كما هو معروف وعلى حسب معلوماتى المتواضعة فى النقد السينمائى هناك مدرسة ترى أن النقد يجب أن يتم فى معزل كامل عن أى تأثيرات .. بحيث يذهب الناقد بعد مشاهدة الفيلم مباشرة ليكتب النقد دون الأخذ فى الاعتبار أى ظروف مر بها الفيلم فى مراحله المختلفة .. وهناك بالطبع مدرسة على عكس هذا الخط تراعى فى النقد الظروف الموضوعية للفيلم والتى تمت فيما وراء الكواليس .
ربما تصلح هذه القاعدة للانطلاق لتفسير شغف أغلب من كتبوا فى الصحف بفيلم ميونيخ للمخرج الأشهر ستيفين سبيلبيرج ، وهو مخرج شهير جدا ويهودى ومعروف بانحيازه الدائم نحو اليهود والمصالح الإسرائيلية .. فحينما يؤدى هذا المخرج فيلما تكون رسالته النهائية أن القتل لا يمكن أن يولد السلام .. بل هو يولد دائما القتل الذى يولد قتلا جديدا فى حلقة جهنمية مفرغة لا تنتهى ، فلعله من الطبيعى يقابل هذا العمل بالحفاوة العربية لما يعبر عنه من تحولات لدى سبيلبيرج .
ولولا هذه الخلفية المسبقة عن شخصية المخرج وميوله وتحولاته فأتوقع أن الفيلم كان سيقابل بعاصفة النقد والرفض لأنه فى الحقيقة لم يكن حتى محايدا أبدا .
يقول المفكر المعروف الدكتور عبد الوهاب المسيرى أنه ليس من الحيادية ولا من الموضوعية أن تقف فى الوسط بين القاتل والمقتول أو بين الجلاد والضحية .. فهذه ليست حيادية ولا موضوعية .. وإنما يجب أن يكون الحياد هو الوقوف فى صف المقتول وفى صف الضحية .
ولربما كان هذا هو المبدأ الذى نستطيع من خلاله مناقشة الفيلم الذى بدا حياديا واقفا فى المنتصف بين الفلسطينيين والإسرائيليين .. لكنه لم يكن هكذا على أى حال .
يحكى الفيلم القصة المعروفة والتى تم فيها خطف فريق الكرة الإسرائيلى المشارك فى دورة الألعاب الأوليمبية فى ميونيخ فى عام 1972 على يد مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين من تنظيم ( أيلول الأسود ) ، وهى العملية التى تدخل فيها الجيش الألمانى غادرا فأدت إلى مقتل الفريق الإسرائيلى والفدائيين الفلسطينيين ، فيما نجا واحد من الفريق الإسرائيلى وثلاثة من الفدائيين الفلسطينيين تم سجنهم فى ألمانيا .
قررت اسرائيل تصفية 9 أفراد اعتبرتهم المخططين لعملية ميونيخ عن طريق فريق خاص من الموساد ينجح عبر الفيلم فى قتل 6 أشخاص من هؤلاء التسعة .
بطل الفيلم الذى تتحرك معه الأحداث لتنقل مشاعره وأفكاره هو قائد فريق الاغتيالات الإسرائيلى الذى يستجيب لنداء الوطن ويترك زوجته الحبلى فى الشهر السابع ليمضى فى المهمة التى لا يعرفها أحد ولا يعرف متى سينهيها .. ومن خلال هذا البطل الذى تعود المشاهد على التوحد معه خلال الفيلم والتعاطف مع قناعاته وأفكاره يكون أول طريق الانحياز نحو اسرائيل .
قدم الفيلم شخصية ضابط الموساد الإنسان الذى يمكنه أن يجهض العملية كاملة إذا كانت ستصيب مدنيين (!!!) لكنها إن أصابت مدنيين لن يكون الندم كبيرا بل سينتقل فى لحظة للتفكير فى عملية الاغتيال القادمة .. كما قدمت شخصية الضابط اليهودى العنصرى الذى قال بصراحة : لا يهمنى إلا الدم اليهودى ، وكان يقابلها الشخصية التى تستنكر كل هذا القتل لكنها أيضا لا تتوقف كثيرا أمامه إذا ما حدث فعلا .
إنه فيلم خانق للمشاهد العربى حيث يرى البطل شخصية يهودية من ضباط الموساد ينفذ عبر الفيلم سلسلة اغتيالات لفدائيين فلسطينيين فى روما وأثينا ولبنان ونيويورك وباريس وغيرها .. عبر المتفجرات أو الرصاص ، وسيبقى هو البطل الذى سينجو فى النهاية ، بل وسينجح فى النهاية فى تصفية هؤلاء الفدائيين .
