أنَّ النبي كاد ينتحر من يأسه؛ لانتظار الوحي أوَّل البعثة[22]...
وهكذا، ثم ما أدراك بروايات الفتنة الكُبرى؟ وكفى بها سببًا في ضلال كثيرين.
ولا يَسَعُنا أن نقول: إنَّه كان ينبغي لهم أنْ يُفرِّقوا
بين صحيح الأقوال وسقيمها، فتلك مُهمَّتنا بالأساس، ثم إنَّهم - وهم الغربيُّون الغريبُون
عن روحنا وتُراثنا - ليسوا بأهل أنْ يقوموا بهذه المهمة على وجهها، ثُمَّ من يُلزم
كل كاتب في الإسلام أنْ يتعلَّم أصولَ الجرح والتعديل والإسناد؛ كي يكتب عنَّا؟! وماذا
يكون نفعنا في الدنيا إذًا؟! ثم نحن نعرف صُعُوبة هذا العلم؛ مما لا يكاد يجيده إلاَّ
القلائل النادرون في أُمَّتنا ذاتها.
وصحيح أن صاحب الغرض والهوى لا يُؤمن ولو جئته بكُلِّ آية،
ولكن الأصحَّ منه أننا لم نعذر أنفسنا أمام الله، فلم نأتِهم بعدُ بكل آية، وعندها
فقط يُمكننا أن نتحدث بيقين عن الهوى والغرض والمؤامرة على الإسلام.
ثم الهوى والغرض
وبَعْدَ كل هذا يظل احتمالُ الهوى والغرض واردًا، فإنَّ الله
خلق للبشر ضمائر لا تزالُ تلحُّ عليهم بالحقِّ، ولا بُدَّ لكل صاحب باطل أن يلتمسَ
لنفسه الأعذار والتبريرات؛ بل قد يحولها إلى مبادئ ومُعتقدات؛ كي يسكت صوت الضَّمير
هذا.
والبشر بعدُ أطيافٌ وأنواعٌ ومناهل وثِمارٌ مُختلف أُكله،
ولا يُسقى بماء واحد، غَيْرَ أنَّ الرمي بالغرض والهوى ينبغي أن يقالَ به بعد دراسة
مُستوعبة ومُنصفة، لا أنْ يكونَ أوَّل تهمة نرمي بها كلَّ من أخطأ.
ويُمكن أن ننسب إلى "الهوى" بعضَ ما يحدث أحيانًا
في كتابات بعضٍ مِن هؤلاء، من عرض مسرحيٍّ لبعض الأحداث، يُعينهم في هذا رواياتٌ ضَعيفة
سيِّئة مسطورة في كُتُب التُّراث، فإذا وقعت مثلُ تلك الروايات على صُدورٍ صدرت عن
آداب وثقافات غربيَّة لم تُحرَّر من الهوى، أنبتت غراسًا يقبلونه هم، ونعده نحن إساءة
بالغة[23].
وبهذا يستوي بيان هذا الأمر المشكِل، فإنِّي أنزه أُمَّتنا
أن ترمي المخالفين عن قَوْس واحدة، فهذا ما لم يفعلْه أوَّلُنا ولا آخرنا، ولسنا كالغربيِّين
في العصور الوسطى؛ إذ كانوا يؤلفون الأكاذيب عن الإسلام العدو؛ حتَّى يَنْفُرَ منه
الناسُ، فلا هذه عدالة أمَّة تشهد على الأمم يوم القيامة، ولا نحن بالمرعوبين الذين
نخشى الفناء وانتصار الأعداء.
وإنَّنا وإن كنا في خِضَمِّ معركة مُلتهبة، وجو المعارك أقرب،
يَميل إلى أن يجعل الناس مُعسكَرَين لا ثالثَ لهما، إلاَّ أننا أمَّة ناضجة العقل،
ولو كان يحكمُنا من هو منَّا وعلى مذهبنا؛ لكنَّا حقَّقنا النصر منذ زمن.
ألا ترى إلى أن النهضة الفكريَّة للأُمَّة أسبق بما لا يُقارَن
بنهضتها العلميَّة والعسكريَّة والسياسيَّة؟!
لأنَّ الأولى قسمة منها في أيدي الشُّعوب، أمَّا الثانية
فلا يدَّ للشعوب فيها.
[1] للتوسع في تاريخ تطور الاستشراق،
انظر مبحث مكسيم رودنسون "الصورة الغربية والدراسات الغربية والإسلامية"،
منشور بكتاب "تراث الإسلام"، بإشراف شاخت وبوزوروث.
[2] انظر: شوقي أبو خليل، "غوستاف
لوبون في الميزان"، دار الفكر، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، 1410هـ/ 1990م، (ص7).
[3] يتَّضِح هذا التخفي في كثير من
عباراتِها في المُؤتمرات والنَّدوات، وقال بمثل هذا الدكتور حمدي زقزوق في مقدمته لكتابها
"الإسلام دين الإنسانية"، وقد كان على صلة بها، فهو حاصل على الدكتوراه من
ألمانيا، وله باع كبير في دراسة الاستشراق، ثم وصلني ما يشبه التأكيد بإسلامها عن طريق
الأستاذ عبد الحليم خفاجي الذي عمل وكيلاً للمركز الإسلامي في ميونيخ، وأحد القائمين
بالدعوة في ألمانيا.
[4] انظر: تيو لوتستوي، "حِكَم
النبي محمد"، "المقدمة"، دراسة وتقديم وتعليق محمود النجيري، مكتبة
النافذة، الجيزة، مصر، الطبعة الأولى، 2008م.
[5] مونتجمري وات، فضل الإسلام على
الحضارة الغربيَّة، ترجمة: حسين أحمد أمين، مكتبة مدبولي، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى،
1403هـ/ 1983م، (ص7).
[6] ر. ف. بودلي، "الرسول حياة
محمد"، ترجمة: محمد محمد فرج وعبد الحميد جودة السحار، مكتبة مصر، القاهرة، مصر،
(ص7).
[7] مايكل هارت، "الخالدون مائة
أعظمهم محمد"، ترجمة: أنيس منصور، المكتب المصري الحديث، القاهرة، مصر، (ص13).
[8] انظر في تفاصيل هذا كتاب
"برنارد شو والإسلام"، لمحمود علي مراد، كتاب الهلال، ديسمبر 1989م.
[9] انظر: عبد الرحمن بدوي،
"موسوعة المستشرقين"، دار العلم للملايين،بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة،
1993م، (ص300).
[10] انظر: مصطفى السباعي، "السنة
ومكانتها في التشريع الإسلامي"، المكتب الإسلامي ودار الوراق، الطبعة الثانية،
(ص29).
[11] انظر في تفصيل هذا كتاب
"فكر محمد أسد كما لا يعرفه الكثيرون"، للدكتور إبراهيم عوض.
[12] انظر مثلاً: مونتجمري وات،
"محمد في مكَّة"، ترجمة: د. عبد الرحمن الشيخ، وحسين عيسة، الهيئة المصرية
العامة للكتاب، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 2002م، (ص100، 101).
[13] كارين أرمسترونج، "سيرة
النبي محمد"، ترجمة: د. فاطمة نصر، ود. محمد عناني، "كتاب سطور"، القاهرة،
مصر، الطبعة الثانية، 1998م، (ص393).
[14] انظر: لويس سيديو، "تاريخ
العرب العام"، ترجمة: عادل زعيتر، طبعة الحلبي، الطبعة الثانية، 1389هـ/ 1969م،
(ص105).
[15] ول ديورانت، "قصة الحضارة"،
ترجمة: محمد بدران، طبعة مكتبة الأسرة، مصر، 2001م. المجلد السابع (13/ 43، 44).
[16] هو الإمام عبد الرحمن بن مهدي،
أو الإمام أحمد بن حنبل، على خلاف أهل الرِّوايات.
[17] هنري دس كاستري،
"الإسلام خواطر وسوانح"، ترجمة: أحمد فتحي زغلول، مكتبة النافذة، الطبعة
الأولى، 2008م، (ص36، 37).
[18] توماس كارلايل، "الأبطال"،
(ص75).
[19] انظر: "مُقدمة السيرة النبوية
الصحيحة"، للدكتور أكرم ضياء العمري، و"مقدمة صحيح السيرة النبوية"،
للدكتور إبراهيم العلي.
[20] طرح الدكتور مسفر بن غرم الله
الدميني في ورقته البحثية "مرويات السيرة النبوية بين قواعد المحدثين وروايات
الإخباريين" المقدمة لمؤتمر بحوث السيرة والسنة بمكة المكرمة 1425هـ مشروعًا مهمًّا
للموازنة بين منهج المحدثين والمؤرخين في كتابة السيرة، يصلح لأنْ يكونَ منطلقًا متزنًا
لكتابة السيرة.
[21] أخرجه ابن سعد والحاكم وضعَّفه
الذهبي، وحكم الألباني بوضعه، ومدار الرِّواية على مَتْروكَيْن هما: هشام بن محمد الثعلبي،
والواقدي؛ انظر: "السلسلة الضَّعيفة والموضوعة"، برقم (2144).
[22] وهو موجود في البخاري، باب بَدْء
الوحي إلى رسول الله ، ولكنَّها من "بلاغات الزهري" التي لا يستشهد بها ولا
تعدُّ من الصحيح؛ لانعدام السَّند الموصول كما يقول عُلماء الحديث، ومثل هذا من الأُمُور
الدقيقة التي تخفى على كثيرين، فما بالنا بمستشرقين؟! وانظر في تحرير هذا: "فتح
الباري"، (12/368، 369، 376)، تحقيق: عبد القادر شيبة الحمد، طبعة الأمير سلطان
بن عبد العزيز.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق