الجمعة، فبراير 24، 2017

موجز قصة النفوذ الأجنبي في مصر (2)

نزل الإنجليز إلى مصر ببوارجهم وجيوشهم لمنع سقوط نظام أسرة محمد علي، وهو النظام الذي أسس للأجانب على نحو ما رأينا في المقال الماضي، وبدأت بهذا لحظة جديدة اتحد فيها الاستبداد الداخلي مع النفوذ الاحتلال الخارجي، وبهذا صار الخطر مضاعفا على مصر وأهلها، كما صار التحدي مضاعفا على حركات الكفاح والمقاومة.

استمر الاحتلال الإنجليزي لمصر سبعين سنة، أعيد فيها قلب المجتمع المصري ليخرج من نظامه الإسلامي إلى نظام غربي محض، جرى ذلك عبر السيطرة على الاقتصاد، والمؤسسات الإدارية، والهيئات الاجتماعية، ونظام التعليم ومناهجه الدراسية، ونخبة الإعلام والصحافة، والهيمنة على الحالة السياسية، ويفتخر اللورد كرومر –المندوب السامي للإنجليز في مصر، والذي قضى ربع قرن- بإنجازه هذا التحويل في كتابه "مصر الحديثة"، لقد كانت سنوات الاحتلال الإنجليزي تغييرا شاملا في مصر ونظامها وهي السنوات التي انخلعت فيها مصر تماما من النظام الإسلامي ودخلت بكليتها في النظام الغربي، وهنا نعني النظام لا الجماهير التي ظلت وفية لدينها وجذورها، وبدأ في تلك السنين السبعين التشوه الكبير لدى النخبة الممزقة –كما وصفها كرومر نفسه- بين أصولها وجذورها الشرقية وبين ما اعتنقته من الأفكار الغربية، بداية من القومية والإقليمية (في مقابل الانتماء الإسلامي) مرورا بالأفكار الممثلة للانحيازات الحضارية، وانتهاء بالملابس التي أزيحت فيها العمامة والحجاب لحساب البذلة الإفرنجية والطربوش والسفور.

وفي هذه السنين السبعين جرت الأهوال العظام، ومنها الحربان العالميتان، والتي أسفرت أولاهما عن سقوط الخلافة، وأسفرت ثانيتهما عن تبدل موازين الامبراطوريات في الشرق والغرب، فغربت شمس الإنجليز والفرنسيين لتشرق شمس الأمريكان والروس، وكانت حركة الانقلابات العسكرية في الشرق من وسائل المستعمرين الجدد لطرد المستعمرين القدامي، وانتقلت مصر من حكم الإنجليز والملكية إلى حكم الأمريكان والعسكر. ومنذ تلك اللحظة بدأت مرحلة جديدة في اتحاد الاحتلال مع الاستبداد، فالمستبد هنا يعيش في حماية الاحتلال، والاحتلال هو من يحفظ نظام المستبد ويدعمه علانية.

لا يختلف المؤرخون الآن عن العلاقات الأمريكية المبكرة بعبد الناصر، وقد صارت وثائق تلك الفترة منشورة، وهي العلاقة التي شلت يد الإنجليز عن التحرك لمواجهة الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الناصر والذي استهدف به استباق الثورة الشعبية التي تتوقعها وثائق المخابرات الأمريكية، ليكون هذا الانقلاب هو عملية الإجهاض للثورة الشعبية المرتقبة[1]، وأسس الأمريكان جهاز المخابرات المصرية وكان رجال المخابرات الأمريكان حاضرون دائما في ساحة اتخاذ القرارات وتوجيه السياسات على نحو ما يفعل أهل الأمر والنفوذ والحكم. وكانت الإدارة الأمريكية في ذلك الوقت تنقسم حول ما إن كان ينبغي أن تعول على إسرائيل أم على مصر للتحكم في الشرق الأوسط، ثم اتضح أن كفاءة الإسرائيليين كانت أعلى بكثير من العسكر المصريين، وحرصت إسرائيل على أن تحسم هذا الاختيار بانتصاراتها المتتالية على محيطها العربي وبالذات ضد مصر، فاضطربت العلاقات لفترة قصيرة بين نظام عبد الناصر والأمريكان دخل فيها الروس على خط السياسة المصرية، لكن هذه المرحلة لم تلبث أن انتهت بمجيئ السادات الذي لم ير إشكالا أن يكون أكثر صراحة ووضوحا في توجهه ناحية الأمريكان ورهن السياسة المصرية لهم تماما، وهو ما تبدى واضحا في اتفاقية كامب ديفيد ثم في معاهد السلام بين مصر وإسرائيل.

ثم لم يكن مبارك إلا موظفا، فهو شخصية بلا زعامة ولا طموح ولا مشروع سياسي، فعمل كموظف برتبة رئيس في ظل منظومة ورثها، ثم لم يلبث الحال أن حُسِم نهائيا في نهاية العقد الأول من حكمه بانهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد الأمريكان بقيادة العالم، فتعزز وترسخ النفوذ الأمريكي والإسرائيلي في مصر طوال سنواته الثلاثين التي كانت تشهد تدهورا سريعا لثقل مصر السياسي والاقتصادي والعلمي، حتى شهد آخره إعلان الحرب على غزة من القاهرة، فكان مبارك كما وصفته أصوات إسرائيلية بأنه "الكنز الاستراتيجي لإسرائيل".

