الثلاثاء، يناير 31، 2017

السلطان المسلم الذي أبهر الغربيين

ذكرنا في المقالالماضي أن شخصية صلاح الدين تفردت رغم تعدد الحملات الصليبية وطول فترتها الزمنية وكثرة من شاركوا فيها من الطرفين، وقد بلغ الثناء على شخصيته حدا جعله واحدا ممن يفيض الغربيون بالثناء عليه، وقد اخترنا سبعة فقط من وجوه إعجاب الغربيين به، بدأنا في المقال الماضي، ونواصلها اليوم بتوفيق الله.

3. حسن السياسة واتساع النفوذ

لما أرخ أولج فولكف للقاهرة جاء على ذكر صلاح الدين، فوصفه بهذه الكلمات: "كان سياسيا محنكا ذو رأي صائب. وتمتع بمقدرة على انتقاد مستشاريه والإصغاء إليهم، وهي مقدرة هامة لأي ملك، كما تميز بالصدق في وسط كانت تسممه الخديعة، وبالتسامح إلا فيما يتعلق بسيادة العقيدة. وقد خاض غمار الحروب طيلة حياته رغم رقة بنيته. واتصفت أخلاقه بالشهامة والفروسية وكانت تملؤه روح العطف والحب مما أثر في أفكاره وأفعاله. كان دؤوبا على عمله، بسيطا في حياته، عميقا في إيمانه حتى مثَّل بحق الصورة المثالية لفارس عربي"[1].

وقد أثمر هذا كله –كما يقول المستشرق الألماني الشهير كارل بروكلمان- أن "وُفِّق صلاح الدين بعزيمته الراسخة وموهبته الدبلوماسية النادرة إلى أن يثب من غمرة هذا الوضع الحرج الدقيق إلى قمة من القوة والسلطان لم ينته إلى مثلها أحد من أمراء الإسلام منذ عهد طويل"[2].

هذه القمة من القوة يصفها ستانلي لين بول في قوله: "لقد تجمعت كل قوى العالم المسيحي في الحرب الصليبية الثالثة، ولكنها لم تستطع أن تنال من قوة صلاح الدين وسلطانه، ولما انتهت حروب السنوات الخمس وخفت محنها ومصائبها لم يكن لصلاح الدين منافس يحكم الأقطار التي تقع بين جبال كردستان وصحراء ليبيا. وكان ملك جورجيا وكاثوليك أرمينيا وسلطان قونية وإمبراطور القسطنطينية –وكلهم وراء الحدود- يخطبون وده ويتوقون إلى محالفته"، ولهذا وصفه بأنه "بطل الإسلام العظيم" وأن ما فعله "جعل اسم صلاح الدين يتردد على كل لسان حتى في أوروبا نفسها"[3].

4. التسامح الديني

يسوق توماس أرنولد عصر صلاح الدين وخلفائه كدليل على ما تمتع به النصارى من تسامح في البلاد الإسلامية، يقول: "في عهد صلاح الدين الأيوبي في مصر تمتع المسيحيون بالسعادة إلى حد كبير في ظل ذلك الحاكم، الذي عرف بالتسامح الديني، فقد خففت الضرائب التي كانت فرضت عليهم، وزال بعضها جملة، وملئوا الوظائف العامة؛ كوزراء، وكتاب، وصيارفة. وفي عهد خلفاء صلاح الدين نعموا بمثل هذا التسامح والرعاية قرابة قرن من الزمان، ولم يكن هناك ما يشكون منه إلا ما اتصف به كهنتهم أنفسهم من الفساد والانحطاط، فقد فشت السيمونية بينهم، فبيعت مناصب القسيسين الذين اتصفوا بالجهل والرذيلة، على حين حيل بين الذين طلبوا التعيين وبين هذا المنصب المقدس؛ بعجزهم عن أداء الأموال المطلوبة في احتقار وازدراء، مع أنهم كانوا الجديرين بشغل هذا المنصب"[4].

5. رعاية العلم والعلماء

لقد سبق تحرير صلاح الدين لبيت المقدس تحريره لمصر من الحكم العبيدي (الفاطمي) الباطني، كان تحرير بيت المقدس بالسيف والسنان وكان تحرير مصر بالعلم والبيان واللسان، ولهذا فقد أثار صلاح الدين نشاطا علميا وتعليميا واسعا في مصر للقضاء على الفكر الإسماعيلي الباطني.

يقول كارل بروكلمان: "لم يستطع أعداؤه أنفسهم إلا الإقرار لهم بالشهامة والنبل في معاملة الخصم المغلوب. ليس هذا فحسب، فقد كان صلاح الدين بالإضافة إلى ذلك كله نصيرا للعلم، ولقد وُفِّق إلى نفر من العلماء حفظوا جميله له"[5]، وذكر منهم ابن العماد الأصفهاني الذي سجل وقائع تحرير بيت المقدس، وابن شداد قاضي الجيش الذي سجل سيرة حياته، والقاضي الفاضل الذي نهض بعبء الإدارة.

