الجمعة، مارس 31، 2017

اجتماع الموتى في البحر الميت!

ترى لماذا استطاع العرب أن يجتمعوا اليوم عند البحر الميت، وهم أنفسهم من عجزوا أن يجتمعوا العام الماضي في الرباط؟ لماذا كانت الأحوال العربية العام الماضي –كما جاء في بيان المغرب- لا تسمح بعقد القمة، بينما اجتمعوا لها الآن؟

(1) موسم الهجرة إلى إسرائيل

لا أحسب إلا أن هذه القمة إنما هدفت إلى تغطية الانفتاح العربي على إسرائيل، وهو أمر أشبه بقص الشريط أو وضع "الختم العربي" على الملف الذي اكتمل بالفعل. إن عددا من الدول على رأسها السعودية ستفتح صفحة جديدة مع إسرائيل، وتريد من هذه القمة أن تكون تدشينا! وبعد السعودية ستهرول إلى "إعلان العلاقة" (لا إلى فتح العلاقة) دولٌ أخرى تريد أن يكفيها غيرها شعور الحرج الشعبي.

لم يكن الأمر جديدا على مستوى الواقع العملي وإنما هو خروج من حالة الإسرار والخفاء إلى حالة الإعلان مع التدثر بالمبادرة السعودية –التي سميت عربية- والتي وُلِدت ميتة قبل خمسة عشر عاما في قمة بيروت، وحينئذ كان عرفات محاصرا وكانت إسرائيل تجتاح جنين. صحيح أن المبادرة غطاء مهترئ كما يعرف الجميع لكن لا بأس به كلافتة تجعل الأمر يبدو طبيعيا لا جديد فيه.

لا يخفى على الجميع أن بيع جزيرتي تيران وصنافير معناه دخول السعودية إلى اتفاقية كامب ديفيد وتعداتها الأمنية، وهو ما تمّ وانتهى بالفعل، وما كان يُقال بالتحليل صار يقينا لا يدخله شك بعد التسريب الصوتي للمكالمة الهاتفية لوزير الخارجية المصري وهو يراجع بنود الاتفاقية مع المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلي، وهذا فضلا عن اللقاءات المعلنة لشخصيات غير رسمية سعودية إسرائيلية، أو اللقاءات غير الرسمية لمسؤولين على هامش اجتماعات أخرى.

هنا تلح على الذاكرة قصيدة العبقري أحمد مطر التي أنشأها قديما:

الثور فرّ من حظيرة البقر، الثور فرّ،
فثارت العجول في الحظيرة،
تبكي فرار قائد المسيرة،
وشكلت على الأثر،
محكمة ومؤتمر،
فقائل قال: قضاء وقدر،
وقائل: لقد كفر
وقائل: إلى سقـر،
وبعضهم قال امنحوه فرصة أخيرة،
لعله يعود للحظيرة؛
وفي ختام المؤتمر،
تقاسموا مربطه، وجمدوا شعيره
وبعد عام وقعت حادثة مثيرة
لم يرجع الثور، ولكن ذهبت وراءه الحظيرة..

(2) الإرهاب الإسلامي

يعتبر كارل شميت أن وظيفة السياسي هي "صناعة العدو"، وذلك أن النظام السياسي حين يتخذ له عدوًّا فإنه يبرر سائر المشكلات بتحميل مسؤوليتها له، فالعدو يعمل كمهدئ، ويصرف المسؤولية عن مستحقيها إلى نفسه، ويزيد من ارتباط الشعب والأواصر الاجتماعية! بعبارة أخرى يقول عالم الاجتماع الفرنسي الشهير: "حين يعاني المجتمع يشعر بالحاجة لأن يجد أحدا يمكنه أن يعزو إليه ألمه ويستطيع أن ينتقم لخيبات أمله"[1].

هكذا عاش الحكام العرب زمنا على عداوة إسرائيل، وهي عداوة معلنة، بينما الواقع أن سائر هذه الأنظمة إنما اكتسبت "شرعيتها الدولية" من قيامها بواجب حماية ودعم إسرائيل، وليس سرًّا أن إسرائيل كانت باب العديد منهم إلى الأمريكان. إلا أن العداوة المعلنة كانت المبرر للبقاء في الحكم على جثث الملايين وعلى حساب موارد الشعوب والأجيال القادمة.

وحيث سيتحول العداء إلى غير إسرائيل، فقد شهدت كلمات القمة تدشينا للحرب على العدو الجديد: "الإرهاب الإسلامي"، حيث حفلت كلمات القمة بالتحذير من خطر "الإرهاب" و"الإرهابيين"، فمن لم يكن يقتل بيده  أو بيد حلفائه الأجانب كما في العراق ومصر وسوريا وليبيا واليمن فإنه يدعم من قريب ومن بعيد بالمال والإعلام.

وهكذا يتخلص النظام العربي من ازدواجيته بين العمل والشعار، ليصير العدو عدوا معلنا والصديق صديقا معلنا كذلك. ومن المثير أن أول من أعلن هذا كان رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه الذي قال ولم يُخف دهشته: "لأول مرة في حياتي وفي حياة إسرائيل، لا تنظر الدول العربية إلينا كعدو، بل ترى فينا حليفا ضد عدو مشترك". ولما سُئل في نفس هذه الزيارة: مَن مِن العرب الذين يعنيهم، أجاب قائلا: السؤال الأصح: من من العرب ليسوا كذلك!

(3) مفارقات القمة

صنعت مفارقة انعقاد القمة العربية في مدينة "البحر الميت" مادة ممتازة للسخرية الشعبية، لقد اعتاد الساخرون الحديث عن أن القمة مجرد "اجتماع سنوي لدار العجزة"، وأنها مؤتمر مبتكر لمرضى الشيخوخة حيث جرى انتقاء أبرز أنواع المرضى كي يتابعه الأطباء عبر الشاشات بدلا من انعقاد مؤتمر للأطباء أنفسهم، ولم يحدث مرة أن حرمتنا القمة العربية من مشهد كوميدي كرئيس ينام، وآخر يتعثر، وثالث يخطئ خطئا غريبا، ورابع يتشاجر مع خامس. في هذه المرة "اجتمع الموتى في البحر الميت"!

من آثار الشيخوخة العامة كذلك أن لا أحد منهم يكاد يُبين، تسقط الكلمات من لسانه، تتوه من بين أسنانه، تهرب مع اضطراب شفتيه. ثم إنه لا يكاد أحد منهم يجيد الكلام باللغة العربية، بما فيهم الأمين العام العربي العَيِيّ اللسان الركيك البيان!