وظيفة الجيش المصري

والآن يحكم مصر عبد الفتاح السيسي الذي هو الثمرة الكاملة لكامب ديفيد، فهو من جيل العسكريين الذين دخلوا إلى الجيش بعد هذه الاتفاقية، حيث السيطرة الأمريكية التامة على الجيش المصري وتسليحه وتدريبه، بل وعلى فكره وروحه وثقافته، ونستطيع أن نسوق على هذا الكثير من "الاعترافات" المصورة بهذه الحقيقة لقادة الجيوش المصري والأمريكي والإسرائيلي أيضا، وإن متابعة بسيطة للتصريحات الإسرائيلية السياسية أو ما يتردد في الصحافة الإسرائيلية تقطع بأن إسرائيل تعيش مع نظام السيسي واقعا لم تكن تحلم به، على كل حال سأكتفي هنا بأربعة تصريحات فقط كاشفة لدور ووظيفة الجيش المصري:

1. تصريح آن باترسون بعد الانقلاب العسكري بأن هناك جيلا من العسكر المصريين تشربوا الثقافة الأمريكية ولا ينبغي قطع المعونات عنهم كي لا يتكرر ما حدث عندما قطعت المعونات عن العسكر الباكستان فاضطروا للتعامل مع السوفيت فنشأ فيهم جيل أقرب إلى الروس من الأمريكان[2].

2. تصريح رئيس الأركان الأمريكي الجنرال ديمبسي "تجربتي الشخصية تعود إلى وقت قيادتي للمنطقة المركزية الأمريكية في 2008 وأستطيع أن أقول لكم إن القوات المسلحة المصرية شريك قوى جدا لأمريكا وأن مصر دولة رئيسية جدا فى المنطقة ونحن نتمتع بمرور تفضيلي فى السويس وتحليق ديناميكي كذلك، وهم ملتزمون تجاه اتفاقيات كامب ديفيد، والجيش الصهيوني يعتبر الجيش المصرى شريكا قويا، فى تجربتي الشخصية التي استمرت 5 سنوات: إنهم يستحقون الاستثمار بأموال المعونة الأمريكية"[3].

3. تصريح رعنان جيسين –مستشار شارون، والمتحدث الأسبق باسم الحكومة الإسرائيلية– وهو مندهش، يبدي ندمه على أنه حين كان يفاوض على الانسحاب من سيناء أصرَّ ألا يكون فيها قوات للجيش المصري، بل يبقى البدو والجِمال فقط.. هو الآن يقول: "يا إلهي، لو عادت بي الأيام لقلت: خذوا البدو والجمال واتركوا لنا الجيش المصري"[4]!!

4. تصريح اللواء محمد العصار، وهو الآن وزير التصنيع الحربي، الذي يفتخر فيه بأن الجيش المصري جزء من الأمن القومي الأمريكي، يقول: "تعلمون أن علاقاتنا استراتيجية وقوية جدا، وقد بدأت بتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع إسرائيل 1979، وبالنسبة للعلاقات العسكرية بين الجيشين لدينا علاقة رائعة، ونحن نعتبرها عمود وحجر زاوية بين أمريكا ومصر... ونحن أيضا فخورون بأن نكون عنصرا هاما للأمن القومي الأمريكي، ونحن فخورون بأهمية مساهماتنا للبعد الاستراتيجي لمصالح أمريكا"[5].

التحدي المضاعف

لقد أثمرت الثورة الصناعية وما ألقت به من ثورات المواصلات والاتصالات على هذا التقارب الذي وصل إلى حد الاتحاد بين الاحتلال الخارجي والاستبداد الداخلي، وهو الأمر الذي تعاني منه الشعوب الإسلامية منذ بداية التاريخ الحديث الذي بدأ في مصر مع محمد علي.

منذ ذلك التاريخ فشلت الثورات المصرية الثلاثة لأسباب مختلفة، فثورة عرابي التي كادت تقضي على الاستبداد سبق إليها الاحتلال، وثورة 1919 احتواها الاحتلال الإنجليزي عبر تنصيب الزعامات الزائفة التي أدخلت بركان الثورة في ثلاجة القانون والمفاوضات حتى انتهت، ثم استبق الاحتلال ثورة شعبية في 1952 بانقلاب عسكري مدعوم أمريكيا فذهبت أحلام الثورة وبدأ عصر أشد استبدادا من كل العصور السابقة، وفي ثورة 2011 انقلب الاحتلال الخارجي عبر أذرعه الإقليمية الخليجية والمحلية العسكرية على الثورة في 3 يوليو 2013، وبدأ في مصر عصر جديد من التوحش.

لم تنته الثورة المصرية بعد، لكنها تعاني أزمات خانقة، أكبرها هو افتقادها للقيادة، والاحتلال الفكري والنفسي لقيادات جماعة الإخوان المسلمين الذين عمل النافذون فيهم على إجهاض حركة المقاومة الطبيعية الفطرية للانقلاب العسكري فوفروا له وللاحتلال من الخارج ما لم يكن ممكنا لهم أن يفعلوه وحدهم بحال. فالثورة الآن تشبه خزان البنزين الذي ينتظر من يشعله ويفجره بعد الأوضاع القاسية التي وُضِع فيها المصريون إن على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الديني.