ويقول المستشرق الأمريكي لبناني الأصل فيليب حتي في كتابه الموجز عن تاريخ العرب: "لم يكن صلاح الدين بطلا وحاميا للسنة فقط بل كان منشطا للعلم والعلماء مشجعا للدراسات الدينية ومصلحا اجتماعيا واقتصاديا، فلقد أنشأ المدارس والمساجد وابتنى السدود واحتفر الأقنية... وصلاح الدين عند العرب في مصاف هارون الرشيد وبيبرس وفي مقدمة من تهواهم مخيلات الشعب عامته وخاصته إلى يومنا هذا. أما في أووربا فلقد أطنب في ذكراه المنشدون في العصور الوسطى وحاكاهم في ذلك الروائيون العصريون. وهو لا يرزال يعتبر حتى اليوم مثال الفروسية الكاملة"[6].

6. الإدارة والعمران

يشهد مؤرخ القاهرة المستشرق الفرنسي جاستون فييت أن القاهرة لم يبدأ مجدها إلا بصلاح الدين، يقول: "كانت مدينة ابن طولون [القطائع] مسكنا للأمير؛ ويمكن إطلاق هذا التعبير ذاته على قاهرة الفاطميين. ولم يصبح لمصر عاصمة حقيقية إلا بوصول صلاح الدين. فمجد القاهرة –دون التقليل من عمل الفاطميين- يبدأ من عصر الأيوبيين"، ويضيف: "ما زالت القلعة شاهدا على عظمة عصر صلاح الدين، رغم أن السلطان لم يسكنها أبدا. وهي تقدم دليلا ملموسا على شخصية فذة، ورجل سابق لزمانه، وأرقى من معاصريه، سواء في ذلك إخوانه في الدين أو أعداؤه، الذين رأوا فيه إنسانا يغلب عليه الاعتدال وشعور الولاء، مبرأ تماما من الأنانية والدوافع الشخصية –وبعبارة مختصرة- رجلا فذا"[7].

وما قاله جاستون فييت مختصرا، فصَّل فيه ستانلي لين بول الذي قرر أن صلاح الدين كان أكثر عمارة في مصر والقاهرة من كافة الحكام الذين سبقوه، يقول: "وعلى الرغم من أن مدة إقامة صلاح الدين الأيوبي لم تطل في القاهرة، لم يترك أحد ممن سبقوه من الحكام فيها مثل ما خلف من الآثار الخالدة. فإليه يرجع الفضل في اتساع الحاضرة، وتنسيق هندستها التي كانت تفخر بها إلى عهد قريب؛ فالقلعة وهي أبرز معالمها من إنشائه، والمدرسة التي بناها هي أكثر عمائرها ذيوعا وشهرة، وكل هذه التغييرات تمت بفضل توجيهاته. ولما غادر صلاح الدين القاهرة بعد أن مكث فيها ثماني سنوات، ظل يبعث في طلب إمدادات منها بمعاونته في حروبه السنوية، وقد ترك بها من القواد والأقارب من قام بإتمام ما بدأه من أعمال، كان بعضها من أجل الدفاع عن البلاد وبعضها في سبيل الدين. فأما الأعمال الدفاعية، فقد تجلت في إنشاء القلعة والسور وجسر النيل، وكلها من الأعمال المستحدثة التي لم يسبقه إليها أحد، إذ أن الحكام الذين جاءوا قبله جعلوا هدفهم بناء مبان حكومية أو ضواح ملكية، كل يبعد عن سابقه نحو نصف ميل إلى الجهة الشمالية الشرقية من المدينة، حتى إن القاهرة الفاطمية نفسها لم تكن تشمل سوى قصور الخلفاء والموظفين ولم تكن حاضرة للبلاد المصرية. أما صلاح الدين فكان أول من وضع بإحكام تصميم شامل لحاضرة عظيمة، إذ أنه بدلا من أن يحذو حذو من سبقوه من الحكام ويقيم ضاحية جديدة كما أقام أسلافه، عقد العزم على توحيد جميع الأحياء الآهلة بالسكان وإحاطتها بسور عظيم وتتويجها بقلعة منيعة"[8].

بقي الوجه الأهم والأوسع والأشهر الذي أثار إعجاب المستشرقين والمؤرخين الغربيين من شخصية السلطان الناصر صلاح الدين، ونتناوله في المقال القادم إن شاء الله تعالى.

نشر في ساسة بوست



[1] أولج فولكف، القاهرة: مدينة ألف ليلة وليلة، ترجمة: أحمد صليحة، (القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1986م)، ص80.
[2] كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي، ط5 (بيروت: دار العلم للملايين، 1968م)، ص352.
[3] ستانلي لين بول، سيرة القاهرة، ترجمة: حسن إبراهيم حسن وآخرون، ط2 (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، بدون تاريخ)، ص158، 159؛ ستانلي لين بول، صلاح الدين، مرجع سابق، ص288.
[4] توماس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام: بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية، ترجمة: حسن إبراهيم حسن وآخرون، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1980م)، ص128، 129.
[5] كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، مرجع سابق، ص358.
[6] فيليب حتي، العرب تاريخ موجز، (بيروت: دار العلم للملايين، 1991م)، ص243.
[7] جاستون فييت، القاهرة: مدينة الفن والتجارة، ترجمة: د. مصطفى العبادي، (بيروت: مكتبة لبنان، 1968م)، ص76، 77.
[8] ستانلي لين بول، سيرة القاهرة، مرجع سابق، ص159.

الخميس، يناير 26، 2017

هل تعلم أن الدولة المصرية نشأت لخدمة الجيش؟!

لا زلنا في الكتاب الخامس من سلسلة "مكتبة الثائر المصري"، وهو كتاب "كل رجال الباشا" الذي بدأناه في المقال الماضي، والذي يحكي جانبا مغمورا من تاريخ محمد علي باشا وجيشه الذي تأسس بإذلال المصريين واستعبادهم تحقيقا لمجد شخصي للباشا وأسرته، وهي الأسرة التي حافظ الاحتلال على بقائها ونزل بجيوشه وجنوده للحفاظ على نظامها من السقوط أمام ثورة عرابي، ولم ينسحب المحتل إلا حين نقل السلطة "بسلاسة" منها إلى العسكر.

[راجع خلاصات الكتب السابقة هنـــــــــا]

خلاصات الكتاب:

8. مات أكثر السودانيين الذين جمعتهم حملة الباشا ليكونوا جنودا لظروف النقل العصيبة ولم يبق من عشرين ألفا سيقوا إلا ثلاثة آلاف فقط، وكذلك فتكت الأمراض بالجنود الألبان والترك الذين ظلوا في السودان وبدؤوا في التمرد، فعندئذ قرر محمد علي تجنيد المصريين (الذين كان ينظر إليهم كبهائم ومتخلفين)، وحين وُضِع تصميم الجيش أصر الباشا ألا تتجاوز رتبة المصرية البلوكباشي أي العريف(قائد 25 جنديا)، وكان يعارض زيادة رواتب الجنود ويصرف الزيادة لصف الضابط والضباط فقط.

9. اجتاحت موجة التجنيد البلاد، وبعد عام كان ثلاثون ألفا من المصريين يتدربون كجنود، وقبل أن يكملوا تدريبهم أرسل الباشا فرقة منهم لمواجهة الوهابيين فاستطاعت فرقة من 2500 جندي هزيمة جيش وهابي يبلغ عشرة أضعاف عددهم، وفي أول عرض عسكري للقوات المصرية اصطحب الباشا معه القنصل الإنجليزي والفرنسي وأعجب الجميع بكفاءة المجندين الذين نظموا عرض حرب مصغرة.

10. ظهرت كفاءة القوات أيضا حين فجَّر بعض الجنود الألبان مخزنا للبارود في القلعة فقُتِل أربعة آلاف، فأبدت أورطة من الجنود المصريين كفاءة في احتواء الوضع بسرعة. وكان أهم اختبار لنجاح الباشا في تجنيد المصريين هو ما فعله أولئك الجنود في إخماد ثورة بالصعيد (إبريل 1824) حيث قتل الجنود –وهم من مديريات الصعيد أيضا- أربعة آلاف لإخماد الثورة، ورقَّى الباشا جنديا قتل أباه في المعارك، وأعدم 45 ضابطا رميا بالرصاص بتهمة الانشقاق عن الجيش والانضمام للثورة.

11. بعد هذه الاختبارات الثلاث (حرب الوهابيين، السيطرة على حريق الانفجار، إخماد ثورة الصعيد) ثبت للباشا أنه نجح في صناعة جيش على النمط الحديث لا ولاء له إلا للباشا، وعلى استعداد أن يقتل أهله عند الضرورة، فاستكثر من التجنيد حتى بلغ عدد المجندين 130 ألفا بنسبة 2.6% من عدد السكان، وهي نسبة مرتفعة للغاية تسببت في تدمير العائلات الريفية والحياة القروية.

12. حاول الباشا أن يرغب المصريين في التجنيد، وأرسل لابنه أن يستعمل بعض الوُعَّاظ والفقهاء ليقنعوا الفلاحين بأن الجندية ليست كالسخرة وتذكيرهم بأن الحملة الفرنسية استطاعت تكوين جيش من الأقباط لخدمة عقيدتهم، ولا شك أن المسلمين أقوى إيمانا وحماسا للدفاع عن دينهم من الأقباط.

13. كان واقع التجنيد أن تنزل الفرقة العسكرية على القرية فتقبض عشوائيا على أكبر عدد ممكن من الرجال بلا معايير تتعلق بالسنّ أو الصحة أو الحالة الأسرية، ثم يربط كل ستة أو ثمانية منهم بحبل حول أعناقهم ثم يُساقون إلى مركز التدريب تاركين خلفهم زوجات وأمهات وأطفال محطمين يولولون ويصرخون بلا أمل، وتاركين أرضا ستبور!

14. لم تفلح كل نداءات "الدفاع عن العقيدة" ضد الفرس أو الروس أو اليونانيين، كما يسوِّق الباشا، في دفع أحد إلى التطوع، وربما تسير فصيلة الجند بكل بهرجها من رشيد إلى أسوان بغير أن يستجيب لها متطوع واحد، بل على العكس قاوم المصريون التجنيد بكل الطرق الممكنة.

15. أول طرق المقاومة كان التمرد العام، وقد حدثت ثورتان، في الصعيد حيث ثار 30 ألف شخص هاجموا الموظفين ورفضوا دفع الضرائب وأسروا بعض المديرين، وفي المنوفية اندلعت انتفاضة أقل حجما لكنها كانت من الخطورة بحيث ذهب إليها محمد علي بنفسه على رأس حرس قصره وستة مدافع لإخمادها.

16. وقاوم المصريون التجنيد بالهرب، فقد كانت أنباء فرقة التجنيد تنتشر كالنار في الهشيم، فما إن تقترب من قرية حتى تنطلق موجة من الهاربين يتركون قراهم ومنازلهم في حال مزرية، وعند أواخر الثلاثينات بلغ الحال حد العثور على قرى مهجورة بأكملها. لكن الباشا كلف جهاز الدولة بمطاردة هؤلاء بداية من مشايخ القرى والعربان وحتى مشايخ الحارات في القاهرة بالعثور على هؤلاء "المُتَسَحِّبين" وإعادتهم إلى قراهم، غير أن العدد كان ضخما، وتواطأ بعض مشايخ القرى مع الفلاحين أو قبلوا منهم الرشاوى مقابل عدم تسليمهم، فأصدر الباشا قانونا يعاقب شيخ القرية بالضرب 200 جلدة بالكرباج إن فعل هذا، ويعاقب مأمور المركز إن فعل هذا بالضرب 100 فلقة مع سجنه مدى الحياة، ثم صدر قانون ينص على أنه إذا لم يُعْثَر على "المُتَسَحِّب" بعد أربعة أيام ولم يُبلغ عنه شيخ القرية فإنه يعد بهذا شريكا له فيُعاقب بالقتل صلبا أو شنقا!

17. وحين اكتشف المصريون عدم جدوى التمرد أو الفرار لجأ بعضهم إلى تشويه نفسه ليصير غير صالح للتجنيد، كأن يبتر إصبع السبابة أو يخلع أسنانه الأمامية أو يضع سم الفئران في عينيه ليُصاب بالعمى وهو يرجو أن يكون العمى مؤقتا، فقرر الباشا أن يُعاقب من يثبت عليه هذا بالسجن مدى الحياة وبتجنيد أقاربهم بدلا منهم.

18. كذلك فقد كان بعضهم يقاوم التجنيد بالاشتباك مع الضباط، وإن أفلتوا من فرقة تجنيد فلا يلبث أن يقعوا في فخ فرقة أخرى، وإن فعلوا فهم لا يُعاقبون بالسجن كما يأملون بل بإرسالهم إلى الجيش. وحاول بعضهم الفرار إما في الطريق إلى مراكز التجنيد أو من معسكرات التدريب، وكان الفرار هو المشكلة الأزلية التي عانت منها السلطة إذ كثيرا ما يُكتشف أن عدد من وصلوا لمراكز التدريب أقل من عدد الذين جُمِعوا، فكان الباشا يُكلف المدير (المحافظ) أن "يملأ هذه الفجوات" مع التهديد بالعقاب إن لم يفعل أقصى ما بوسعه.

19. سُجلت كثير من حالات الموت بسبب الكآبة والحزن، أو الموت بالشيخوخة أو بسبب صحي، وقد سجَّل تقرير أن 20 ألفا فقط كانوا لائقين طبيا من بين 48 ألفا جُمِعوا وحُشِد فيهم العُرج والعميان والمُقْعدين بغير تمييز.

20. لكي تُملأ هذه الفجوات من الأعداد الناقصة فإن الحل السريع هو خطف المزيد من الرجال، لكن الحل البطيئ هو تطوير جهاز الدولة بحيث يكون أكثر سيطرة وإحكاما، بداية من نظام شامل للأمن والمراقبة لمنع الهروب أو إعادة الهاربين، وإنشاء مستشفيات ونظام صحي لحل مشكلة غير اللائقين، وتطوير نظام إحصائي دقيق عن كل قرية وسكانها وأوصاف رجالها بحيث لا يؤخذ الشيوخ العجائز أو نحوهم. ومن هنا بدأت "الدولة المصرية"، بدأت كجهاز لخدمة الجيش!


وهذا ما نراه بتفصيل في المقال القادم إن شاء الله تعالى.

الجمعة، يناير 20، 2017

من سعيد باشا إلى عبد الفتاح السيسي

صرح الأنبا مرقس أسقف شبرا الخيمة في حواره مع "اليوم السابع" بتاريخ 14 يناير 2017 أن الشرطة المصرية تدرب شباب الكنيسة على أعمال التأمين! وهو ما يعدُّ تطورا جديدا في العلاقة بين النظام والكنيسة، وتغييرا جديدا يطرأ على خريطة الواقع المصري بين المسلمين والأقباط.

وقبل نحو عام نشر مدير البعثات التنصيرية العالمية للمشيخية البروتستانتية هذا الفيديو الذي يحكي كيف أن فترة السيسي هي الأفضل بالنسبة لهم خلال المائة وخمسين عاما الماضية، ويذكر الأراضي والتسهيلات التي أعطاها لهم نظام السيسي وتشجيعهم على بناء الكنائس والمدارس واستئناف العمل الذي بدأ قبل مائة وخمسين عاما.

لماذا مائة وخمسين عاما بالتحديد؟! هذا هو موضوع مقالنا اليوم!