ولم يغب عن المفارقات رسالة شاردة، خارج الزمن، كأنها كتبت قبل زمن الثورات العربية، بعث بها مكتب الإخوان المسلمين في لندن، ينادي فيها أولئك "أصحابَ الفخامة والجلالة والسمو ملوك ورؤساء وأمراء الدول العربية"، ثم احتوت الرسالة لأول مرة على كلمة "دولة إسرائيل"، توقع كثيرون لأول وهلة أن الرسالة مكذوبة حتى ثبتت صحتها. هنا يبدو المشهد مثيرا للشفقة فوق كونه إثارة للسخرية، فعلى المسرح يعرف الممثلون أنهم يقومون بدور مكتوب لهم، ويتعامل جميع المشاهدين على هذا الأساس. بدت رسالة مكتب الإخوان في لندن كأن مشاهدا صدَّق المسرحية وهب من مقعده محاولا تقديم نصيحة للممثلين على المسرح! ضحك الجميع من فرط الدهشة، لكنه ظل مندهشا من دهشتهم، لا يدري لم ضحكوا، فقد أراد لهم الخير!! ما أشبه عواجيز الحركات المعارضة المدجنة بعواجيز القمة العربية.

(4) متى تكون القمة العربية حلا؟!

بينما القمة العربية منعقدة، كانت رصاصة إسرائيلية تحيل حياة امرأة فلسطينية إلى شهيدة على بُعد كيلومترات معدودة من موقع القمة، فلا القمة بلغها حال المرأة ولا المرأة انتفعت بانعقاد القمة. وكما لاحظ صديق بحق: ترى لو كانت إسرائيل تعلم أن لدى هؤلاء نية حقيقة لحل القضية الفلسطينية، ألم تكن لتخرج طائرة فتقصفهم في مكانهم؟!
ثمة حالة وحيدة يمكن أن تكون القمة العربية فيها حلا حقيقيا للوضع العربي، تلك الحالة صاغها أحمد مطر عندما قال:

أنا لو كنت رئيسا عربيا، لحللت المشكلة..
وأرحت الشعب مما أثقله..
أنا لو كنت رئيسا.. لدعوتُ الرؤساء..
ولألقيت خطابا موجزا عما يعاني شعبنا منه..
وعن سر العناء..
ولقاطعتُ جميع الأسئلة..
وقرأت البسملة..
وعليهم وعلى نفسي قذفت القنبلة..




[1] انظر: بيار كونيسا، صنع العدو: أو كيف تقتل بضمير مرتاح، ترجمة: نبيل عجان، ط1 (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مايو 2015)، ص29 وما بعدها، 36.

الأربعاء، مارس 29، 2017

من الموصل إلى الرباط.. هل انهارت الأحلام الإسلامية؟

بينما يُحاصر تنظيم الدولة الإسلامية في عاصمته "الموصل" بعد انهيار سائر المدن التي سيطر عليها في العراق، يتلقى عبد الإله بن كيران إقالة مهينة من الملك المغربي بعد فشله في تشكيل الحكومة، وهو الفشل الذي يعلم الجميع أنه إنما كان بسببٍ من الملك نفسه عبر الأحزاب المرتبطة به.

وما بين التجربتين أطياف أخرى من التجارب المتعثرة تبدأ من أقصى اليمين عند التيار الجهادي الذي ذروته تنظيم الدولة الإسلامية، ومرورا بأطياف التيار الإخواني الذي ينتهي عند الغنوشي وبن كيران، وفي الخلفية تيارات سلفية اعتزلت السياسة أو مدخلية جعلت من نفسها عملاء بلا أجر للأنظمة الحاكمة.

وهنا يبدأ السؤال المتكرر عند كل تجربة فاشلة: أين يكون الحل؟ فلا حمل السلاح أفضى إلى المطلوب كما في العراق وسوريا وليبيا، ولا الثورات السلمية كما في مصر واليمن، ولا التماهي مع الأنظمة الحاكمة كما في الأردن وتونس والجزائر والمغرب.

وأصعب من الإجابة عن سؤال كهذا أن نتفق على بعض الأمور التي يمكن أن نجعلها معيارا نقيس به هذه التجارب، هذه السطور ليست إلا محاولة للإشارة إلى بعض هذه النقاط، وقد وصل بي اجتهادي إلى أنها خمسة نقاط:

(1) قيمة الاعتراف بالفشل

أقصى وأقسى ضربة يمكن أن تضيع بها دروس أي تجربة أن يصر أصحابها أنهم لم يفشلوا، يفعل هذا المتعصبون لجماعتهم وحزبهم تماما مثلما يفعلها القادة الذين فشلوا. صحيح أن شعور الفشل مرير لا يحب أي إنسان أن يذوقه، لكن اللحظة التي لا نعترف فيها بالفشل هي ذاته اللحظة التي يبدأ فيها تزوير المعاني وإفساد الحقائق، فالحركة التغييرية الثورية إذا فشلت في التغيير فسوَّقت لنفسها وأنصارها أنها لم تفشل فإنما تبدأ في هذه اللحظة كجماعة علمية أو دعوية فقط، هنا تتغير وجهتها وهدفها ونمط حركتها وتطمس ما في أدبياتها من ثورية وتغيير وتعيد صناعة جلدها الجديد، فمن هنا تبدأ رحلة طويلة من تزوير المعاني والحقائق والتاريخ فقط لتنجو من الاعتراف بالفشل، ولربما عاشت أجيال بل ماتت وهلكت أجيال جرَّاء هذا التزييف.

لا يعجز أحد عن صناعة المبررات، وحتى الخونة لديهم منطقهم في ارتكابهم للخيانة، واللحظة التي تختل فيها معايير القياس فيُسَوَّق الفشل على أنه نجاح هي لحظة الضلال الكبير، وفي مثل هذه اللحظة تكثر الحاجة إلى المثقفين والفلاسفة وأصحاب القلم، أولئك الذين لديهم القدرة على قلب الحق باطلا. كان عبد الناصر يحتاج إلى هيكل لتحويل لحظة النكبة الكبرى إلى مجرد "نكسة"، وفي حاجة إلى أحمد سعيد لتحويل "النكسة" إلى انتصار باعتبار أن إسرائيل لم تستطع إسقاط الزعيم، وطالما بقي الزعيم فقد انتصرنا.

في الحركات الإسلامية أيضا أمثال هيكل وأحمد سعيد، أولئك الذين يسوِّقون عودة تونس للنظام القديم على أنه حكمة غنوشية، ويسوقون امتصاص ملك المغرب لإرهاصات الثورة واحتوائها بالإسلاميين على أنه حكمة بنكيرانية، تماما مثلما سوَّقوا قديما لحكمة محفوظ نحناح الذي كان إلى جانب الانقلاب العسكري في الجزائر على جبهة الإنقاذ الإسلامية، وسارت الأيام تحكي تجربة مغاربية مختلفة ومتفردة ومتميزة عن تجربة المشرق، ولم يكن الأمر سوى أن الحركات الإسلامية ألقت بنفسها في حضن الأنظمة العلمانية، واتخذتها تلك الأنظمة زخرفا وزينة لا أكثر، فخسر الإسلاميون رسالتهم ووجهتهم وثوريتهم وكسبت الأنظمة كل الأوراق.

ما إن يسمع أصدقائي المغاربيين مثل هذا مني حتى يقولون: كسبنا حقن الدماء، وكنا أفضل من مصر. وأرد مكررا: في مصر كان صمود مرسي هو السبب في بقاء الانقلاب انقلابا مجرما وبقائه رئيسا شرعيا، ومجرد وضوح الحق من الباطل مكسب عظيم، أما أنتم فسلَّمتم الثورة إلى الأنظمة ففازت الأنظمة نفسها بالبلاد بشرعية كاملة. لا يزال السيسي حتى الآن يخطب ويحاول تبرئة نفسه من الخيانة والانقلاب، بينما لا يرى السبسي أنه ناقص الشرعية ولا بقلامة ظفر.

يستطيع الجميع أن يحقن الدماء، الانسحاب خيار يملكه الجميع، وقد قيل بحق: أسرع وسيلة لإنهاء الحرب الانسحاب منها. ولو كان حقن الدماء مكسبا يُراعى في الصراعات الحضارية لكان أولى الناس بالإدانة المجاهدون في كل مكان وعلى رأسهم أحمد ياسين وعمر المختار والبشير الإبراهيمي وعبد الكريم الخطابي وغيرهم. ولو كان الخلاف بين الشعوب والأنظمة خلافا بسيطا لما استحق أن تندلع له ثورات ينزل فيها من يبذل دمه راضيا ولا استحق أن تستخدم الأنظمة كافة ما لديها من آلة عسكرية لسحق الثورة ولو بهدم البلاد وقتل ملايين العباد.

نحتاج قبل كل شيء أن نعترف إذا فشلنا، فإن المكابرة ضلال وتضييع للأجيال. وقد تعلمنا في الكتاتيب قديما أن صاحب المعصية خير من صاحب البدعة، فالأول معترف بخطئه، وأما الثاني فيرى خطأه تجديدا في الدين!

(2) المرض في حالة متأخرة

إننا أمة مستضعفة، نرزح منذ قرن على الأقل تحت الاحتلال وعملاء الاحتلال، لا يكاد يوجد في عالمنا المعاصر من وصل إلى الحكم بغير ترتيب أو إذن المحتلين. نحن تحت احتلال متعدد الطبقات، الطبقة الأولى منه أناس من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، يدعمهم المحتل لإطالة بقائهم فوق رؤوسنا وذلك لكفاءتهم في تعبيدنا له ولمصالحه. وقد أثمر طول هذا الوقت شبكات من المصالح والنظم والعائلات ممن انتفع بهذا الوضع، فصارت محاولات تغييره تصطدم بمصالح الكثيرين ممن يلتصقون بالأنظمة الحاكمة. وقد أنتج كل هذا فارقا هائلا في القوى لا يزال يتسع باضطراد بين قوة الأمة وقوة عدوها.

وفي ظل هذا الوضع يُعدُّ من الطبيعي أن نجرب كثيرا من محاولات الفشل قبل الوصول إلى النجاح، إن المعركة بطبيعتها طويلة ومرهقة، وما من محاولة فاشلة إلا وهي لبنة في طريق النجاح شرط أن نتعلم منها، فإن لم نتعلم فلسنا من أهل الإيمان الذين وصفهم قائدهم بقوله "لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين".

ونعم! إن الفارق بيننا وبين العدو هائل كبير، ولكن كل تجربة فاشلة كان سبب فشلها الرئيسي من أنفسنا (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير).. لكن يجب أن نعلم في النهاية أن معركة الأمة مع الاستبداد والاحتلال هي معركة طويلة لن تخلو أبدا من هزائم وعثرات ومحاولات فاشلة أو غير مكتملة.

(3) القوة والسياسة معًا

لا تحسم المعارك الحضارية بمجرد السياسة ومهارات التفاوض، تلك سيرة الدنيا وقصة التاريخ، ليس ثمة أمة أو حضارة قبلت الاستسلام والذوبان والخضوع لأمة أو حضارة أخرى بمجرد التفاوض والإقناع، ولو كان الأمر هكذا لكان أولى الناس بالنجاح الأنبياء، فهم أكمل البشر نفسا وعقلا وروحا، ومعهم الحق الخالص من السماء، ومع هذا احتاج الأنبياء لحمل السيف والجهاد في سبيل الحق، فمنهم من قُتِل ومنهم من أصيب، ولقد أصيب نبينا وسال دمه الشريف وهو يجاهد، ثم جاهد صحابته من بعده حتى بلغ الدنيا أقصى الشرق والغرب. ومن هنا يبدو بائسا مثيرا للشفقة والسخرية ذلك المنهج الذي يحصر نفسه في الدعوة والتربية والتعليم والإصلاح متوهما أنه يبلغ بذلك غايته في التغيير.

وفي نفس الوقت لا تحسم المعارك أيضا بمجرد القوة والسيف والسلاح، بل لقد احتاج أقوى حكام التاريخ إلى السياسة والتفاوض والسفارة وتحييد الأعداء، ولقد امتن الله على سليمان –أقوى ملك في التاريخ- أنه كان يُفهِّمه {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}، فانظر كيف لمن سخر الله له الريح والجن والطير يكون له سفارة ويبدأ بالرسائل ويستعمل الحرب النفسية والإقناع حتى يصل إلى غايته بغير حرب، ولقد امتن الله على يوسف وهو الذي تحت يده أموال خزائن الأرض بأنه {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}، وكذلك امتن على يوسف المضروب به مثل في القوة والهيبة بأنه {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}. ولقد سمَّى الله اتفاقية صلح الحديبية بـ "الفتح المبين" وليس فيها من مكسب –بالاصطلاح السياسي المعاصر- إلا أنها اعتراف إقليمي بالدولة الإسلامية.

لقد كانت التجارب الفاشلة واحدا من اثنتين: قوة تهمل السياسة أو سياسة تهمل القوة.

فهذا تنظيم الدولة كنموذج القوة التي تهمل السياسة، يُفترض أن يشعل المعركة مع نظام بغداد، فإذا به يتمدد إلى سوريا ويشعل معركته مع الأكراد والأتراك والمقاتلين بل والإسلاميين والجهاديين، فضلا عن التمدد إلى أوروبا والسعودية وأفغانستان. فهيَّج عليه الهائج والساكن، وصاحب العداوة الأصيلة ومن يدفعه عن نفسه، وها هو الآن يُقاتَل في عاصمته من بعد انسحابات متكررة من المدن والقرى والأنحاء.

وهذا تنظيم الإخوان في مصر، وإن أردت في أي بلد آخر فالخلاف ليس بعيدا، يسعى بالسياسة ويسحب الذرائع ويفوت الفرص ولا يُقدِم نحو المصلحة "كي لا يُقال كذا"، حتى بلغ حالا مريعا، فإذا به أضعف ما يكون أمام أي نظام، فإما احتواه وقبل به زخرفا وزينة في منظومة حكم بلا صلاحيات، وإما انقلب عليه وسفك دمه وحاكمه بتهمة الإرهاب! وإما تركه ضمن المساحة المحصورة المحدودة لا يخرج منها إلا بإذن ولا يملك لنفسه حتى ضمان استمرار هذه المساحة!

ولا يزال النموذجان اللذان يمكن ضرب المثل بنجاحهما حتى الآن هما نموذج أردوغان في تركيا وحماس في غزة، وكلاهما يبدو واضحا فيهما المزاوجة بين القوة والسياسة.


بقيت نقطتان أخريان، نرجئهما بإذن الله إلى المقال القادم.. فالله المستعان.

الجمعة، مارس 24، 2017

بعض ما لا يُقال عن ثورة 1919

يبدو شهر مارس مكنوزا بالمناسبات الثورية، ففيه توفي ثائر الشرق الكبير جمال الدين الأفغاني، وفيه توفي الشيخ الثائر المجاهد صاحب الإنتاج الواسع عند "جند الله" تخطيطا وتنظيما وأخلاقا وثقافة وتربية، ويُقال إن له كتابا لم يطبع وهو "جند الله تنفيذا"، ذلك هو الشيخ سعيد حوى، وفيه توفي الشيخ الثائر الأديب وإن كان في غير زمن ثورة، أعني: الشيخ محمد الغزالي.. ومناسبات أخرى!

لكننا سنختار منها في سطورنا هذه ثورة 1919 التي اشتعلت في شهر مارس من ذلك العام، وكانت واحدة من أقوى ثورات الشعب المصري ضد الاحتلال الإنجليزي، ولكنها للأسف الشديد لم تكتمل، إذ احتواها الإنجليز بالإصلاحيين القانونيين السلميين (وهذا إن أحسنَّا بهم الظن)، حيث منحوهم منصب الحكومة منزوعة الصلاحيات، وأدخلوهم في متاهات التفاوض، حتى بردت الثورة وأمكن السيطرة عليها بتفويت اللحظة الفارقة.

لا يتسع المقام لتأريخ للثورة، وإنما نشير هنا إشارات سريعة إلى أمور لا تُحكى عادة عن هذه الثورة، بغية المساهمة في توضيح الصورة التي أريد تغييبها عن عقل الشعب المصري.

(1) حيوية الإسلام

عشية الثورة كان الاحتلال الإنجليزي قد أكمل في مصر سبعة وثلاثين عاما، أي أن مسار العلمنة والتغريب قد استكمل مساره وآتى ثماره، فلقد نجح الاحتلال الإنجليزي في تصفية دور الأزهر الذي لم يستطع إخراج زعامات تقود الثورة وتحرك الجماهير، لكن المفاجأة التي كانت بانتظاره أن المقاومة اشتعلت وقادها أناس من طبقة "الأفندية" التي تعلمت في المدارس والجامعات الغربية أو التي أنشئت على النمط الغربي، أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد وفي مرحلة لاحقة حسن البنا. لقد أخرجت ذات المؤسسات التي أريد لها علمنة الجماهير قيادات المعارضة والثورة
يقول المؤرخ الأمريكي تيموثي ميتشل: "لكن عملية الاستعمار هذه لم تنجح تماما أبدا. فدائما ما كانت تبقى مناطق مقاومة وأصوات رفض. وأكثر من ذلك فإن المدارس والجامعات والصحافة، مثل الثكنات العسكرية، كانت عرضة دائما لأن تصبح مراكز لنوع من أنواع التمرد، مُحَوِّلة مناهج المستعمرين في التدريب والانضباط إلى وسائل للمعارضة المنظمة. ومن هنا ظهور حركات سياسية انضباطية معارضة للاحتلال الأوروبي بعد الحرب العالمية الأولى، مثل الإخوان المسلمين في مصر، التي كان زعماؤها كلهم تقريبا من معلمي المدارس"[1].

(2) المقاومة السرية للحزب الوطني

لا ينبغي البدء في النظر إلى ثورة 1919 من لحظة تأسيس الوفد، إن هذه النظرة تحذف نضالا طويلا بدأه الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل ثم محمد فريد. كان مصطفى كامل قد تشرب المبادئ الثورية من عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية المهزومة في نهاية القرن التاسع عشر.

ترسم مناهج التعليم المصرية صورة لمصطفى كامل ومحمد فريد باعتبارهما زعيميْن سياسييْن يعتمدان الطرق السلمية "المشروعة" ويثيران المقاومة الإعلامية والخطابية، بينما تضرب صفحا عن الكفاح السري المسلح والتنظيمات والجمعيات التي نشطت حتى بلغت ذروة منحناها في مطلع العقد الثاني من القرن العشرين، حيث نفذت اغتيال الوزير الخائن بطرس غالي (1910) وجرت ثلاث محاولات لاغتيال السلطان حسين كامل، وأكثر من محاولة لاغتيال الخديوي عباس حلمي الثاني، فضلا عن استهداف الإنجليز، وقد كشفت التحقيقات التي قامت بها أجهزة الأمن عند اغتيال بطرس غالي عن 85 تنظيما سريا.

ومن يطالع عبارات وموضوعات صحيفة "اللواء" الناطقة بلسان الحزب الوطني يجدها تصل أحيانا إلى نشر طريقة صنع المتفجرات، وشرح التجارب الثورية ضد الاحتلال في البلدان الأخرى، وتكشف بعض الدراسات[2] عن أن مصطفى كامل كان يتخذ اسما حركيا هو "أبو الفدا" ضمن إجراءات كثيرة لضم وتوحيد التنظيمات العاملة ضد الاحتلال[3].

(3) فكرة تأليف الوفد

لم تكن فكرة تأليف الوفد من بنات أفكار سعد زغلول، باعتراف سعد زغلول نفسه في مذكراته، وإنما كانت من أفكار الأمير عمر طوسون، إلا أن عددا من العوامل جعلها تتدحرج لتقع في حجر سعد زغلول.

كان الأمير عمر طوسون معروفا بعدائه للإنجليز وعلاقته القوية بالدولة العثمانية، بينما كان سعد زغلول من رجال الإنجليز حيث تولى وزارتين لهم وكانت علاقته ممتازة باللورد كرومر حيث أقام له حفل وداع حين اضطر إلى مغادرة مصر عقب الحملة الهائلة التي شنها مصطفى كامل بُعيْد حادثة دنشواي، وكان سعد يضع صورة كرومر خلفه وله في الثناء عليه عبارات كثيرة لا تزال منشورة في مذكراته. ولما جرى التفكير في تشكيل وفد يعرض المسألة المصرية بمؤتمر الصلح عقب الحرب العالمية الأولى كان أساس ذلك هو الوعد الذي أعلنه الرئيس الأمريكي ويلسون بمنح الشعوب حريتها، ومن ثَمَّ اتجه التفكير إلى زيارة القنصل الأمريكي في مصر لتسهيل حضور مؤتمر الصلح إلا أن القنصل فاجأهم بأنه من غير الممكن أن يطرخ المصريون قضيتهم بنفسهم، فإما أن يتفاهموا مع الإنجليز أو يجعلوا قضيتهم بيد الدولة العثمانية على اعتبار أن مصر، من الوجهة القانونية وقبل إعلان الحماية البريطانية، إنما كانت تابعة لها.

وهكذا استبعد سعد زغلول ومن معه الأميرَ عمر طوسون من الوفد لما بينه وبين الإنجليز من العداوة، وذهبوا باتجاه التفاهم مع الإنجليز، ثم إن الميول الإسلامية العثمانية للأمير تتناقض مع الميول العلمانية لسعد وصحبه. وبذلك صعد سعد على فكرة لم يكن صاحبها[4].

(3) فشل الليبراليين

انتهت الثورة التي كانت تهتف "الاستقلال التام أو الموت الزؤام" إلى نتائج هزيلة بفعل الوفد الذي مثَّل قيادة لم تكن أبدا على مستوى اللحظة (كما يرى من يحبون أن يحسنوا بهم الظن) أو كانت وسيلة احتواء (كما يذهب آخرون، وهو ما نرجحه)، إذ لم يتحصل المصريون إلا على استقلال شكلي ودستور يعطي الملك صلاحيات واسعة على حساب الحكومة، ثم استعمل سعد زغلول ما اجتمع له من الطاقات والتنظيم في السيطرة على العمال والطلاب عبر سكرتير الوفد وأمين التنظيم عبد الرحمن فهمي، واستمرت المفاوضات ثلاثين سنة أخرى دون أن تفضي إلى الاستقلال.

هذه الثلاثون عاما تعرف بأنها الحقبة الليبرالية في مصر، وخلاصتها هي ما أوجزه المؤرخ الأمريكي إيرا م. لابيدوس بهذه الفقرة:

"ولجت مصر باب حقبة استقلالها الزائف أو الناقص مع كل العدة اللازمة لأي دولة قومية. كانت متمتعة بكتلة سكانية موحدة، وبتاريخ حكومة ممركزة، وطبقة مثقفين متغربنة ملتزمة بالنظام الدستوري الليبرالي. تمثلت المشكلات الرئيسة المنتصبة في وجه البلاد بنيْل الاستقلال الكامل، وبالتصدي للمستوى المتدني للمعيشة وضرورة التنمية الاقتصادية، وباجتراح هوية ثقافية وعقدية (أيديولوجية) حديثة. من أكثرية النواحي، أخفق النظام الليبرالي؛ أخفق في الفوز بالاستقلال الناجز وفي تحقيق تنمية اقتصادية مناسبة وعادلة أو في توفير هوية ثقافية راسخة"[5].

أما فصول الثورة وكيف جرى احتواؤها وتفريغها من عنفوانها الشديد، فلعله يكون في مقال قادم بإذن الله تعالى.






[1] تيموثي ميتشيل، استعمار مصر، ترجمة: بشير السباعي وأحمد حسان، ط1 (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2013)، ص273.
[2] أفرد د. عصام ضياء الدين السيد هذا الموضوع بدراسة تحت عنوان "الحزب الوطني والنضال السري 1907 – 1915"، وصدرت عام 1987 عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب".
[3] انظر: د. محمد مورو، تاريخ مصر الحديث: من الحملة الفرنسية إلى ثورة 1952، ص442 وما بعدها.
[4] انظر: د. عبد العظيم رمضان، تطور الحركة الوطنية في مصر 1918 – 1936: الجزء الأول، ط3 (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998)، ص82 وما بعدها.
[5] إيرا م. لابيدوس، تاريخ المجتمعات الإسلامية، ترجمة: فاضل جكتر، ط2 (بيروت: دار الكتاب العربي، 2011)، 2/852.

الأربعاء، مارس 22، 2017

هذا جمال غير مسبوق!

لا نعلم في التاريخ أمة كان لها حسٌّ مرهف في الجمال كما كان للحضارة الإسلامية، والحديث عن هذا يطول تشهد به فنون العمارة كما تشهد به ملايين المساحات المتنوعة من الزخارف، وحضارتنا هي الوحيدة التي جعلت الخط العربي مادة ثرية للزخرفة والزينة، وهو ابتكار غير مسبوق، ومع هذا فحديثنا اليوم عن موضوع جديد لم أعرف أن أحدا ركّز عليه وتناوله، ذلك هو اختيارهم المرهف الرقيق لعناوين الكتب.

فمهما يكون موضوع الكتاب جافا أو ثقيلا أو مغرقا في الجدية فإن العالِم المسلم كان حريصا على اختيار عنوان لذيذ يجعله رقيقا محببا مقربا إلى النفوس!

الجِناس المُطرب

أقل ما نجد من أنواع الجمال في عناوين الكتب أن يكون لها جرس موسيقي من أثر الجِناس، والجِناس كما هو معروف يعني تشابه الحروف الأخيرة، فذلك هو الجناس الناقص، فإن كان الجِناس تامًّا فهو أن تتشابه الكلمتان ولكن يختلف معناها. وهكذا تجد الأذن لذة في سماع العنوان وتأمل معناه.

فمن أمثلة الجناس الناقص: (الاقتصاد.. في الاعتقاد) للغزالي، و(فتح الباري.. شرح صحيح البخاري) لابن حجر، و(زاد المعاد.. في هَدْي خير العباد) لابن القيم، و(بداية المجتهد.. ونهاية المقتصد) لابن رشد، و(البيان المُغرب.. في أخبار الأندلس والمَغرب) لابن عذارى. ومن أمثلة الجناس التام، كتاب ابن العماد الحنبلي في تاريخه (شذرات الذهب.. في أخبارِ مَنْ ذهب).

ظلالٌ وثمار

كان سيد قطب متأثرا بأجداده الأقدمين حين جعل عنوان تفسيره (في ظلال القرآن)، لقد سبقه إلى هذا كثيرون جعلوا كتبهم حدائق وأشجار، كالنووي الذي كتب في السنة (رياض الصالحين.. من كلام خير المرسلين)، ومغلطاي بن قليج الذي جعل السيرة روضا (الروض الباسم.. في سيرة أبي القاسم)، والسيوطي الذي جعل سيرة الصديق هكذا (الروض الأنيق.. في سيرة الصديق)، وابن جماعة الذي جعل علوم الحديث منهلا رويًّا فكتب (المنهل الرويّ.. في علوم الحديث النبوي)، والمقري الذي كتب تاريخ الأندلس فجعله رائحة غصن ناضر وسمَّاه (نفح الطيب.. من غصن الأندلس الرطيب)، وأبو شامة الذي جعل تاريخ نور الدين وصلاح الدين روضتين في (الروضتيْن.. في أخبار الدولتيْن)، وابن أبي زرع الذي جعل تاريخه (أزهار البستان.. في أخبار الزمان)، والحميري الذي جعل رحلاته ومشاهد الأرض (الروض المعطار.. في خبر الأقطار)، وابن غازي الذي كتب تاريخه كأنه (الروض الهتون.. في أخبار مكناسة الزيتون)، وابن إياس الذي جعل تايخه زهورا وسمَّاه (بدائع الزهور.. في وقائع الدهور)، وابن كنان الذي كتب عن الرسوم السلطانية (البروتوكول) فكان كتابه (حدائق الياسمين.. في قوانين الخلفاء والسلاطين).

وكتب ابن حبان في الرقائق (روضة العقلاء.. ونزهة الفضلاء)، ومثله كتب ابن الجوزي في الوعظ (بستان الواعظين.. ورياض السامعين)، ومثلهما كتب ابن القيم (روضة المحبين.. ونزهة المشتاقين).

شموسٌ وأقمار

يمكنك أن تدخل مكتبة تراثية فتفاجأ بأنك على الحقيقة قد بدأت رحلة في السماء، بين الشموس والأقمار والنجوم والكواكب؛ فإنك عند التفسير وعلوم القرآن تجد سراج الدين النشار يشرح لك القراءات تحت عنوان (البدور الزاهرة.. في القراءت العشر المتواترة)، فإن ذهبت إلى الحديث رأيت (البدر المنير.. في تخرج أحاديث الشرح الكبير) لابن الملقن، فإذا وصلت إلى الأصول شاهدت (الأنجم الزاهرات.. على حل ألفاظ الورقات) للمارديني، فإن كنت عند التاريخ طالعتَ (النجوم الزاهرة.. في أخبار ملوك مصر والقاهرة) لابن تغري بردي، فإذا ذهبت إلى الأدب طلع عليك (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) للقلقشندي، فإن كنت عند كتب الزهد والرقائق طلعت عليك (البدور السافرة.. في أمور الآخرة) للسيوطي.

بحار وأنهار

ويمكن لرحلتك العلمية أن تكون في الماء، بين البحار والأنهار، فدارس الفقه الحنفي ينهل من (البحر الرائق.. شرح كنز الدقائق) لابن نجيم، ولما أراد الفقيه الحنفي إبراهيم الحلبي أن يجمع خلاصة المذهب في كتاب واحد سمَّاه (ملتقى الأبْحُر) حيث تلتقي فيه بحار العلم المتفرقة في المذهب، ثم جاء فقيه حنفي آخر يلقب بشيخ زاده فشرح الكتاب فجعل العنوان (مَجْمَع الأنهر.. شرح مُلتقى الأبحر). وأما الدارس لفقه الدليل عند الشوكاني فسيجد نفسه يتابع (السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار). وأما دارس التاريخ فيجد نفسه أمام (المنهل الصافي.. والمستوفى بعد الوافي) لابن تغري بردي،

كنوزٌ  وجواهر

أحيانا يدخل بك المؤلف مغارات الكنوز ويفتح لك صناديق الجواهر ويغوص بك البحار ليأتيك باللآلئ، فكأن الكتاب كنزٌ متألق.. هكذا صنع الثعالبي الذي سمَّى تفسيره (الجواهر الحسان.. في تفسير القرآن)، والسيوطي الذي سمَّى تفسيره (الدُّرُّ المنثور.. في التفسير بالمأثور)، ورأى السيوطي أنه يهدي الأمة كنزا حين يكشف لها الأحاديث المكذوبة على النبي فقدَّمه بعنوان (اللآلئ المصنوعة.. في الأحاديث الموضوعة)، ورأى الغزالي أن يهدي الملوك نصيحة فسمَّاها (التِّبْر –أي: الذهب- المسبوك.. في نصيحة الملوك)، وأما المسعودي فقد جعل التاريخ والرحلات أودية من الذهب في كتابه (مروج الذهب ومعادن الجوهر)، وكتب الداوداري تاريخا فجعل له عنوانا فاخرا هو (كنز الدُّرَر وجامع الغُرَر)، وأرَّخ ابن حجر لعلماء زمانه فجعل كتابه (الدُّرر الكامنة.. في أعيان المائة الثامنة)، وختم المسيرة محمد فؤاد عبد الباقي الذي قدَّم كنزه من الأحاديث التي هي في أعلى درجات الثقة بكتابه (اللؤلؤ والمرجان.. فيما اتفق عليه الشيخان).

هدايا أخرى

ربما كانت الهدية أقل من كنز حافل بالجواهر والدرر، ربما تكون تحفة نادرة كما فعل المباركفوري في (تحفة الأحوذي.. شرح جامع الترمذي)، أو ربما صناعة متقنة بديعة كما فعل الكاساني في كتابه الفقهي (بدائع الصنائع.. في ترتيب الشرائع)، أو ربما زخرفة وحُلية ثمينة كما فعل ابن حزم في كتابه (المُحَلَّى بالآثار.. شرح المُجَلَّى بالاختصار)، أو ربما أنيسا لطيفا ظريفا كما جعله ابن أبي زرع في كتابه (الأنيس المطرب بروض القرطاس.. في ذكر ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس).

وأحيانا تكون الهدية دواء وشفاء وهداية ، كما فعل القاضي عياض بكتابه (الشفا.. بالتعريف بحقوق المصطفى)، ومثله ابن القيم في كتابه (الجواب الكافي.. لمن سأل عن الدواء الشافي)، وكتابه الآخر (هداية الحيارى.. في أجوبة اليهود والنصارى).

العقد الفريد


ونختم المقال بهذا الكتاب الشهير لأديب الأندلس ابن عبد ربه، وهو (العقد الفريد)، فلقد أنشأ كتابه كأنما هو عِقدٌ مُكوَّن من جواهر، كل جوهرة كأنها فصل مستقل في موضوع مستقل، يبدأ العِقد بـ "المرجانة في مخاطبة الملوك"، وبعدها "الياقوتة في العلم والأدب"، ثم "الجوهرة في الأمثال"، ثم "الزمردة في المواعظ والزهد"، وهكذا حتى تصل إلى واسطة العقد وهي في الخطب، ثم نعودثانية حتى نصل إلى خاتمة العقد "اللؤلؤة في الفكاهات والمُلح". فتكتمل بهذا موسوعة أدبية فريدة نُظِمت كأنها عقد جوهر فريد!

الجمعة، مارس 17، 2017

هل الشعب المصري خانع بطبعه؟

ما أقبح أن يفشل القادة فيُحمِّلون الشعوب مسؤولية الفشل! وما أقبح أن نضطر إلى مناقشة مثل هذه القضية ولا تزال دماء الثورة ساخنة ولهيبها وهّاج! إن الشعب الذي أشعل ثورة تجاوز فيها النخبة الذين ما ظنوا أن يثور، ثم اختارهم في خمس استحقاقات انتخابية، ثم واصل العطاء بالدماء في الشوارع في ظل انعدام قيادي أو توجيه ثوري.. هذا الشعب يجد الآن من كثير من أولئك الذين خذلوه من يتهمه بأن الخنوع من طبعه، وبأن الذل أصيل في جيناته، وبأنه المسؤول عن الفشل!

سأعتمد في هذا المقال على تحليلات المفكر المصري الجغرافي المرموق جمال حمدان، وهو ممن يكاد يُتفق على تبحره علميا وانفراده بالمجهود الجليل المبذول في موسوعته "شخصية مصر".

(1) هل الاستبداد نتيجة حتمية للطبيعة النهرية؟

نظرية مشهورة تلك التي تقول بأن الشعوب التي تعيش على الأنهار وتعتمد على الزراعة تنبت فيها الدولة المركزية، وخلاصة تلك النظرية أن الشعوب التي تزرع اعتمادا على النهر تحتاج إلى سلطة تنظم توزيع الماء فيما بينها كي ينتفع الجميع ولا يصير النزاع على الماء تقاتلا (وهذا بخلاف الشعوب التي تعتمد على الأمطار حيث لا تنشأ هذه الحاجة للسلطة). كذلك فإن النهر يحتاج لمن يشرف عليه ويُحسِّن الاستفادة منه بإنشاء الجسور وحفر القنوات وبناء القناطر، وهذا كله من عمل السلطة. ثم إن المجتمعات النهرية تحتاج إلى السلطة لصد عادية وغارات البدو والرُّحَّل الذين عادة ما تغريهم مناطق أهل الزراعة بما فيها من ثراء وثمرات.

لكل هذا تنشأ الحاجة إلى السلطة، ويتخلى الناس عن بعض من حريتهم في سبيل تمكين السلطة التي تشرف على هذه الأمور. وإذا نشأت السلطة وقويت زاد الاعتماد عليها فصارت طباع الشعوب أسهل وألين وأرفق، وصار المرء أقل قدرة في الاعتماد على نفسه والقيام بشؤونه من مثيله في المناطق الجبلية الوعرة، إذ الخشونة والشظف هناك يجعل المرء أقوى وأصلب وأخشن وأكثر قياما بشأنه.

فإذا أضفنا إلى هذا أن مصر من البلاد النهرية السهلة حيث الجغرافيا منبسطة لا وعرة، والوادي المعمور ضيق ليس فسيحا ولا متناثرا.. فهنا تكون السلطة أكثر قدرة على الهيمنة والسيطرة، إذ لا بيئة جبلية يمكن أن يلجأ إليها أو يختبئ فيها المتمرد، وحينئذ يكون التمرد على السلطة محفوفا بالمخاطر، واحتمال الفشل فيه أعلى ما يمكن.

مع كل هذا يقول جمال حمدان بوضوح "الشيء المؤكد علميا بالقطع أن الطغيان أو الاستبداد –شرقيا أو غير شرقي- ليس من حتم البيئة النهرية أو من فعل النيل أو غير النيل، ولا هو لعنة طبيعية عمياء، وبالمثل فإن أية انحرافات قد يفرضها الطغيان فهي لا علاقة لها قط بزراعة الري أو جغرافية النهر من حيث هو"[1]، ويقول بأن ما عرفته مصر من الاستبداد "إنما كان -للأسف- روح العصر zeitgeist وليس –لحسن الحظ- روح المكان genius loci... وهذا بالدقة مفتاح الحقيقة العلمية، إنه (الاستبداد) حقيقة بالتاريخ لا بالجغرافيا، وظاهرة تراثية لا وراثية، أي موقوته مهما طالت. هو إذن لا يعبر عن أي طبيعة كامنة في مصر كبيئة أو كشعب، ولا يمثل انبثاقة طبيعية من المكان وإنما انحرافة سياسية عبر الزمان، وفي النهاية لا يعبر عن شخصية مصر الاجتماعية الكامنة الأصيلة قط"[2].

(2) مزايا المجتمعات النهرية

يكتمل الوجه الآخر لصورة المجتمعات النهرية بكونها المجتمعات التي تنشأ فيها الحضارة، حيث ينشأ من الاستقرار التفنن في العمارة والفنون وممارسة العلوم، وهكذا تختزن الشعوب النهرية ميراثا حضاريا غزيرا لا ينشأ مثله في البيئات الجبلية أو الصحراوية التي لا يبق لها تاريخ معروف ولا تسهم في نهر الحضارة بشئ ذي بال.

إلا أن شأن الحضارة ليس من شأننا هنا، وإنما هل يوجد للمجتمعات النهرية مزايا في شأن الثورة وطبيعة الحاكم والمجتمع؟

من يحاولون الترويج لكون الشعب المصري لا يثور ينسون –أو يتناسون- بأنه بقدر ما ولَّد وجود النهر الحاجة إلى سلطة بقدر ما صنع مجتمعا تعاونيا متماسكا كذلك، وهذا التكوين هو أساس ثوري لا غنى لأصحاب الثورة عن البناء عليه. يقول جمال حمدان:

"إذا كانت البيئة الفيضية تحتم قيام حكم قوي وتنظيم سياسي مؤثر، فما معنى هذا؟ معناه ببساطة أن النظام النهري وأيكولوجية النيل تؤهل بطبعها وتلقائيا لعنصر كامن أصيل وبعيد المدى من الاشتراكي... لأن مواجهة أخطار النهر وذبذباته الجامحة وبناء القرى المجمعة ونظام الحياة اليومية في القرى من تنظيم المياه والدورة الزراعية... إلخ. كل أولئك لا يمكن أن يتم كعمل جماعي منسق يقوم على التعاون"[3]. ويضيف: "مصر كبيئة فيضية إنما مؤهلة بطبعها للاشتراكية التعاونية الخالية من الاستغلال والابتزاز... شخصية مصر الحقيقية طلقة حرة من الانحراف أو الضغط، هي بيئة ومجتمع المشاركة الجماعية والجهد المشترك في ظل التعاون والتماسك والتضامن"[4].

وبقدر ما استطاع الثوار ترسيخ التعاون والتماسك الاجتماعي بقدر ما استطاعوا تقليل الحاجة إلى السلطة وتقليل الاعتماد عليها، ولا يزال المصريون يشتهرون بتماسكهم الاجتماعي، وإن كان هذا قد تعرض لضربة قاصمة منذ محمد علي واشتدت أكثر مع دخول مصر في النمط الغربي عند عصر الانفتاح الساداتي ولا يزال الضغط السلطوي على المجتمع يريد تفكيكه وتفتيته كما هي عادة وطبع السلطة الحديثة. كما لا يزال المصريون يفضلون ممارسة علاقتهم وفض إشكاليتهم بعيدا عن جهاز السلطة ما أمكن! وهذا بحد ذاته رصيد في ميزان الثورة على حساب الاستبداد.

(3) نجاح أو فشل الثورات مسؤولية من؟

على غير ما يشيع عن المصريين بقلة ثوراتهم يذكر جمال حمدان بأن "التاريخ المصري القديم سجل صراع طويل وحافل تنقطه الانتقاضات الشعبية المتواترة والتي قد تفصل بينها فترات من الصبر المتربص، ولكنها قد تتحول أيضا في حالات إلى انفجارات عارمة وثورات مسلحة تعرف الدموية والعنف والوعي الطبقي، ولئن رجحت في هذا السجل عموما نسبة الهبات والحركات غير الحمرات على الثورات الدامية الثقيلة، فذلك لأن مصر بحجمها جسم ضخم ثقيل الوزن، لا يتحرك باندفاع متهور، بل بدفع محسوب، ولذا فإن ثوراتها الشاملة قليلة العدد نسبيا ولكنها فاعلة وحطمة حين تقع، ومن ثم تصبح علامات تحول بارزة وأحيانا سباقة تاريخيا"[5].

ويضيف في موضع آخر: "لم تنقطع المقاومة الشعبية بالطبع ولا استكانت، فالعصور الوسطى مُنَقَّطَة مُرَصَّعة بالانتفاضات والمواجات، إلى أن كان العصر التركي المملوكي حين تصبح الثورات تيارا متقطعا ولكنه لا ينقطع، وحيث تتعدد أنواعها بين الثورات الزراعية وثورات المدن، بين ثورات البدو والفلاحين والرقيق، في الدلتا والصعيد وفي العاصمة"[6].

وإذا كان الشعب يثور ويعترض، فإنه لا مجال هنا لتحميل الشعب مسؤولية نجاح أو فشل هذه الثورات والانتفاضات، فهذه المسؤولية هي من نصيب القادة، أولئك هم الذين يستطيعون أن يديروا المعركة الثورية بنجاح لتصل إلى أهدافها أو يخفقوا في إدارتها فتسرق منهم الثورة أو يُنقلَب عليها! لا يُطلب من الشعب أن يكون ثوريا وسياسيا في آن واحد، وما هذه بطبيعة الشعوب.. فلئن حصل الإخفاق في الثورة، فهو أمر يتحمله من تصدروا لها بعد أن رفعتهم الثورة في مصاف من يتكلم باسمها وفوضتهم بالنيابة عنها.

(5) لغوٌ باطل

"أما النظرية الكاسحة البراقة التي تقول إن الشرق بطبعه نزاع إلى الاستبداد والملكية، والغرب إلى الديمقراطية والجمهورية، فقطعة من اللغو اللغوي لا أكثر، أكثر منها حتى مجرد تبسيط مخل، بالاختصار، الاستبداد أو الطغيان حقيقة عرفتها معظم البلاد في معظم العصور على اختلاف بيئاتها، والفروق بين البشر أقل بكثير من التشابه الأساسي.. بل لقد كان أغلب تاريخ العالم حتى وقت قريب هو في الواقع الحكم المطلق والاستبداد بصورة أو بأخرى"[7].

إن من يتحدثون عن الشرق المولع بالاستبداد لا يمدون أبصارهم إلى التاريخ، لا يعرفون كيف كانت أوروبا في القرون الوسطى، ليس ثمة شعب إلا ووقع تحت الاستبداد وقُهِر تحته لفترة تطول أو تقصر، فكيف تُشتم شعوبنا بشيء لم ينج منه شعب على وجه هذه الأرض!

من أراد شعبا يثور كل يوم، أو شعبا لم يصل نار الاستبداد، فليبحث خارج هذا الكوكب!




[1] جمال حمدان، شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان، (القاهرة: دار الهلال، 1994)، 2/546.
[2] نفسه 2/582.
[3] انظر: نفسه 2/543 وما بعدها، والاقتباس في المتن من 2/545.
[4] نفسه 2/582.
[5] نفسه 2/567، 568.
[6] نفسه 2/573، 574.
[7] نفسه 2/581.