ما حدث معروف للجميع : نشرت صحيفة دانماركية مستقلة رسوما كاريكاتيرية تسيئ للنبى محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم اعتبرت هذا داخلا فى نطاق حرية الرأى والتعبير ، مما لا يستدعى اعتذارا ، ثم أعلن رئيس وزراء الدانمارك أنه لايستطيع معاقبة الصحيفة على مادة منشورة مع التأكيد على أنه شخصيا لا يقبل هذا وأن بلاده تراعى كافة حقوق مواطنيها المسلمين وذكر أن الحكومة عاقبت شبابا من حزب متطرف نادى بطرد المسلمين من الدانمارك ، ولكن مع رد الفعل الإسلامى القوى بالفعل اعتذرت الصحيفة أكثر من مرة اعتذارات صريحة وواضحة وفى أكثر من وسيلة إعلام وعلى موقعها الإليكترونى .
ماحدث يضع أيدينا ويلفت أنظارنا إلى عدد من الحقائق والمشاهد كذلك :
1- يختلف وضع الصحافة فى الدول الأوروبية عن الوضع فى الصحافة العربية ، ففى هذه الدول تتمتع الصحافة باستقلال حقيقى ( فى ظاهره لكنها صحافة موجهة ، وهذا موضوع آخر ) بما يعنى أن رئيس وزراء الدانمارك لايستطيع معاقبة الصحيفة بالفعل لا كما يتبادر إلى ذهن الشعوب العربية عندنا بأن الصحيفة لا تستطيع أن تفعل شيئا إلا بوجود خط أخضر من الحكومة .
هذا ما أظن أنه حدث بالفعل .. إذ أعلنت الحرب على الدانمارك كلها كدولة على أساس أنها كدولة تعادى الإسلام وتعادى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ونشرت بعض المواقع نسب عن شعب الدانمارك تقول بأن أغلبية الشعب الدانماركى يرفض الاعتذار للعالم الإسلامى بنسبة 66 % وأن 75 % يرفضون حتى اعتذار الصحيفة .. وهى النسب التى تأكد أنها كانت كاذبة من لقاءات بعض القنوات الفضائية مع مجموعات من الشعب الدانماركى كسلسلة اللقاءات التى أجرتها قناة الرسالة الفضائية الإسلامية .. بل بعض هذه المجموعات أكدت على أن الاعتذار وحده لايكفى ، وأنه يجب وضع قانون لمراعاة مشاعر ومقدسات الأقليات الدينية .
أى أن الأمر ليس كما يبدو ، وأننا يجب أن نعاقب الدانمارك بالمقاطعة الاقتصادية الشاملة .. وإنما هو خطأ فردى فعلا ، واعتذر صاحب هذا الخطأ أكثر من مرة .
ونحن مطالبون شرعا بقبول الاعتذار ، والصفح عن الخطأ .
2- نفس الصحيفة الدانماركية كانت قد رفضت فى عام 2003 – كما نشر موقع إسلام أون لاين – نشر صورة تشكك فى المحرقة اليهودية " الهولوكوست " ، يحمل هذا المشهد ازدواجية بلاشك .. وهذا دليل على أن الغرب لايمارس حرية التعبير فى كل شئ كما يدعى هو ويدعى المنبهرون به .. وإنما استطاعت مجموعات الضغط بالفعل أن تجعل بعض الأشياء خطا أحمر يتجاوز قيمة حرية التعبير التى يدعى الغرب أنه يقدسها ، وقد دفع كثيرون من مؤرخى الغرب ثمنا باهظا نتيجة اجتيازهم هذا الخط الأحمر .
أى أن الواقع الفعلى فى الغرب والذى يسمح بمهاجمة المقدسات لأى طائفة هو نفسه لايسمح بمهاجمة حادثة تاريخية لا يمكن أن يكون لها أدنى لمحة من القداسة ، وإنما حادثة تاريخية مثلها مثل غيرها من الحوادث اللامتناهية على خط التاريخ الطويل .
3- لكن التأمل فى هذا الموقف بشئ من الهدوء يجعل هذه الازدواجية ترتد علينا نحن المسلمين ، والحق أنه إذا حاولنا تصحيح الأوضاع فيجب ان نعرف حدود مسؤوليتنا ومدى أخطائنا تجاه المسألة بدلا من تفسير كل شئ بعقدة الاضطهاد ونظرية المؤامرة ، فالحق أن اليهود بذلوا فى سبيل تثبيت حقيقة المحرقة جهدا طائلا تضافرت فيه قوتهم الاقتصادية ( من خلال المال ) والإعلامية ( الصحف والمحطات ) والدبلوماسية التى تجحت أخيرا فى استصدار قرار من الأمم المتحدة بتخصيص يوم لذكرى المحرقة بعد أن استطاعت استصدار قوانين تعتبر التشكيك فى المحرقة عنصرية ومعاداة للسامية .. فى حين لم يفعل المسلمون على الجانب الآخر شيئا ذا بال فى مجال التعريف بالنبى محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام .. وللتدليل على مدى الجهل الغربى بالإسلام يمكننا تفصيل موضوع آخر طويل لأن الوضع فى هذا الجانب مأساوى فعلا ، و أسمع ممن عاش فى الغرب عن تصورات مدهشة للجمهور عن الإسلام ، وكثير من المراكز الإسلامية ليس لها هم إلا الانتصار لمذهبها الضيق حتى تحولت الجالية الإسلامية فى كثير من المناطق إلى جزر منعزلة على حسب المذهب والرؤية .
فمن الطبيعى والحال كذلك ألا يكون سيدنا محمدا لدى الجمهور الغربى إلا شيئا عاديا غير ذى قيمة ولا حرمة ، فما الحال والصورة التى يرسمها المسلمون لأنفسهم صورة سلبية جدا ؟؟ اضف إلى هذا الصراع التاريخى والحقد الصليبى من كثير من الطوائف فى أوروبا ومن رجال الدين .
المسألة جد متداخلة ومعقدة .. صراع تاريخى بين الإسلام والغرب ، يدعمه ويؤججه دائما كثير من طوائف دينية ورجال دين .. يصل إلى حد مباركة ذبح المسلم وفقأ عينه ( تصريحات روبين كوك فى حرب البوسنة ) .. يؤيد كل هذا صورة سلبية جدا يرسمها المسلمون لأنفسهم بأنفسهم ... وفى ديننا لابد من إقامة الحجة قبل المحاسبة والمعاقبة .
فيجب أولا أن نتخلص من مسؤوليتنا فى هذا الخطأ ، ثم نعلن الحرب فعلا على كل من يتجرأ علينا وعلى مقدساتنا .
4- اعتذرت الصحيفة بوضوح .. وتكلم رئيس الوزراء بكلام ممتاز عن الإسلام وعن موقفه الشخصى وعن رعاية الدولة للمسلمين .. فلماذا التصلب والتخشب ومواصلة المعارك ودعوات المقاطعة والحرب الوهمية التى تستنزف فيها المجهودات لتشبع مطلبا نفسيا فقط .
ثم إن الغريب والعجيب أن ترتفع اصوات بالمقاطعة لم تكن ذات يوم فى خندق الإسلام ، ولا حتى فى خندق الدفاع عن الشعوب ككثير من كتاب الصحف الحكومية الذين انتفضوا فجأة للدفاع عن رسول الله وعن الإسلام .
إن وجودهم فى هذا الخندق جعل القضية تخسر فعلا ، إذ لاحظت صحيفة ألمانية ( دى فيليت ) أن الحملة الإسلامية منافقة ، وذكرت هؤلاء الفرسان بتدنيس القرآن فى جوانتانامو منذ فترة ، وبكتاب الفرقان الحق الذى يكذب على القرآن ، وبتصريحات يومية للقس الأمريكى فالويل .. وتساءلت : لماذا لم تقم حملات فى العالم الإسلامى حين كل هذا ؟
ولو تركنا مؤقتا موقف الشعوب ، فإن هذا السؤال يتوجه للحكومات وكتاب الصحف الحكومية الذين بدوا فى حالة فريدة من التصلب تجاه الدانمارك ، ولم نسمع منهم أو نشم رائحة مقاطعة ضد امريكا واسرائيل وبريطانيا وفرنسا لدى الانتفاضة وحرب العراق وقانون الحجاب وتدنيس القرآن و حوادث سجن ( ابو غريب ) ؟؟؟
موقف ليس له تفسير إلا النفاق فعلا .. وخسرت القضية بوجودهم فيها .
5- ثم إن كثيرا ممن يبدون مواقف متصلبة الآن ويعلنون أنهم لن يقبلوا اعتذارا ولا ألف اعتذار .. لم نسمع لهم صوتا حينما أهين الإسلام هنا فى مصر وعلى أيدى أشخاص يعتبرونهم رواد التنوير .. فلقد أهان طه حسين القرآن حين اعتبره مجرد مصدر تاريخى قابل للتكذيب وأنه مصنوع وليس منزلا ( فى الشعر الجاهلى ) وحسن رسم صلاح جاهين ديكا حوله تسع دجاجات وعلق ( محمد جمعة زوج التسعة ) .. ولم نذهب بعيدا .. منذ شهور كان سيد القمنى يكتب فى روزاليوسف ويشتم بكل صراحة خالد بن الوليد والقعقاع بن عمرو التميمى وكل فاتحى الشام من المسلمين ويصفهم بالدمويين ... بل منذ أسابيع كتب خالد منتصر فى صوت الأمة متهما عمر بن الخطاب بالعنصرية .. ولا اوضح من موقفهم من رواية ( أولاد حارتنا ) و رواية ( وليمة لأعشاب البحر ) ، بل كانوا يقفون فى هذا نفس موقف الغرب الآن باعتبار هذا من حرية التعبير بل ويضعون شخصيات سلامة موسى ولويس عوض وجرجى زيدان وطه حسين وفرج فودة وحسين أحمد أمين .. على اعتبارهم رواد عصر التنوير .
أين كانت كل هذه الغيرة على الإسلام والرسول والصحابة ؟؟ ومالذى فجر هذه النخوة الآن وعلى كل هذا القدر من التصلب والصمود ؟؟
7 - يمكننا أن نتفهم بل وندعو لمقاطعة من أعاد نشر هذه الرسوم وتحدى بنشرها العالم الإسلامى ، وهى صحف نرويجية وفرنسية وإيطالية وإسبانية وسويسرية وألمانية ، ولعلها تكون فرصة ممتازة لمقاطعة كل البضائع الأجنبية وتشجيع السلع الوطنية والعربية والإسلامية .. ويكون استثمارا صائبا للموقف ، وبداية نحو التحرر الاقتصادى التام ونحو التكامل العربى والإسلامى ، لكن أن ترتفع الأصوات نحو الجهة التى اعتذرت ( الدانمارك ) وتنسى كل الجهات الأخرى رغم أنها دخلت بإرادتها فى المعركة وبشكل التحدى المستفز .. فهذا بلاشك تصرف يحمل سمات الطفولية .
8- أعتب على كثير من الكتاب الأحرار والمستقلين الشرفاء أنهم لم يتفهموا موقف الشعوب جيدا .. وبرأيى إن الشعوب دائما وأبدا أسيرة للإعلام .. ولا أظن أحدا يخالفنى فى هذا ، وعند كل نقطة حرجة يستطيع الإعلام أن يحرك الجماهير ، ويستطيع كذلك بالتعتيم أن يسكتها .. حتى إن وصية هنرى كيسنجر فى فترة الاتفاضة الفلسطينية الأولى لوسائل الإعلام لمواجهة التأثير المتزايد لها فى أوساط الشعوب كانت : " عتموا عليها إعلاميا " .
كثير ممن كتب اندهش من عضبة الشعوب ، ولماذا لم تغضب عند " الفرقان الحق " أو تدنيس القرآن فى جوانتامو .. بالرغم من أن كل هذه الأحداث لم تأخذ أى حظ من الإعلام مثل القدر الذى نالته الرسوم الدانماركية .. والشعوب بعامة لا تتابع الأخبار غير الرئيسية ، والمسؤولية على هذا فى وسائل الإعلام التى تجعل الأخبار رئيسية أو فرعية .. لكن الشعوب انتفضت فى مظاهرات عارمة فى وقت الانتفاضة ومذبحة جنين وغزو العراق وغزو أفغانستان وغيرها .. وقامت مظاهرات كبيرة فى مصر بالأزهر والأسكندرية تنديدا بتدنيس المصحف فى جوانتانامو ، لكن كل هذا لم تسلط عليه الأضواء مما جعله حادثا خافتا .
ورغم المواجهة العنيفة لهذه المظاهرات والسحل والاعتقال والتى وصلت للموت وفقأ العيون فى مظاهرة الطلاب بالأسكندرية إبريل 2002 .. رغم هذا لم تتوقف المظاهرات .. بما يؤكد أن الشعوب على استعداد للتحرك طالما عرفت الخبر ووجدت شبه قيادة .
كذلك أخذ البعض على الشعوب أنها لم تنتفض لحوادث القتل والتعذيب فى سجون العراق وغيرها وكذا القتل فى فلسطين والمعروف أن هدم الكعبة حجرا حجرا أهون عند الله من سفك دم امرئ مسلم ، لكن يجب أن نعرف أن الشعوب دائما وابدا لديها مشكلة فى ترتيب الأولويات ، وأنها لاتقدر قيمة الفرد كما تقدر قيمة الكعبة .. وموت الآلاف أهون عندها من مس الكعبة أو مجرد التفكير فى هذا .. هذا رغم كونه خطأ وترتيب غير صحيح للأولويات .. إلا أننا يجب أن ننظر للشعوب من موقف المتفهم لا من موقف المتهم وممثل الادعاء .. لأن الشعوب لم تجد بالفعل من يشرح لها صحيح الدين حتى ترتب أولوياتها .. بل لايكاد يظهر رمز دينى معتدل حتى يهاجم ويطارد .. ويبقى للشعوب أمثال طنطاوى – فضحه الله وجعله عبرة – فيأخذون دينهم من غير الراسخين فى العلم .
9- ولعلها مفارقة طريفة أن الدليل عل ما أقول هو ماسمعته من بعض من اعتلى المنابر وهو يظن نفسه يدافع عن سيدنا محمد ليزيد من ضلال الشعوب ومن الصورة السلبية للمسلمين من خلال خطاب غريب .
سمعت أحدهم يقول فى الجمعة الماضية : ( لن نقبل اعتذارا ولا ألف اعتذار .. بل سنقاتلهم ... يجب أن نقاتل لا اقول كل من اساء إلى سيدنا محمد .. لا .. بل كل من لايحمل فى قلبه الاحترام والتوقير والتقدير والتبجيل والتقديس لسيدنا محمد ) .
وهذا كلام كارثى ، فبعيدا عن إمكانية القتال .. فإن الإسلام لم يطالب بقتال من لايحمل التقدير والتوقير والتبجيل والتقديس لسيدنا محمد .
آخر يقول : ( اللهم مكنا من رقابهم لنفعل كذا وكذا ... ) .
أهكذا يعبر عن الإسلام ويعرف الغرب بالإسلام ؟؟؟
وكلى يقين ان ما قيل على منابر كثيرة كان من العجائب والغرائب .. لكن مثل هذه العبارات تزيد الصورة السلبية عن الإسلام والمسلمين فى الغرب ، وتزيد من تربية فكر وشعور معين لدى الشعوب المسلمة لايقوم على الدعوة ورجاء الهداية .. بل على الحرب ابتداءا .
10- لكن علينا فعلا أن نستفيد من هذا الحراك الجماهيرى والغضبة الشعبية لنفكر كيف يمكن استثارتها من أجل قضاياها مثل الفساد والاستبداد والخنوع والقهر والظلم .. لأن هذه القضايا هى التى ستغير من حالنا أولا ومن صورتنا عند كل الناس ثانية .. فنحظى بالاحترام ولايجرؤ أحد على مس مقدساتنا ، بكل يكون حالنا دعوة لديننا العظيم الذى يحضنا على رفض القهر والظلم والاستبداد .
اتخيل أن القضية الكبرى أمامنا فعلا ، هى كيفية استغلال هذا الحراك الجماهيرى ، كيف نمنع هذه الجماهير من العودة إلى موقع المتفرج السلبى مرة أخرى .
10/2/2006
سامحنى أخى ابو روان على التأخر فى الرد عليك ،
ردحذفوانا متفق مع فكرة ملاحظتك العامة وكنت انوى والله ان اجعلها عنصرا فى المقال لكنه طال جدا ، ففكرت ان افرد لها مقالا مستقلا .
انا مع حرية البحث والنقد حتى للأديان ، بشرط أن يكون بحثا رصينا لا سخرية ولا استهزاءا ولا ساحة للكاريكاتيرات والكوميديا.
ومع عدم إثارة هذه الاختلافات فى وسائل الإعلام العامة كالتليفزيون الحكومى او الصحف والمجلات العامة .
هذا خلاصة موقفى فى هذا الموضوع .
أشكر لك مرورك الكريم .