تكمن رسالة الفيلم فى خمسة مشاهد فقط تقريبا :
1- مقابلة بين فريق الموساد وفريق من الفدائيين العرب فى أثينا دون أن يعرف الفريق العربى حقيقة الفريق الإسرائيلى فيتحدث البطل ( آفنر ) مع قائد الفريق العربى ( على ) الذى يحكى له معنى أن تكون لاجئا مشردا ليس لك وطن تعود إليه وهو الإحساس الذى لايدركه أحد فى هذا العالم ، ولماذا نطرد نحن - الفلسطينيين - ونحن لم نسئ إلى اليهود كما فعل الألمان مثلا .. يحاول ( آفنر ) نزع الفكرة من رأسه لأن الواقع صار مختلفا والأوضاع لن تسمح لكم باسترجاع أرضكم لا اليوم ولا غدا ولا بعد عشر سنين .. لكن ( على ) يبدو واثقا من تحقق الحلم إن لم يكن اليوم ولا غدا ففى الجيل القادم أو الذى بعده أو الذى بعده .. وأنه قد يكتفى بأن يحاول الجيل الحالى إسماع العالم صوت الفلسطينيين عبر العمليات الفدائية .
2- اعتراض أحد أعضاء الفريق الإسرائيلى عن الإسراف فى القتل الذى تمت به العمليات ، وعن قتل المدنيين بكثرة ، وهو الاعتراض الذى لم يلق إلا الهجوم من عضوين آخرين بالفريق أحدهما لا يهمه إلا الدم اليهودى والآخر يرى أنه شر لا بد منه .. ثم يتدخل القائد ( آفنر ) لينهى الحوار بالتفكير فى الهدف القادم .
3- اعتراض خبير المتفجرات الإسرائيلى فى الفريق - لدى توجههم لعملية انتقامية فرعية - على هذا الإكثار من القتل والدماء ، وأنه يشعر بفقدانه لشرفه حين يقتل كل هؤلاء ، على خلاف ما تقوله التوراة .
4- الرعب الذى يجتاح ( آفنر ) بعد انتهائه من المهمة وحينها يكون قد أنجب بنتا ، لكنه يكون قد صار هدفا للعديد من الأجهزة جراء عملياته ، فإذا سمع همسة فى غرفته ظل يقلب فى التليفون والتلفاز وتحت السرير وسائر الأماكن التى من الممكن أن تكون قد زرعت فيها قنبلة .. وحين يسير فى الشارع يبدأ الهوس فى الإيحاء له بأنه مراقب ومتابع فى كل لحظة ، وهو ما أدى به إلى حافة الجنون خصوصا بالنسبة إلى أسرته وطفلته الوليدة ، ويهدد فى حالة استهدافه أن يكشف كل شئ .. فقد صار لا يأمن حتى استهدافه من جهة الموساد .
5- رفض ( آفنر ) العودة إلى اسرائيل والعودة إلى مهام فى الموساد وقناعته بأن كل من تم اغتيالهم ظهر لهم بدائل أكثر قسوة وعنفا ومحملين برغبة عارمة فى الانتقام .. كان ذلك فى حوار مع مسئوله ضابط الموساد الذى سافر نيويورك خصيصا لمقابلته وإثنائه عن التوقف .
كانت رسالة الفيلم المجردة أن الدم يولد الدم .. وهى رسالة قد يمكن أن نتقبلها لو كان النزاع نزاعا يخلو من المبادئ .. لو كان نزاعا على بئر بترول متنازع عليه .. لو كان صراعا قبليا طائفيا لمجرد النزعة الطائفية .. لكنه صراع لا يقف فيه الطرفان فى المواجهة بل هو احتلال عنصرى بغيض مزود بأفتك الأسلحة وبدعم العالم المجرم ، وقد استولى بالفعل على ما لايملك من الأرض ، التى لم يُثبت حتى الآن أحقيته بها .
لايمكن أن نتقبل التوقف عن القتل لأكثر من سبب .. أولها أننا لا نَقتل بل نحن الذين قُتلنا منذ القدم وحتى الآن ، وليس آخرها أننا ندافع عن الحق الذى يظل حقا مهما كانت نتائج المعارك .. إنها حرب لايمكن أن تتوقف حتى يعود الحق إلى أصحابه .. وتعود الأرض إلى أهلها .
لكن ربما نقدر أن تنطلق وجهة النظر هذه من مخرج يهودى .. أما عن قبولنا بها فهذا هو المحال .
5/4/2006
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق