الأحد، أكتوبر 04، 2020

قصة الاستشراق الفرنسي: الوجه العلمي للهيمنة الفرنسية

 

في فرنسا، وإلى الجنوب من باريس، توقفت الفتوحات الإسلامية عند مدينة بواتيه، المعروفة في التاريخ العربي باسم "بلاط الشهداء" (114 هـ = 732م)، بعد الهزيمة التي أنزلها شارل مارتل بجيش عبد الرحمن الغافقي، وهي الهزيمة التي اكتسب بها شارل مارتل سمعته الكبيرة في التاريخ الأوروبي باعتباره البطل الذي أوقف الزحف الإسلامي.

على أن بعض المستشرقين الفرنسيين، مثل جوستاف لوبون، تحسر بعد أكثر من ألف سنة على حصول هذه الهزيمة، وتمنى أن لو كان المسلمون قد حكموا فرنسا، يقول: "لنفرض جدلا أن النصارى عجزوا عن دحر العرب، وأن العرب وجدوا جو شمال فرنسا غير بارد ولا ممطر كجو إسبانيا، فطابت لهم الإقامة الدائمة به، فماذا كان يصيب أوربا؟ كان يصيب أوربا النصرانية المتبربرة مثل ما أصاب إسبانيا من الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدث في أوربا التي تكون قد هذبت ما حدث فيها من الكبائر كالحروب الدينية، وملحمة سان بارتملي، ومظالم محاكم التفتيش وكل ما لم يعرفه المسلمون من الوقائع الخطيرة التي ضرجت أوربا بالدماء عدة قرون"[1].

لكن هذا الرأي كان هو النشاز والشذوذ، فمنذ ذلك الوقت وكانت فرنسا رأس حربة في عموم تاريخ العلاقات الإسلامية الغربية، كما كانت أيضا رأس المبادرة في حركة الاستشراق التي هدفت إلى دراسة العالم الإسلامي وتقديم صورته للغربيين.

استهدف الاستشراق هدفيْن كبيريْن؛ الأول: دراسة أحوال المسلمين للاستفادة بما عندهم من النظم والعلوم بغرض الانتصار عليهم، والثاني: تقديم صورة المسلمين للشعوب الأوروبية التي كانت في ذلك الوقت غارقة في الجهل والظلام حتى إنه لم يكن يعرف القراءة والكتابة في عموم أوروبا في تلك العصور الوسطى سوى بعض الكهنة والأساقفة داخل الكنيسة.

كانت المجاورة بين فرنسا والأندلس من أهم العوامل التي ساعدت عددا من الفرنسيين على الاحتكاك بالحضارة الإسلامية والتعرف إليها عن قرب، كذلك فإن شمال فرنسا كان هو الموطن الأول الذي خرج منه النورمان، أولئك الذين سيطروا لفترات على إيطاليا وألمانيا، وأولئك هم الذين أنهوا الوجود الإسلامي في جزيرة صقلية بعد قرنين من الزمن، إلا أنهم –أي النورمان- انبهروا بالحضارة الإسلامية فكان بلاطهم عربيا وثيابهم عربية وتسمى ملوكهم بألقاب عربية مثل "الملك المعظم روجار المعتز بالله"، واستضافوا العلماء العرب كالأدريسي صاحب الخريطة المشهورة. ومع ذلك فإنهم اضطهدوا المسلمين وضيقوا عليهم في دينهم، حتى أفنوهم تماما في عهد فريدريك الثاني.

ومن فرنسا انطلقت الحروب الصليبية، التي هي أشهر الحوادث التاريخية في العلاقات الإسلامية الغربية، وكانت فرنسا المخزن الأكبر لإمداد الحروب الصليبية بالمال والرجال، وكان ملوك فرنسا وأمراؤها هم الأكثر حضورا وبروزا في سائر فصول الحروب الصليبية، حتى لقد عُرِف الصليبيون على اختلاف أعراقهم وبلادهم في الرواية الإسلامية بأنهم (الفرنجة).

وقد مثَّلت هذه الحقبة الصليبية المنفذ الأكبر لتعرف الفرنسيين –وسائر الغرب- على الإسلام وحضارته ونظمه وتقاليده، ولما فشلت الحملات الصليبية واستطاع المسلمون تحرير أراضيهم، بدأت محاولات دراسة التجربة من فرنسا، لتحديد أسباب الإخفاق وتحديد سبل العودة مرة أخرى إلى ديار المشرق.

وابتدأ الاستشراق على يد رجل فرنسي، هو البابا سلفستر الثاني، الذي درس في قرطبة وإشبيلية وفاس، وعرف علوم العرب، ثم تولى البابوية فأنشأ مدرستين للعلوم العربية، أحدهما في روما –مقر بابويته- والأخرى في موطنه: مدينة ريمس، ثم أضيف إليها مدرسة شارتر، فهو أول من يوصف بالمستشرق.

وأول معهد لدراسة اللغات الشرقية في أوروبا نشأ في جامعة فرنسا، أنشأه البابا هونوريوس الرابع (1285م)، وهذا قبل خمس وعشرين سنة من الانطلاقة الرسمية للاستشراق في مجمع فيينا الكنسي الذي أوصى بإنشاء كراسي للغات الشرقية (1311 – 1312هـ)، وهو المجمع الذي كان تحت إشراف البابا كليمنت (إكليمنص) الخامس، وهو فرنسي أيضا.

ومثلما كانت فرنسا صاحبة السبق في إنشاء كراسي للغات الشرقية، فقد سبقت إلى إنشاء كراسي للغة العربية على وجه الخصوص، لم يسبقها بذلك إلا إسبانيا التي أنشأت كرسيًا للغة العربية بعد مجمع فيينا في سالامانكا، أما فرنسا فقد أنشأ الملك فرانسوا الأول كرسيًا للغة العربية والعبرية في مدرسة ريمس عام 1519.

وحين بلغ الاستشراق نضوجه في القرن التاسع عشر، لم يكن ثمة مستشرق أكثر شهرة من الفرنسي سلفستر دو ساسي الذي يُعَدُّ عميد الاستشراق الأوروبي، وتلاميذه الألمان هم مؤسسوا المدرسة الاستشراقية الألمانية، وقد سخَّر هذا المستشرق إمكانياته لخدمة الاستعمار الفرنسي، وتذكر بعض المصادر أنه كان هو الذي ألقى خطاب القوات الفرنسية بعد احتلالها للجزائر، وقد روى رفاعة الطهطاوي –في تخليص الإبريز- قصة تدل على خبثه ومكره حيث استطاع خداع امرأة مسلمة حتى قبلت تنصير ولدها ثم ارتدت عن الإسلام. كما روى ما يدل على غزارة علمه وتمكنه واتساع معارفه[2].

وكان المستشرقون حاضرون في الموجة الثانية من الحروب الصليبية التي بدأت بالحملة الفرنسية على مصر (1798م) حيث لم يحضر نابليون إلا بناء على تقارير كتبها مستشرقون زاروا مصر واطلعوا على أحوالها، ثم لما حضر نابليون بجيوشه كان معه مجموعة من العلماء المستشرقين الذين فحصوا أحوال مصر فحصا عظيما دلَّت عليه موسوعتهم "وصف مصر"[3].

ولما أخفقت الحملة الفرنسية في السيطرة على مصر دخلت من الباب الخلفي حيث استطاعت فرنسا اكتشاف محمد علي باشا، وساهمت في تنصيبه واليا على مصر بدسائسها في مصر وفي الآستانة، فكان عهد محمد علي وأسرته عهد النفوذ الفرنسي في مصر، حيث افتتحت في مصر المدارس الفرنسية وجيئ بالقانون الفرنسي ليحكم المعاملات التجارية وغيرها من الأمور المدنية فيما سوى الأحوال الشخصية، وزادت البعثات إلى فرنسا، وكان مؤسس جيش محمد علي رجل فرنسي هو الجنرال سيف الذي ادعى الإسلام وتسمى باسم سليمان باشا الفرنساوي، وبقي النفوذ الفرنسي عظيما غالبا على مصر حتى جاء الاحتلال الإنجليزي الذي ما كان له أن يستقر لولا التمهيد الذي أحدثته أسرة محمد علي بتجريف وإبادة مقومات المجتمع المصري وكسر مواطن قوته وتحطيم موارده المعنوية.

ومع أن الإنجليز احتلوا مصر سبعين سنة فيما بعد، إلا أن اللغة المهيمنة على الطبقة الحاكمة والمترفة كانت هي اللغة الفرنسية.

وإذا كان هذا هو التأثير الفرنسي في بلد لم تحتله سوى ثلاث سنوات، فيمكن أن نتوقع –بل نحن نرى- كيف هو التأثير الفرنسي في الأقطار التي احتلتها سنينا وقرونا مثل المغرب العربي والدول الإفريقية، بل إن تركيا التي لم تقع تحت الاحتلال الفرنسي إنما وقعت عمليا تحت سطوتها الثقافية في أواخر العصر العثماني وفي عصر الاتحاد والترقي ثم في عصر الكمالية، وإلى الآن تزخر اللغة التركية الحديثة بالألفاظ الفرنسية.

كان الاستشراق الفرنسي هو الوجه العلمي للهيمنة الفرنسية، مثلما أن حركة الاستشراق كلها إنما هي وسيلة من وسائل الهيمنة الغربية، فالاستشراق –كما يقول إدوارد سعيد- هو "المؤسسة الجماعية للتعامل مع الشرق، والتعامل معه معناه التحدث عنه، واعتماد آراء معينة عنه، ووصفه، وتدريسه للطلاب، وتسوية الأوضاع فيه، والسيطرة عليه: وباختصار بصفة الاستشراق أسلوبا غربيا للهيمنة على الشرق وإعادة بنائه والتسلط عليه"[4].

ولقد اصطبغ الاستشراق بظروف نشأته التي كانت ردة فعل هوجاء غير عقلانية أمام التفوق الإسلامي، فتولى هو شيطنة المسلمين والتنفير منهم فيما يسميه د. محمد الشرقاوي بأنه أكبر عملية تزييف وعي في التاريخ الإنساني.

لم يتغير هذا الحال بعد نضوج الاستشراق واختلاط المستشرقين بالمسلمين في مرحلة ما قبل الاستعمار أو ما بعده، وإنما تحول دور الاستشراق ليكون التمهيد العلمي والبوابة الفكرية لإحكام الهيمنة على الشرق وإخضاعه، بالبحث عن ثغراته، وبتبرير العملية الاستعمارية وإعطائها شرعيتها ومسوغاتها. ذلك أنه لم يكن مجرد حركة علمية بحثية موضوعية، إنما هو وسيلة ضمن وسائل وأداة ضمن أدوات وجزء من الشبكة الاستعمارية نفسها، إن ثمة روابط قوية متماسكة بين الخطاب الاستشراقي "وبين المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمنحه القوة، وقدرته الفائقة على الاستمرار... إنه كيان له وجوده النظري والعملي، وقد أنشأه من أنشأه، واستُثْمِرَت فيه استثمارات مادية كبيرة على مرّ أجيال عديدة. وقد أدى استمرار الاستثمار إلى أن أصبح الاستشراق، باعتباره مذهبا معرفيا عن الشرق، شبكة مقبولة تسمح منافذها بتسريب صورة الشرق إلى وعي الغربيين، مثلما أدى تكاثر ذلك الاستمرار نفسه، بل وتحوله إلى مصدر حقيقي للإنتاج والكسب، إلى تكاثر الأقوال والأفكار التي تتسرب من الاستشراق إلى الثقافة العامة"[5].

تشبه هذه الحالة، مثلا، أن تكون الأفلام والمسلسلات المصرية هي الرافد الوحيد الذي يعطي صورة عن المجتمع المصري. إن الصورة التي تتكون عبر هذا الرافد تنتج بطبيعتها النفور من المجتمع المصري وازدراء أخلاقه واحتقار رجاله ونسائه، ولا يخفى على أحد أن الذي يزور مصر يجد صورة أخرى ومجتمعا آخر. هذا مع أن هذه الأفلام والمسلسلات إنما هي نتاج الطبقة النخبوية المصرية التي تتحكم في صناعة الصورة وتقديمها، وهي رؤية نخبوية تغريبية للمجتمع المصري. وإن مجتمعا يظهر بهذا القدر من الانحلال وفساد الأخلاق وانتشار العنف والجريمة فيه سيكون مقبولا أن يجري احتلاله واستعباده بدواعي التحضير والتحرير والترقية والتنظيم.

هذا هو الذي صنعه الاستشراق بصورة الأمة الإسلامية لدى الشعوب، وفَّر للاستعمار الصورة التي تبرر الاحتلال والتدمير وتشرعن الهيمنة عليه لضرورات التحرير والتحضير.

لم يمنع هذا التاريخ من العلاقات الفرنسية مع العالم الإسلامي أن يظهر في المستشرقين الفرنسيين من عرف الحقيقة أو بعضها، فبعضهم أسلموا مثل ناصر الدين آتييه وموريس بوكاي وبعضهم وقف موقفا منصفا من الإسلام وحضارته ومجتمعاته، مثل جوستاف لوبون ولويس سيديو ومارسيل بوازار وجاك ريسلر ودومينيك سورديل وبلاشير وإميل درمنجهم وغيرهم.

نشر في مجلة المجتمع الكويتية، أكتوبر 2020



[1] جوستاف لوبون، حضارة العرب، ص317.

[2] رفاعة الطهطاوي، تخليص الإبريز، ضمن: الأعمال الكاملة، 2/70، 2/103 وما بعدها.

[3] عن تاريخ الاستشراق الفرنسي، انظر: نجيب العقيقي، المستشرقون، 1/138 وما بعدها؛ يوهان فوك، تاريخ حركة الاستشراق، ص78 وما بعدها، 207 وما بعدها.

[4] إدوارد سعيد، الاستشراق ص45، 46.

[5] إدوارد سعيد، الاستشراق، ص50.

هناك 3 تعليقات:

  1. د. محمد ادريس6:22 م

    جزاكم الله خيرا أ.الهامي علي مقابله التدليس بالحقائق والتاريخ اعتمادا علي جهل شعوبهم بهذا التاريخ.فتلك شعوب تعودت ان تضع العطور الفواحة فقط لتطمس بها رائحة القاذورات التي تخرج من رؤوسها.

    ردحذف
  2. وقد روى رفاعة الطهطاوي –في تخليص الإبريز- قصة تدل على خبثه ومكره حيث استطاع خداع امرأة مسلمة حتى قبلت تنصير ولدها ثم ارتدت عن الإسلام. كما روى ما يدل على غزارة علمه وتمكنه واتساع معارفه

    ارجو التوضيح الوصلة [2] لا تعمل

    ردحذف
  3. غير معرف6:26 م

    مختصر محكم ومفيد...جزاكم الله خيرا ونفع بكم

    ردحذف