[1] انظر التفاصيل في: محمد جلال كشك، ثورة يوليو الأمريكية، ط2 (القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1988م)، ص77 وما بعدها.
[2] جلسة استماع، الكونجرس الأمريكي، بتاريخ 19 سبتمبر 2013م.
[3] جلسة إعادة تنصيبه بمجلس الشيوخ الأمريكي، بتاريخ 18 يوليو 2013.
[4] لم أهتد إلى تاريخه بالضبط، وهذا هو رابط الفيديو
[5] حوار أمام معهد السلام الأمريكي بتاريخ 25 يوليو 2011.

الأربعاء، فبراير 22، 2017

الشيخ عمر عبد الرحمن

انتهت قبل يومين مأساة رجل عاش نحو ربع القرن في سجن انفرادي.. أمرٌ مجرد تصوره وتخيّله يصيب بالكآبة والألم، فكيف يا تُرى كان واقع المأساة نفسها؟!

مات الشيخ عمر عبد الرحمن، في سجنه الانفرادي الأمريكي، هناك حيث اجتمعت عليه أنواع المعاناة: السجن، الظلم، الغربة، الإهانة والإذلال، وانعدام النصير!

يستطيع روائي موهوب أن يحوِّل المأساة إلى عمل روائي ملحمي كبير، فما أغزر ما فيها من صور ومشاعر ومواقف وفصول، إلا أنني هنا سأكتفي بالتركيز على أربعة معانٍ فحسب.

(1) أمةٌ كالغيث

"أنا لا يرهبني السجن ولا الإعدام، ولا أفرح بالعفو أو البراءة، ولا أحزن حين يُحكم عليّ بالقتل، فهي شهادة في سبيل الله، وعندئذ أقول: فزت ورب الكعبة".

تلك الكلمات التي تبعث في الذاكرة قول الشافعي:
أنا إن عشتُ لستُ أعدم قوتا .. وإن أنا متُّ لستُ أعدم قبرا
همّتي همّة الملوك ونفسي .. نفس حرٍّ ترى المذلة كفرا

وتبعث في الذاكرة قول ابن تيمية: "ماذا يفعل أعدائي بي، إن سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة"! وتبعث فيها قول حرام بن ملحان، رضي الله عنه، حين طُعِن من الكفار غدرا فصاح "فُزْتُ وربِّ الكعبة"!

كان عمر عبد الرحمن من أهل الأعذار، عذرهم الله لكن لم يعذروا أنفسهم.. فجاهدوا، وتلك سلسلة نقية تتصل بالشيخ أحمد ياسين، القعيد الذي أسس حركة مقاومة فعلت بإسرائيل ما لم تفعله جيوش العرب أجمعين، وتمتد حتى تنتهي عند عبد الله بن أم مكتوم، الصحابي الأعمى الذي كان يؤذن للناس آذان السحر ثم خرج مجاهدا يحمل اللواء يريد تكثير سواد المسلمين وتثبيتهم!، وعند سيدنا عمرو بن الجموح، الصحابي الأعرج الذي رفض رجاء أولاده ألا يخرج للقتال فصاح فيهم: والله إني لأريد أن أطأ بعرجتي هذه الجنة! وقد كان!

أهل الهمم هؤلاء يثيرون في أهل الصحة شجونا وشؤونا، يثبتون لهم أن مدار الأمر على النفوس والقلوب، على الهمم المشتعلة في الصدور، على الأرواح المحلقة في السماء، على العزائم التي لا تقبل الدنية ولا ترضى بالركون، وهم أصدق من يقال فيهم:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم .. وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها .. وتصغر في عين العظيم العظائم

لَكَم يحتج المرء أمام غيره أو أمام نفسه بقلة الإمكانيات، حتى إذا أتت سيرة هؤلاء العظماء عرف كل إنسان قدره، وحقيقة مرضه وكسله وثقله، ولو بينه وبين نفسه!

(2) الثورة .. قبل الثورة

في أيام الثورة كنت تخال الناس كلهم ثائرين، كلهم يتحدث كأنما أطلق شرارة الثورة، ورفع لواء الثورة ضد الرئيس الحليم (أو الضعيف الذي لم يتمكن) لا يرضى إلا بالمثالية الثورية المستحيلة، حتى إذا جدَّ الجدّ وجاء زمن الدماء والمذابح كان أحسنهم حالا من عاد إلى قواعده في تويتر أو ناضل قانونيا في ساحة "القضاء الشامخ"!

لولا آلة الإعلام الشيطانية القادرة على إزالة الحقائق وتثبيت الأوهام، المتفننة في قلب الحق باطلا والباطل حقا، لولاها ما احتاج الإسلاميون دليلا على ثوريتهم.. كانوا كذلك وقت أن كان مبارك في عنفوانه وذروة سطوته، ولذلك كانوا أول من أُنْزِل السجون وأُسْكِن القبور وطورد في المنافي، وكانوا حينئذ يوصمون بالإرهاب والتطرف، بعض الناس يصفهم بهذا نفاقا للسلطة، وبعضهم يصفهم بهذا ليبرر لنفسه قعوده عن الثورة التي يحاولون إشعالها.

لم يكن عمر عبد الرحمن ولا صحبه إلا ثوارا قبل أن يأتي زمن الثورة، ثوارا لم ينتظروا نزول برادعي أو استجابة عسكر أو تخلي أمريكي عن عميلهم، لربما أخطأوا التدبير ولكنهم كانوا ثوارا لا يختلفون شيئا عن كل الحركات الثورية التي اشتعلت ضد الاحتلال والاستبداد عبر العالم، إنهم الطليعة التي بُنِيَت على جماجمهم وعظامهم ثورة شباب لم يعرفهم.. اختزنت الأيام ما أورثوه من كراهية للظلم والمستبدين حتى اجتمعت الروافد وانفجرت الثورة.

وهكذا، انظر في سائر ساحات الكفاح والمقاومة، هل تجد فيها أعلى صوتا أو أثبت قدما أو أطول نَفَسًا أو أدوم مددا من الإسلاميين؟! هذا وإن أخطأوا التدبير أو أخطأوا التطبيق.

(3) سطوة الأفكار الغالبة

إن الثورة المهزومة لا تُنصَف إلا حين يزول النظام الذي ثارت عليه.. ذلك طبع التاريخ، وذلك ثأره وحجته أيضا!
ذلك طبعه، فليس ينبعث التاريخ الحقيقي لثورة مهزومة إلا بزوال الحكم الذي هزمها، ظلَّ عرابي مشتوما ملعونا على لسان الجميع حتى رحل آخر أبناء محمد علي من مصر، ولم تُبعث سير عمر المختار والبشير الإبراهيمي وعبد الكريم الخطابي إلا لما رحل الاحتلال!

وذلك ثأره، فبه ينتقم من الجبابرة والطواغيت الذين أرادوا تزوير التاريخ فإذا به ينقلب عليهم، فيُعظِّم من أرادوا تحقيره ويُحقِّرهم! ويُنصف المظلوم من الظالم ولو بعد حين.

وذلك حجته أيضا، فبهذا نعرف حقيقة أقوام في الماضي والحاضر، ساروا في ركاب السلطة ضد الثورة، نافقوا وتملقوا، فنعرف بهذا أقدار الرجال وحقائق حالهم، وإذا بمن كان يفتخر بأبيه يحاول اليوم أن يداري نسبه إليه، وإذا بمن كان يُخفي نسبه إلى الثائر المهزوم يتفاخر به.

وهذا عمر عبد الرحمن.. تعاطف معه الشباب الذين لم يروه ولم يسمعونه وربما لم يكونوا يعرفون عنه قبل وفاته، وما ذلك إلا لأن الزمن زمن ثورة.. ثورة على أمريكا وعملائها، فكل أسير وقتيل على يد أمريكا لا بد أنه بطل، والعكس بالعكس أيضا!

هذا عمر عبد الرحمن.. قد أقيم له حفل تأبين في اسطنبول فتكلم في تأبينه كل معارض، ولو أنه مات في زمن حسني مبارك لرأيت كثيرا منهم لم يتكلموا في الترحم عليه، أو لعل بعضهم تكلم في الطعن فيه. ولو أنه مات في زمن محمد مرسي لرأيت حفل تأبينه في القاهرة حفلا كبيرا فخما مهيبا مشهودا يجتمع له من العلماء والقادة والشعراء والفصحاء مَنْ بأقطارها.

ومن هنا نعلم أننا إذا أردنا إنصاف الشيخ عمر عبد الرحمن وإخوانه وكل ثائر، فلا بد من انتصار هذه الثورة على هذا النظام، فبانتصارها يُكتب تاريخ الأبطال فلا يُنسى جهادهم ولا تُهضم أقدارهم.

(4) أمريكا تسمح لكم بالعزاء!!

من مآثر ومناقب سيدي الشيخ الكبير الأسير البصير حازم أبو إسماعيل أنه ومن خلال برنامجه التليفزيوني على قناة الناس، وفي عصر حسني مبارك، قدم التعزية لأيمن الظواهري -نائب زعيم تنظيم القاعدة وقتها- في وفاة والدته..

لم يكن الأمر شجاعة فقط.. بل كان حرصا منه -فك الله أسره، ومتعنا بطول بقائه- على أن يظل المسلم له حق محفوظ عند إخوانه.. حق لا ينزعه منه أن أمريكا تصنفه كإرهابي أو أن نظام بلده العميل يتعامل معه كمجرم!
وهذا هو الدرس الأعظم..

أن يظل المسلم مسلما، وأن تظل حقوقه محفوظة مؤداة، وأنه مهما خالفنا بعضهم في فكره أو اجتهاده فلا يعني هذا هضم ما له عندنا..

وذات الكلام يُقال الآن عن الشيخ عمرعبد الرحمن!


إن من يخجل من التعزية فيه والإشادة به والإدانة لظالميه فإنما يهدر حقا لمسلم، ويثبت حقا لأعداء الشعوب في تصنيفهم للناس.. أما الذي يدينه ويشمت به ويتحدث عما يسميه "جرائمه" فلا حرج عليه.. فما على مثله سبيل! رضي بأن يكون مع الكافرين والمنافقين، فهو إن لم يكن منهم، فإنما هو على وشك ذلك.

الجمعة، فبراير 17، 2017

موجز قصة النفوذ الأجنبي في مصر (1)

في مطلع القرن الرابع عشر كلفت البابوية في أوروبا المؤرخ الإيطالي مارينو سانودو تورسيللو كتابة تاريخ للحروب الصليبية استغرق منه عشرين سنة أو يزيد عبر فيها البحر خمس مرات إلى قبرص وأرمينية ورودوس والإسكندرية وأقام طويلا فيها وفي عكا، ثم خرج كتابه في ثلاثة عشر مجلدا، وضع في آخرها خلاصاته وتوصياته وإجابته على سؤال لماذا فشلت الحروب الصليبية، وماذا ينبغي أن تفعل الكنيسة لإعادة احتلال هذه الأراضي، فخلص إلى القول بأن أهم أسباب الفشل كان تركيز الحملات الصليبية على الشام وليس مصر، وذلك أن مصر هي أكبر خزان بشري ظلت قادرة على إمداد الشام بالجيوش طوال الوقت، ومن ثَمَّ قدَّم نصيحته في حال إعادة أوروبا للمحاولة أن تكون مصر هي الأولوية، ثم تنطلق منها الحملات للسيطرة على فلسطين واحتلال بيت المقدس[1].

وقد عملت أوروبا بهذه النصيحة في الموجة الثانية للحملات الصليبية[2]، فبدأ نابليون حملته على مصر ومنها انطلق إلى احتلال الشام، ثم جاء الإنجليز بعده بأقل من قرن فأتموا احتلال مصر أولا، ثم صبروا ثلث قرن آخر حتى احتلوا فلسطين عسكريا إبان الحرب العالمية الأولى ثم مهدوا فيها للاحتلال الصهيوني الذي يمثل ذروة نجاحهم المعاصر، فهم بزراعتهم لإسرائيل في المنطقة صنعوا قاعدة عسكرية وحضارية متقدمة في أرض المسلمين، ومزقوا قلب الدولة الإسلامية، وقطعوا الطريق على التمدد الروسي في الشرق، وتخلصوا من المشكلة اليهودية الداخلية في أوروبا.

تأسيس النفوذ الأجنبي في مصر

للنفوذ الأجنبي في مصر قصة طويلة حافلة بالتفاصيل المريرة..

يوجد الأجانب في مصر منذ القدم لموقع مصر الجغرافي والتجاري ومركزها العلمي، لا سيما حين صارت عاصمة الخلافة في عصر المماليك عند سقوط الخلافة من بغداد، وقد تحدث جوزيف بتس –الذي زار مصر في نهايات القرن السابع عشر- أن اللغات المستخدمة في مصر لا تقل عن اثنتين وسبعين لغة[3]، وتحدث الجبرتي عن طلاب علم أوربيون يدرسون على علماء مصر قبيل الحملة الفرنسية[4]، إلا أن نفوذهم بدأ مع تولي محمد علي باشا سدة الحكم في مصر، فمنذ ذلك الوقت وحتى لحظة كتابة هذه السطور والأجانب هم سادة مصر وأصحاب الكلمة النافذة فيها.

لقد تولى محمد علي حكم مصر بمساعدة أجنبية حيث نشأت علاقة بينه وبين القنصل الفرنسي في مصر ثم دعمها سفير فرنسا في اسطنبول بضغطه على الخليفة العثماني ليقبل بولاية محمد علي، وهنا بدأت دولة الأجانب، حيث استكثر محمد علي من اليهود والنصارى والأجانب في بلاطه وعليهم قام نظام دولته، وأسدى محمد علي للأجانب خدمات لا تقدر بثمن، ويعتبر هو واضع البذرة الأولى لدولة إسرائيل في سنوات حكمه العشرة للشام بما نفذه من انقلاب الموازين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية بين المسلمين وغيرهم وبين الرعايا والأجانب، فضلا عن ضرباته القوية للدولة العثمانية، وإنشائه دولة على النمط الغربي في مصر والتمكين فيها للنفوذ الأجنبي[5].

لم ينته عهد محمد علي إلا وللأجانب اليد العليا في مصر، ولم يبق خلفه إبراهيم باشا بعده إلا شهورا، ثم جاء حفيده عباس الأول فكان يكره الأجانب وحاول موازاة النفوذ الفرنسي بشيء من النفوذ الإنجليزي فلم يلبث أن اغتيل بعد أقل من ست سنوات، وهو الاغتيال المشكوك في ضلوع الأجانب فيه لتمهيد الطريق لخلفه سعيد باشا الذي كان أول حاكم لمصر ينشأ تنشئة أجنبية في رعاية القنصل الفرنسي.

وفي عهد سعيد باشا أخذ النفوذ الأجنبي مساحات جديدة وواسعة وفُتِحت الأبواب أمام حركة التنصير ودعم المدارس والإرساليات التنصيرية في مصر من قبل السلطة[6]، وفي ذلك العهد حدثت الجريمتان الكبريان اللتان كان لهما أسوأ الأثر على التاريخ المصري فيما بعد: قناة السويس، والقروض الأجنبية. فلقد ظل كل حكام مصر حتى وهم في أوج قوتهم يرفضون الوصل بين البحر المتوسط والبحر الأحمر مباشرة لما لهذا من آثار كارثية على أمن الأمة الإسلامية، ورُفِض المشروع في عهد هارون الرشيد وسليمان القانوني وسليم الثاني وحتى في عهد محمد علي باشا رغم كل تمكينه للأجانب ثم وافق عليه سعيد باشا ومنح امتيازا لفريدناند دي ليسبس الذي هو صديق الطفولة فقد كان أبوه هو القنصل الفرنسي الذي نشأ سعيد في رعايته[7]، وقد وُصِف هذا الامتياز بأنه "أكبر عملية نهب فاقت كل شيء" ووُصِف صاحبه بأنه "والد كافة المحتالين الذين يسلبون الناس أموالهم بعد كسب ثقتهم"[8]. وأما القروض الأجنبية فهي البدعة التي ابتدعها سعيد للإنفاق على القصور والزخارف رغم عدم احتياجه للاقتراض، فكان أول حاكم لمصر يقترض من الأجانب بالربا الفاحش.

ولما مات سعيد بعد تسع سنوات خلفه إسماعيل الذي كان مثله في النشأة الأجنبية، فقد تعلم في فرنسا وتحدث الفرنسية كأهلها، وعزم على أن يجعل مصر قطعة من أوروبا، وأسرف على نفسه في القروض الفاحشة الربا حتى انهارت الميزانية المصرية واضطر أن يقبل في وزارته اثنين من الأجانب: إنجليزي وفرنسي يتولى أحدهما المالية والآخر الأشغال فكانا في وزارتهما أعلى سلطة من الخديوي نفسه، كذلك فقد كانت المناصب العليا في دولة إسماعيل –حتى من قبل اختلال ميزانيتها- منصرفة للأجانب، كانت الحملات في السودان والصومال وأوغندا يقودها ضباط إنجليز، بل وتولى الرحالة الإنجليزي صمويل بيكر مسؤولية مديرية خط الاستواء (جنوب السودان الآن) ثم تولى خلفه اللواء غوردون مسؤولية المديرية ثم منصب حاكم عام السودان كله، وكان نوابهم وأركان حربهم من الإنجليز والأمريكان والطليان والألمان والنمساويين وتولى قيادة بعض الحملات فرنسيون ودنماركيون أيضا. وكثيرا ما كان مدراء المدارس الحربية من الفرنسيين، وقد تولى القنصل الفرنسي منزنجر باشا مديرية مصوع (إريتريا الآن) ثم وسَّع الخديوي صلاحياته حتى صار محافظا لسواحل البحر الأحمر ومديرا لشرقي السودان وقاد جيشا من الجيوش المصرية على الحبشة. وكانت تستطيع إنجلترا أن تعترض على حملة عسكرية تفتح بعض المناطق وتضمها إلى مصر فترجع الحملة من فورها ويذهب ما أنفق فيها هباء منثورا، ثم لما احتلت إنجلترا مصر لم تتكلف سوى إصدار الأمر لهذه الفرق الموجودة بالسودان والحبشة بالتخلي عن مواقعها والانسحاب منها فينسحبون دون اعتراض أو عصيان. فضلا عن أن مساعدة الجيش المصري للإنجليز في حروبهم حاضرة بغير تردد كما جرى في حرب الإنجليز مع الحبشة (1867 – 1868م)[9].

وطوال أسرة محمد علي تطورت الأوضاع القانونية والاقتصادية لتصب في مصلحة الأجانب، فالمحاكم القنصلية ثم المحاكم المختلطة –وهو نظام شنيع لا يُعرف له مثيل في التاريخ- انتزعت كثيرا من أموال مصر وثرواتها وأراضيها ومبانيها لتحكم بها لمصلحة الأجانب، كذلك فقد كان إسراف السلطة على نفسها بالربا والزخارف ينزع كثيرا من الأموال من يد المصريين ليجعلها في صفقات تعقد مع الأجانب لبناء أو تزيين أو تأثيث تلك القصور والحفلات، مما جعل الشحاذ المتسول في أوروبا إن نزل إلى مصر اغتنى سريعا وصار من الأثرياء الكبار، بينما ازداد المصريون فقرا وقهرا وذلا[10].

ما إن بدت في الأفق نذر ثورة مصرية قادها أحمد عرابي واحتواها المجتمع المدني المصري ممثلا في قياداته آنذاك كجمال الدين الأفغاني وعبد الله النديم ومشايخ الأزهر وكبار التجار، إلا وكان الأجانب يسرعون لتنفيس هذه الثورة واحتوائها، فعزلوا إسماعيل عن منصبه وأعطوا السلطة لتوفيق الذي حاول وأد الثورة فازدادت حدة وارتفاعا وكادت تطيح بنظام محمد علي كله بدعم من السلطان عبد الحميد الثاني، فاتفقت الدول الأجنبية في مؤتمر الآستانة على التدخل العسكري في مصر إن لزم الأمر، وهو ما كان معناه إعطاء التفويض للإنجليز بالسيطرة على مصر، وذلك الذي كان، ونزلت القوات الأجنبية لتحفظ النظام الذي يبيض ذهبا للأجانب.

في هذه اللحظة اتحد الاستبداد الداخلي بالاحتلال الخارجي، ليبدأ فصل جديد في قصة النفوذ الأجنبي في مصر، نرصده إن شاء الله في المقال القادم.



[1] عباس مصطفى عمار، سيناء: المدخل الشرقي لمصر، ط2 (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يوليو 2014م)، ص10 (مقدمة وليد نويهض). والجزء الأخير من كتاب المؤرخ الإيطالي ترجمه إلى العربية الأب سليم رزق الله بعنوان "كتاب الأسرار في استرجاع الأراضي المقدسة والحفاظ عليها"، وصدر في بيروت عن مؤسسة الريحاني عام 1991م.
[2] يقسم بعض الباحثين موجات الحملات الصليبية إلى ثلاث موجات كبرى؛ فالأولى هي التي بدأت باحتلال بيت المقدس وانتهت في عهد المماليك، والثانية هي الاستعمار الحديث الذي بدأ بالحملة الفرنسية على مصر وانتهى بتحرر الدول العربية من الاستعمار في منتصف القرن العشرين، والثالثة هي التي بدأت بالغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق ولا تزال مستمرة.
[3] جوزيف بتس (الحاج يوسف)، رحلة جوزيف بتس إلى مصر ومكة والمدينة المنورة، ترجمة ودراسة: د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ، (القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1995م)، ص34.
[4] الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، (بيروت: دار الجيل، بدون تاريخ)، 1/ 461.
[5] انظر التفاصيل في: محمد إلهامي، التأسيس للنفوذ الأجنبي في بيت المقدس في عهد محمد علي باشا الكبير، ورقة بحثية في المؤتمر الأكاديمي السادس عشر "العثمانيون وبيت المقدس"، ديسمبر 2016م.
[6] للمزيد، راجع: محمد إلهامي، من سعيد باشا إلى عبد الفتاح السيسي، مقال منشور بالمعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، بتاريخ 22 يناير 2017م.
[7] لتفصيل قصة قناة السويس، انظر: محمد إلهامي، في أروقة التاريخ، ط1 (القاهرة: دار التقوى، 2017م)، 1/ 249 وما بعدها.
[8] ريمون فلاور، مصر من قدوم نابليون حتى رحيل عبد الناصر، ترجمة: سيد أحمد علي الناصري، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2000م)، ص136.
[9] انظر التفاصيل في: عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، ط4 (القاهرة: دار المعارف، 1987)، 1/113 وما بعدها.
[10] انظر التفاصيل في: عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، مرجع سابق، 2/ 263 وما بعدها.

الأربعاء، فبراير 15، 2017

كلام في الحب وأشعار الغزل

أخبرني صديق جزائري ذات ليلة تناولنا فيها أشعار الغزل عند العرب أنه لما ترجم بعض أبيات شعر إلى الألمانية كادت فتاة ألمانية أن يُغشى عليها لرقة المعنى وعذوبته! وليس هذا بالغريب، فلا ريب أن لغة العرب هي أمتع اللغات، وقد سألت كثيرين ممن يتكلمون العربية ولغة أخرى (كلغات أم) ما إن كان في اللسان الآخر نفس ما يتذوقه العرب من لغتهم فاتفقت إجابتهم أن لا.

قالوا منذ قديم: نزلت الحكمة على لسان العرب..

لذلك كان العرب قوم المعاني البديعة، وكان الشعراء فيهم صفوتهم ونخبتهم، وكانت القبيلة تحتفل إذا نبغ فيها شاعر، وليس من مقام يحققه المرء في العرب قديما فوق أن يكون فارسا شاعرا معا. ولهذا قالوا: المرء بأصغريه: قلبه ولسانه. يشيرون إلى الشجاعة والبلاغة، وليس أدلَّ على رقة إحساس العرب وتأثرهم بالمعنى من إنشائهم أسواق للكلام، وتعظيمهم القصائد الفاخرة بتعليقها على الكعبة. ولهذا جاءهم القرآن فحيَّرهم وأخذ بعقولهم فصار الذي يريد الكفر يجتهد ألا يسمع القرآن وألا يدع أحدا يسمعه.


والشاعر في حضارتنا العربية ليس مجرد رجل يجيد صناعة الكلام، بل هو الآن بمثابة الجهاز الإعلامي أو القناة الفضائية، إنه صاحب العقل الذي يُحسن الأخذ والرد، ويطلع على علوم زمنه وأحوال السياسة فيتخذ من كل هذا أدوات له في سبك المعاني، ولا يُشتهر الشاعر لمجرد قدرته على صناعة الوزن، بل لقدرته على صوغ المعنى العالي في الكلام الموزون، ويا ويل من يُتهم بالسرقة، لا سرقة الأبيات والقصائد –كما في عصر الظلام الذي نحن فيه- بل بسرقة المعنى والفكرة وإن أنتجها في وزن آخر.

وكان الحب أشهر ما تنافس فيه شعراء العرب وتفننوا في وصف معانيه، بل به تبدأ القصائد، وعامة الأطلال التي بكاها شعراء العرب كانت ديار المحبوب، كما قال شاعرهم:

أمرُّ على الديار ديار ليلى .. فألثم ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي .. ولكن حب من سكن الديارا

وبالعموم، فما أحسب الذي يتذوق أشعار العرب في الغزل إلا أحد اثنين، إن كان عاشقا فقرأها أصابه الجنون، وإن عافاه الله وقرأها أصابته رقة وذوق ولطف شفيف. وفي مذهبي ألا يتعرض من ليست عنده زوجته لشعر الغزل أو لأدب الحب، فإن ذلك أمر شديد لا يكاد يقدر عليه أحد

(1) المعاني العالية

روى قيس كيف دافعت ليلى العامرية عن نفسها لما رأى كفها مخضَّبا باحمرار، فعاتبها لأنها نسيته وتزينت بعد الفراق بالحناء، فكان دفاعها هكذا:

ولما تلاقينا على سفح رامة .. وجدت بنان العامرية أحمرا
فقلتُ: خَضَبْتِ الكفَّ بعد فراقنا؟ .. فقالت: معاذ الله، ذلك ما جرى
ولكني لما رأيتك راحلا .. ذرفتُ دما بَلَلْتُ به الثرى
مسحتُ بأطراف البنان مدامعي .. فصار خَضابا في اليدين كما ترى

ووصف أبو صخر، شاعر هذيل، حالته حين يلقى محبوبته التي عزم على هجرها بقوله:

أما والذي أضحك وأبكى والذي .. أمات وأحيا والذي أمره الأمرُ
لقد كنتُ آتيها وفي النفس هجرها .. بتاتا لأُخْرى الدهر، ما طلع الفجرُ
فما هو إلا أن أراها فجاءة .. فأبهتُ، لا عُرْفٌ لدي ولا نُكر
وأنسى الذي قد كنتُ فيه هجرتها .. كما قد تُنَسِّي عقلَ شاربها الخمرُ
وإني لتعروني لذاكراكِ هزٌّة .. كما انتفض العصفور بلَّله القَطْر