في مثل هذا اليوم (18 يناير 1863م) توفي سعيد باشا، الحاكم الثالث من سلالة محمد علي باشا، وهي السلالة التي قهرت شعبي مصر والسودان وحكمتهم بالحديد والنار، ثم فتحت للأجانب أبواب البلاد حتى كان الفقير الشريد في أوروبا يهاجر إلى مصر متسولا فيجد أبواب الثراء واسعة بما صار للأجانب من الامتيازات الاقتصادية والاستقلال القانوني، ولذلك ما إن بدا أن حكم أسرة محمد علي سيتزلزل أمام ثورة المصريين التي تزعمها عرابي حتى نزل الاحتلال الإنجليزي بنفسه وبوارجه ليحافظ على حكم الأسرة العلوية، وعاش رجالها تحت ظل الاحتلال قابلين أن يكونوا حكاما بلا سلطة حقيقية، حتى قرر الأجانب التخلي عنهم لصالح حكم العسكر، فسلموا البلاد للعسكر وخرجوا منها بعدما قسَّموها.

كان سعيد باشا أول اختراق أجنبي لمن حكم مصري منذ الفتح الإسلامي، فقد ربَّاه الفرنسيون للصداقة العميقة التي انعقدت بين أبيه محمد علي باشا وأتييه ديليسبس القنصل الفرنسي في مصر، وهو ما كانت له آثاره الخطيرة فيما بعد[1]. وبعد أكثر من مائة وخمسين عاما نعيش في ظل عبد الفتاح السيسي الذي هو ثمرة من ثمار الدولة العلمانية العسكرية التي بدأت بسلالة محمد علي، والذي أتى فوق دبابات الأجانب بعدما صار الاختراق الأجنبي لمصر شاملا وعميقا!

على أن بين السيسي وبين سعيد نسبا آخر، فسعيد هو الذي أعطى امتياز حفر قناة السويس ذلك المشروع الكارثي الذي لا تزال تعاني مصر من نتائجه، ثم أضاف السيسي تفريعة جديدة تجعل الكارثة مضاعفة ويدفع الشعب ثمنها من ماله ودمائه واستقلاله[2]. ثم إن بينهما نسب آخر، وهي الرغبة المشتركة في بقاء الشعب جاهلا.

من أشهر أقوال سعيد باشا: "لم نعلم الشعب؟ لكي يصبح الحكم عليه والتصرف فيه أعسر مما هما عليه؟ دعهم في جهلهم! فالأمة الجاهلة أسلس قيادا في يدي حاكمها"[3]، وهي المقولة التي تطورت على لسان السيسي لتصير "ينفع بإيه التعليم في وطن ضايع"! وذلك أن مصر حققت في عهده المركز قبل الأخير من قائمة 140 دولة في مؤشر جودة التعليم بحسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2015 – 2016!!

لكن الصورة لا تتضح إلا إذا نظرنا إلى انتشار التعليم الأجنبي التغريبي في مصر، ففي اللحظة التي تنهار فيها المؤسسات التعليمية الحكومية تزداد وتزدهر المؤسسات والمدارس والجامعات الأجنبية، وهو نفس ما فعله سعيد باشا من قبل، فلقد استلم سعيد حكم البلاد بعد اغتيال عباس باشا، وكان عباس يكره الأجانب كراهية عميقة فعمل على إغلاق المدارس التي افتتحها محمد علي والتي كانت من أبواب التغريب وصعود النفوذ الأجنبي، فلما جاء سعيد استمر في إغلاق المدارس الأهلية ولكنه كان في غاية الكرم مع المدارس التنصيرية الأجنبية.

ألغى سعيد ديوان المدارس (وزارة التعليم) وألغى مدرسة المهندسخانة بعدما أرسل ناظرها علي مبارك إلى حملة عسكرية، وألغى المدرسة التي أبقاها سعيد "المفروزة"، ثم أنشأ مدرسة حربية وأعاد فتح المهندسخانة كمدرسة حربية فقد كان "الجيش هوايته"[4]، وأغلق مدرسة الطب بقصر العيني ثم أعاد فتحها، ولم يرسل إلى أوروبا سوى 14 طالبا. وعلى الجانب الآخر فقد كان لراهبات البون باستور Bon Pasteur "الراعي الصالح" مدرستان في القاهرة والإسكندرية، وفيها يتربي ستون يتيمة بأجرة زهيدة، فرفعت الراهبات التماسا إليه أن يعطيهن ستين إردبا من البرّ فأجابهن إلى ذلك في الحال، وعيَّن للمدرستين إعانة سنوية. وتبرع بمبنى للإرسالية الأمريكية بمجرد نزولها إلى مصر (1855م) واستمر بدعمها. وتبرع بألفين وأربعمائة جنيه (وهو مبلغ ضخم في ذلك الوقت) على أول مدرسة إيطالية تأسست في مصر، فضلا عن منحها قطعة أرض تقدر بثمانية آلاف ذراع في نقطة من أحسن جهات الإسكندرية. وقد استمر الهبوط في عدد المتعلمين من عشرين ألفا في عهد محمد علي باشا[5] إلى أحد عشر ألفا في نهاية عهده حتى وصلت إلى بضع مئات في عهد سعيد، وتضاءلت ميزانية التعليم حتى وصلت إلى ستة آلاف جنيه فقط[6]!!

لذلك يتحدث العديد من المنَصِّرين بالثناء الكبير على سعيد الذي تأسست جهودهم في عهده ولولاه لما بلغوا هذا القدر من النفوذ[7]، وهو ما يذكرنا بالثناء الذي تسيل به الصحافة الإسرائيلية وتصريحات الساسة والنخبة الصهيونية على السيسي الذي وفَّر لهم ما هو أكثر مما توقعوه. بل يبلغ التشابه حدا مثيرا بين وصف سعيد بأنه "راعي الإرسالية التنصيرية الأمريكية"[8] ووصف السيسي بأنه "بطل إسرائيل".

من أوجه الشبه كذلك بين سعيد والسيسي أن كليهما جاء على رغبة الأجانب، وكان كل منهما خلفا لحاكم يهدد المصالح الأجنبية، فقد اشتهر عباس الأول بأنه شديد الكراهية للأجانب وأنه يسعى في التخلص من نفوذهم، وتعددت الأقوال في تفسير هذا، مما أعطى عملية اغتياله في قصره بُعْدًا تآمريا إذ يُشتبه في أن للفرنسيين على الخصوص يدا في هذه العملية لتمهيد الطريق لربيبهم سعيد. وكذلك كان مرسي مثيرا للمخاوف بالنسبة للغرب إن استمر في حكمه لذلك عجَّلت المنظومة الغربية بالانقلاب عليه والإتيان بالسيسي، وهو واحد من الطبقة العسكرية المصرية التي تشربت الثقافة الأمريكية كما شهدت لهم آن باترسون –السفيرة الأمريكية في مصر ومهندسة الانقلاب العسكري- في جلسة استماع بالكونجرس بتاريخ 19 سبتمبر 2013م.

أما وجه الشبه الأخير فيكمن في أن سعيد باشا هو صاحب اختراع القروض، فهو الحاكم الأول الذي يقترض من البنوك الأجنبية والمصارف الدولية بغير سبب إلا الإنفاق على سفاهته وحماقته، وهي السنة التي تبعه فيها خلفه إسماعيل حتى زادت الديون الربوية الفاحشة وكانت السبب المباشر في التدخل الأجنبي المباشر في إدارة شأن الدولة.. وها نحن نرى السيسي لا يكاد يفعل إلا أن يقترض لينفق ثم يقترض لينفق ثم يقترض لينفق، وليته ينفق في أمر مهم، بل في صناعة زينته وأبهته وشراء شرعيات من الخارج وأسلحة لن يستعملها!

وهكذا يجدد السيسي سياسة سعيد باشا، إلا أن بعض الشرِّ أهون من بعض، فعلى الرغم من كل ما فعله سعيد إلا أنه رفع بعض الضرائب عن المصريين، وسمح للفلاحين بتملك الأراضي، وسمح للمصريين بالترقي للرتب العليا في الجيش، ولما وصل إليه أن نوابه في السودان يظلمون الناس فكَّر في الانسحاب من السودان وتركه لأهله، ولم تسجل عليه مذبحة لأبناء البلد كالتي حصلت في رابعة أو النهضة أو رمسيس أو غيرها من سلاسل المذابح!

كأن هذا السيسي جمع كل الشرَّ فتمثل بشرا!

ألا صدق أحمد مطر:
أنا لست أهجو الحاكمين وإنما .. أهجو بذكر الحاكمين هجائي




[2] راجع هذه المقالات الأربعة في بيان قصة قناة السويس وما تمثله من خطر وكارثة على المصالح المصرية: أخطار وأضرار قناة السويس، هل تضحي مصر بنفسها لمصلحة الأجانب، ماذا قال المؤرخون الأجانب عن قناة السويس، فصل من قصتنا مع الشرعية الدولية.
[3] إلياس الأيوبي، تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا، ط2 (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1996)، 1/ 183؛ جاك كرابس جونيور، كتابة التاريخ في مصر القرن التاسع عشر: دراسة في التحول الوطني، ترجمة وتعليق: د. عبد الوهاب بكر، سلسلة الألف كتاب الثاني 118 (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993)، ص130.
[4] John P. Dunn, Khedive Ismail’s Army, (London and New York: Routledge,2005), p. 21.
[5] أشرنا سابقا إلى أغراض محمد علي باشا في مسألة التعليم في مقال فصول من مأساة السلطة والعلم.
[6] إلياس الأيوبي، تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا، 1/184 وما بعدها؛ عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، ط4 (القاهرة: دار المعارف، 1987)، 1/48، 49.
[7] د. خالد محمد نعيم، الجذور التاريخية لإرساليات التنصير الأجنبية في مصر: دراسة وثائقية، (القاهرة: كتاب المختار، بدون تاريخ) ص44 وما بعدها.
[8]  Andrew Watson, The American Mission in Egypt: 1854 to 1896,  seconed edition (Pittsburgh: united Presbyterian, 1904), p. 333

مدج المستشرقين والمؤرخين الغربيين للسلطان الناصر صلاح الدين

رغم أن الحملات الصليبية بلغت ثماني حملات وامتدت على طول قرنين من الزمان، إلا أن شخصية السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي علقت في ذاكرة التاريخ الإنساني بتميز خاص، فذلك الرجل الذي لم يواجه سوى الحملة الصليبية الثالثة فحسب ولم تكن مدة حكمه سوى عشرين سنة فحسب استطاع أن يخلد في التاريخ الإنساني كواحد من أهم أبطاله.

استمد صلاح الدين عظمته من أمور عدة، من أهمها: أنه حرر بيت المقدس من بعد قرابة قرن من احتلاله، ثم أنه صمد أمام جيوش أوروبا وأقوى ملوكها وحافظ على بقاء بيت المقدس بحوزة المسلمين، إلا أن الذي هو أهم شيء قاطبة ما أبداه من حسن الخلق ونبل الفروسية الإسلامية التي سحرت معاصريه ومن تبعهم من المؤرخين حتى اليوم.

ولئن كثر الحديث عن صلاح الدين بين العرب لا سيما بعدما صار بيت المقدس أسيرا، فإن مما لا يُنتبه له كثيرا ما قاله المؤرخون الغربيون والمستشرقون عن شخصية صلاح الدين وأثرها في معاصريه، وكيف أنه انتصب نموذجا للسلطان المسلم حين ينتصر في المعركة كأقوى ما يكون النصر ثم يسيل سخاء ورحمة وحلما في التعامل مع العدو بعد أن صاروا مهزومين وأسرى، وهو الأمر الذي بدا مناقضا لما فعله الصليبيون حين اقتحموا بلاد الشام والقدس فأقاموا فيها مذابح تاريخية، بل ولم يفعله ملوك النصارى أنفسهم تجاه رعاياهم فلقد كان صلاح الدين أرفق برعاياهم منهم.

مجالات الكتابة الاستشراقية عن صلاح الدين

لقد كتبت العديد من الدراسات الغربية عن شخصية صلاح الدين، وتعددت وجوه التناول في هذه المؤلفات:

  • فمنها ما أُفْرِدَ له كما ستانلي لين بول في كتابه "صلاح الدين وسقوط مملكة بيت المقدس"، وهاملتون جب في "حياة صلاح الدين"، ومالكوم ليونز وجاكسون في "صلاح الدين: سياسة الحرب المقدسة"، وتشارلز بوزلت في "صلاح الدين أمير الفروسية".
  • ومنها ما جاء في فصول ضمن موضوعات أخرى، إما في تأريخ الحروب الصليبية كما هو المتوقع من كل مؤرخ يتعرض لهذه الفترة، أو في التأريخ لمدينة القدس كما فعلت كارين أرمسترونج في "القدس: مدينة واحدة وثلاث عقائد"، أو في التأريخ لمدينة القاهرة كما عند ستانلي لين بول في "سيرة القاهرة" وأولج فولكف في "القاهرة: مدينة ألف ليلة وليلة" وجاستون فييت في "القاهرة: مدينة الفن والتجارة".
  • ومنها ما جاء عرضا ضمن استعراض تاريخ الإسلام وحضارته مثلما فعل ول ديورانت في "قصة الحضارة"، وجوستاف لوبون في "حضارة العرب"، وكارل بروكلمان في "تاريخ الشعوب الإسلامية"، ومايكل مورجان في "تاريخ ضائع"، وغيرهم. 
  • ومنها ما جاء عرضا في سياق مناقشة العلاقة بين الإسلام والمسيحية مثلما فعل مكسيم رودنسون في "الصورة الغربية والدراسات العربية والإسلامية".
  • ومنها ما ركز عليه كنموذج لتصحيح الصورة المشوهة عن المسلمين كما فعلت زيجريد هونكه في "الله ليس كذلك"، وتوماس أرنولد في "الدعوة إلى الإسلام".

وقد تعددت القراءات لهذه الشخصية، فبعضهم أنصف حتى بالغ للغاية، وبعضهم حملته حقائق التاريخ على اختراع الأساطير التي تقول بأن صلاح الدين من نسل مسيحي وأنه مات على المسيحية، وما ذلك إلا لأنه لا يقبل ولا يتصور أن يكون صلاح الدين –بهذه الأخلاق- مسلما! وبعضهم لم تسمح نفسه بمدح صلاح الدين دون أن يطعن فيه.

هذه السلسلة من المقالات تلقي الضوء على هذا الجانب الذي تندر الكتابة فيه، وهي تسرد بعضا مما جاء من مدح صلاح الدين في كتابات المؤرخين الغربيين والمستشرقين كنوع من شهادة الخصوم (وشهد شاهد من أهلها)[1]، وسيبدو كيف كان تقدير المؤرخين الغربيين عظيما لصلاح الدين، حتى من تعصب منهم كانت مناوراته ومحاولاته لسلب صلاح الدين من الإسلام في حد ذاتها دليلا على هذا التقدير.

السلطان المثير للإعجاب

تنوعت جوانب الإعجاب التي أثارها السلطان الناصر في نفوس المستشرقين، إلا أن تعامله مع المغلوبين حين حرر بيت المقدس وأخلاقه في الحرب مع ريتشارد قلب الأسد كان لها نصيب الأسد من ذلك الإعجاب، وقد اخترنا من وجوه الإعجاب هذه سبعة أوجه فحسب.

1. قوة الشخصية وولاء الأتباع

يقرر المستشرق الإنجليزي ستانلي لين بول، وهو صاحب أول سيرة واقعية كاملة غربية لصلاح الدين في نهاية دراسته عنه أن "كل قوة المسيحية المركزة في الحملة الصليبية الثالثة لم تستطع أن تهز سلطة صلاح الدين. من الممكن أن يكون جنوده قد تذمروا طوال الأشهر من الخدمة الصعبة والخطرة، سنة بعد سنة، ولكنهم لم يرفضوا أبدا طلبا له للحضور وقدموا أرواحهم في سبيل تنفيذ غايته. أتباعه في الأودية البعيدة كنهر دجلة لربما تأوهوا لطلباته الدائمة، ولكنهم قدموا خدمهم بإخلاص تحت رايته. أخيرا في موقعة أرسوف الأخيرة أظهرت فرقة الموصل شجاعة فائقة وعظيمة. خلال جميع هذه الحملات المتعبة كان صلاح الدين دائما يعتمد على الفرق الوافدة من مصر ووادي الرافدين، كما اعتمد على فرق من شمالي وأواسط سورية من الأكراد والتركمان والعرب والمصريين، كلهم مسلمون وهم خدمه عندما يدعوهم بالرغم من الفروق في أعراقهم وغيرتهم الوطنية وفخارهم القبلي، فقد جمعهم كلهم كفريق واحد –ليس بصعوبة لكن لمرتين أو ثلاث بحساسية متشككة. بالرغم من تملص بعضهم في يافا فإنهم ظلوا جيشا متحدا تحت إمرته في خريف عام 1192م كما كانوا في أول مرة قادهم (في سبيل الله) عام 1187م. لم تسقط أية مقاطعة ولم يتخل رئيس ولا تابع عن الطاعة، بالرغم من متطلبات إخلاصهم وتحملهم كانت كافية لتجرب أقسى الإيمان وترهق قوة العمالقة"[2].

2. الزهد والورع

كتب المؤرخ الإنجليزي الشهير إدوارد جيبون في موسوعته الشهيرة "تاريخ اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها" أول صورة جميلة عن صلاح الدين في عمل علمي تاريخي غربي، فذكر في وصفه بأن "روحه الطموحة سرعان ما تخلت عن إغراءات اللذة لما هو أعظم خطرا من الشهرة والسلطان: كانت ملابسه من الصوف الخشن، وكان الماء شرابه الوحيد، وكان في زهده مثالا في العفة[3]، وهو في إيمانه وسلوكه مسلم صلب، وكان دائم الحزن أن انشغاله بالدفاع عن الدين حرمه من الحج إلى مكة، كان محافظا على الصلوات الخمسة يوميا، يؤديها خاشعا مع إخوانه، وإذا نسي فلم يصم حرص على الصدقة، وكان يقرأ القرآن على صهوة الخيل عند التقاء الجيوش، وربما نقل هذا على سبيل المبالغة كدليل على التقوى والشجاعة"[4].

ويذكر مؤرخ الحضارة الأمريكي ول ديورانت أن صلاح الدين "كان يعامل خدمه أرق معاملة، ويستمع بنفسه إلى مطالب الشعب جميعها، وكانت قيمة المال عنده لا تزيد على قيمة التراب، ولم يترك في خزانته الخاصة بعد موته إلا دينارا واحدا؛ وقد ترك لابنه قبل موته بزمن قليل وصية لا تسمو فوقها أية فلسفة مسيحية"[5].

ويفسر المستشرق الإنجليزي هاملتون جب إنجاز صلاح الدين بهذا الزهد، يقول: "لم يحقق هذا الأمر عن طريق القدوة التي تجلت في شجاعته وعزمه الذاتيين –وهما من سجاياه التي لا سبيل إلى نكرانها- بقدر ما حققه من خلال نكرانه للذات وتواضعه وكرمهن ودفاعه المعنوي عن الإسلام ضد أعدائه وضد من ينتمون إليه في الظاهر فحسب، على حد سواء. ولم يكن صلاح الدين رجلا ساذجا لكنه، مع ذلك، كان غاية في البساطة ورجلا نزيها لدرجة الشفافية. لقد أوقع أعداءه، الداخليين والخارجيين، في حيرة من أمره، لأنهم توقعوا أن يجدوا الحوافز التي تحركه على غرار حوافزهم، وتوسموا فيه أن يمارس اللعبة السياسية على طريقتهم هم. كان بريئا كل البراءة"[6].

ونستكمل جوانب إعجاب المستشرقين والمؤرخين الغربيين بالسلطان الناصر في المقال القادم إن شاء الله.

نشر في ساسة بوست



[1] ولهذا تعتمد الورقة البحثية منهج العرض والوصف دون التفسير والتحليل إلا في أحيان نادرة، وأما سياق تحليل وتفسير الرؤية الغربية لشخصية صلاح الدين فنحيل فيها إلى دراسات وبحوث كلا من: كارول هيلينبراند وناصر عبد الرزاق الملا جاسم.
[2] ستانلي لين بول، صلاح الدين وسقوط مملكة بيت المقدس، ترجمة: فاروق سعد أبو جابر، ط1 (القاهرة: وكالة الأهرام، 1995م)، ص287، 288.
[3] تقول العبارة الأصلية "أنه في زهده أكثر عفة من نبيه [صلى الله عليه وسلم]" فآثرنا أن نستبدل بهذه المبالغة السفيهة الحمقاء ما أثبتناه في المتن.
[4]  Edward Gibbon, The History of the Decline and Fall of the Roman Empire, (New York, J. & J. Harper, 1826), Vol 6, pp 25, 26.
[5] ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة: مجموعة، (القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب، 2001م)، 15/44، 45.
[6] هاملتون جب، صلاح الدين الأيوبي، تحرير: د. يوسف ايبش، ط2 (بيروت: بيسان للنشر والتوزيع، 1996م)، ص191، 192.