وأخبر عنترة عبلة بقدرها في نفسه فقال:

أحبُّك يا ظلومُ وأنتِ منِّي .. مكان الروح مِنْ نَفْسِ الجبان
ولو أني أقول مكان روحي .. لَخِفْتُ عليك بادرة الطِّعان

ولشاعر آخر حين يغلبه الشوق حيلة أخرى، سجلها في قوله:

وإني لأهوى النوم في غير حينه .. لعل لقاءً في المنام يكون
تحدثني الأحلام أني أراكمُ .. فيا ليت أحلام المنام يقين

وقال شوقي في بيت ما أروعه:
مولاي، وروحي في يده .. قد ضَيَّعَها، سَلِمَتْ يدُه

(2) حب الملوك والفقهاء

وشارك في هذا الموكب الطويل الملوك والوزراء والفقهاء والصوفية، واشتهر بعضهم بحبه وشعره، فخليفة مثل الحكم المستنصر يُنشد في جاريته صبح هذا الشعر:

عجِبْتُ وقد ودَّعتها كيف لم أمت .. وكيف انثنت -بعد الوداع- يدي معي
فيا مُقْلتي العبرى عليها اسكبي دما .. ويا كبدي الحرَّى عليها تقطَّعي

وإذا ذُكِر الوزراء، ذُكِر ابن الخطيب، صاحب البيت العجيب في مدح العيون:
كل السيوف قواطع إن جُرِّدَت .. وحُسام لحظِك قاطع في غمده

وأما الفقهاء فكثيرون، لا تتسع المساحة سوى لنقل مثال واحد للقاضي عبد الوهاب المالكي الذي ألَّف صورة يجتمع فيها الحب بالفقه، فقال:

ونائمةٍ قبَّلتُها، فَتَنَبَّهَتْ .. فقالت: تعالوا، واطلبوا اللصَّ بالحدِّ
فقلت لها: إني –فَدَيْتُك- "غاصبٌ" .. وما حكموا في غاصب بسوى الردِّ
خذيها وكُفِّي عن أثيم ظلامة .. وإن أنتِ لم ترضي فألفٌ على العدِّ
فقالت: قصاصٌ يشهد الله أنه .. على كبد الجاني ألذُّ من الشهد

والمعنى أنه اختلس قبلة منها، فنادت على الناس ليعاقبوه، فأخبرها –وهو الفقيه- بأن جريمته ليست إلا "الغصب"، وحكم الشرع فيها أن يرد الغاصب ما أخذه، وهو مستعد أن يرد ما أخذه ولو ألف ضعف حتى ترضى، فقالت: هذا قصاص ألذ على الجاني من العسل.

عد واقرأها مرة أخرى، وينبغي التنبيه على أن هذه الصور مؤلفة من الخيال وليست حقيقية، فتلك هي عادة الشعر والشعراء (يقولون ما لا يفعلون)

(4) الحب والأخلاق

لقد مدح العلماء والحكماء الحبَّ لما فيه من رقة النفس ولطف الطبع وحسن التهذب، فقالوا في هذا:
إذا أنت لم تعشق ولم تدرِ ما الهوى .. فكن حجرا من جانب الصخر جلمدا

ومدحوه لما يكون فيه من الترقِّي بالأخلاق والتحلِّي بالمكارم، فالعاشق حريص على أن يثير إعجاب من يُحب، فقالوا:
فيهتزّ للمعروف في طلب العُلى .. لِتُحمَد دومًا عند ليلى شمائلُه

وللمرء أن يفتخر بنفسه إن اجتمع فيه الحب والعفة، كما افتخر شاعرهم:
أخلو به فأعِفّ عنه تكرُّمًا .. خوفَ الديانة، لستُ من عشّاقِه
كالماء في يد صائم يلتذّه .. ظمئا فيصبر عن لذيذ مذاقه

وشبيه بذلك قول الشاعر:
أُنَزِّه في روض المحاسن مُقْلَتي .. وأمنع نفسي أن تنال محرَّما
وأحمل من ثِقْل الهوى ما لو انّه .. يُصَبّ على الصخر الأصمّ تهدّما

ولم يُمدح الحب لما قد يكون فيه من سوء الأخلاق والانحلال والغدر والخداع، اللهم إلا المنحلين والفاسقين الذين ملكوا وسائل الإعلام ومنافذ الثقافة في عصور الظلام التي نحياها الآن، منذ نزل بلادنا الاحتلال ثم حَكَمَنا عملاؤه من بعده، فأفسدوا الدين والأخلاق، وكان من بين ما أفسدوه: معنى الحب!

(5) أعلى مراتب الحب

لما آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار، قال سعد بن الربيع الأنصاري لأخيه عبد الرحمن بن عوف المهاجري: وإن لي زوجتان، انظر أيهما أحب إليك، أطلقها فتتزوجها!

وانتزع حنظلة بن أبي عامر نفسه من أحضان عروسه بعد ليلة زفافهما حين سمع نداء الجهاد في أحد، فنال الشهادة، فكان من كرامة الله له أن غسَّلته الملائكة، فعُرف بلقبه "غسيل الملائكة".


وقيل للقعقاع الأوسي: شوِّقنا إلى الجنة، فقال: فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم).