الأربعاء، فبراير 24، 2016

موجز تاريخ تركيا العلمانية (2)


مات أتاتورك (10 نوفمبر 1938م) وخلفه رفيقه عصمت إينونو الذي سار على دربه، إلا أنه اضطر –ضمن ما اضطر إليه من تغييرات في طبيعة النظام وخطابه- إلى فتح باب التعددية الحزبية (1946م) كجزء من انحياز تركيا إلى المعسكر الغربي في عالم انقسم حينئذ بين غرب ليبرالي وشرق شيوعي[1]، فدخلت تركيا ضمن خطة مارشال لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب (1948م) وانضمت للمجلس الأوروبي (1949م) وحلف الناتو (1952م) وحلف بغداد (1956م) الذي قُصِد به محاصرة الاتحاد السوفيتي جنوبا، واتفاقية الشراكة (1963م) التي تمهد لدخول السوق الأوروبية[2].

أُجْرِيَتْ في عام (1946م) أول انتخابات تركية، ثم أجربت انتخابات (1950م) وكانت أول انتخابات نزيهة، وفاز فيها حزب العدالة المحافظ بزعامة عدنان مندريس، وهو برلماني سابق بحزب الشعب الجمهوري، لكنه استطاع أن يدخل إلى الأتراك من بابيْن: رفع سلطة الدولة عن الاقتصاد وكان هذا يناسب الطبقة الصناعية التي بدأت في البروز والتشكل، ورفع سلطتها عن الدين وتأييد المحافظة وإعادة رفع الآذان باللغة العربية، لم يكن التغيير كبيرا لكنه كان بداية توجه جديد، فأثيرت اضطرابات تزعمها اليسار وأججتها الدولة العميقة ثم ختمتها بانقلاب عسكري (27 مايو 1960م) أَعْدَمَ أوَّلَ رئيس وزراء منتخب في تاريخ البلاد (16 سبتمبر 1961م)[3]!

بدأ عقد جديد شُرْعِنَت فيه هيمنة الجيش على النظام السياسي[4]، عقد ظهر فيه سليمان ديميريل وريثا ونسخة مخففة لمندريس، فاز في انتخابات (1965م) في وقت علا فيه المدَّ اليساري أنحاء العالم الذي ألهمته أسطورة فيتنام، فصار لليسار صوت عالٍ في الشارع وفي البرلمان كذلك، ووُلِد حينئذ حزب العمال –أول حزب يساري- ونشط الطلاب اليساريون في الجامعات واصطدموا بالإسلاميين ومؤيدي حكومة ديميريل وبدأت فترة من الاضطرابات الواسعة، وفي ذروة الاضطرابات أجريت انتخابات (أكتوبر 1969) وفاز بها حزب العدالة للمرة الثانية، إلا أن هذا لم يوقف اليساريين من إشعال الشارع حتى لقد قاموا باختطاف أربعة أمريكيين فكانت تلك هي القشة التي يحتاجها وينتظرها بل ويسعى إليها العسكر لينفذوا انقلاب (مارس 1971م)، وقد رحب اليسار بهذا الانقلاب كعادتهم، ثم كانوا من ضحاياه كعادتهم أيضا، وساعتها أدركوا أن الدولة العميقة لا تأبه للمتعاونين معها ولا لمرة واحدة[5].

وافتتح الانقلاب العسكري عقدا آخر، زاد عليه فوق شرعنة هيمنة العسكر دستورا يخصم مزيدا من الحقوق والحريات، ولم تفلح الحكومات المتعددة في وقف تدهور الأوضاع (11 حكومة: أطولها عمرا ثلاث سنوات، وأقصرها عمرا شهر واحد)، برز في هذا العقد ثلاثة رجال إلى جانب ديميريل: بولنت أجاويد زعيم حزب الشعب الجمهوري، ونجم الدين أربكان زعيم حزب السلامة الإسلامي، وألب أرسلان توركيش زعيم حزب الحركة القومية، ومع تنافر الأطراف وعجز كل طرف منها منفردا أو متحالفا مع الآخر عن السيطرة على الأوضاع انتهى عقد السبعينات هذا إلى اضطرابات أخرى جديدة ساهم فيها وأشرف على كثير من فصولها جهاز الدولة العميقة لكي يدفع المشهد إلى اللحظة المنتظرة: انقلاب عسكري آخر (1980م)[6].

كان انقلاب (1980م) الأكثر دموية، إذ حبس وعذب أكثر من نصف مليون مواطن، ووضع نحو 2 مليون تحت الاشتباه، وحكم بالإعدام على أكثر من خمسمائة نَفَّذ منها خمسين، ومنع نحو أربعمائة ألف من السفر، وطرد من البلاد ثلاثين ألف ناشط سياسي، وأسقط الجنسية عن 14 ألف تركي، وحظر النقابات، وكاد يقضى تماما على الروابط والجمعيات[7]، ومع ذلك فلأول مرة يبدو خطاب العسكر الأتاتوركي نحو الإسلام جديدا ومتسامحا ومعظما له، واعتبر هذا من ضرورات الحرب الباردة لمواجهة الشيوعية ومن ضرورات احتواء المدّ الإسلامي بأسلمة "تقودها الدولة من فوق"[8] وتعيد تكييف الإسلام لصالح الدولة[9].

قبض العسكر بأنفسهم على زمام الحكم لثلاث سنوات عجاف وضعوا فيها دستورا استبداديا منزوع الحريات حتى جاءت انتخابات (ديسمبر 1983م) بزعيم جديد هو تورجت أوزال فوق رأس حزب جديد هو "الوطن الأم" الديمقراطي المحافظ[10]، وقد تُرك هذا الحزبُ ليدخل الانتخابات كزخرف ديمقراطي مع حزبين تابعيْن على الحقيقة للعسكر فكانت المفاجأة أنه الذي فاز[11]، وكان أوزال عضوا في طريقة اسكندر باشا النقشبندية الصوفية[12]، ويوصف بأنه "أول رئيس تركي يخفي إيمانه ويختلس الصلاة في القصر الجمهوري بعيدا عن العسكر"[13]، كما حرص على صيام رمضان وحج البيت[14]. ولقد توفرت ظروف عديدة صنعت مزيجا غريبا في السياسة التركية: إذ جاء الانقلاب بنمط اقتصادي ليبرالي صريح وفي مناخ دولي يحارب الشيوعية ولا يرى بأسا في دعم وجود أوسع للإسلام في المجال العام لكن بغير تأثير في السياسية (ولذلك وضع دستور 1982 عتبة الـ 10% لدخول البرلمان منعا للأحزاب الكردية والإسلامية[15])، وأنشئت العديد من المساجد ومدارس الأئمة والخطباء في ذات الوقت الذي أنشئت فيه تماثيل أتاتورك بغزارة مع سياسات ورؤى وخطاب قومي تركي عسكري عنصري[16]، وقد استطاع أوزال –وهو كردي!- أن يكون كل هذا معا وأن يكون –برغم كل شيء- ممثل الشعب الذي تلتقي عليه أطياف المحافظين والإسلاميين والقوميين أمام سطوة "الدولة العميقة" مثلما كان مندريس، لا سيما وقد استمر قائد الانقلاب كنعان إيفرين رئيسا للجمهورية[17].

نشر في تركيا بوست



[1] Lapidus: A History of Islamic Societies, p. 505; Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 33.
[2] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص85، 86، 91.
[3] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص88، 91؛ Lapidus: A History of Islamic Societies, p. 505-6; Binnaz Toprak: The Religious Right, p. 633..
[4] Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p.35-6; Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 13.
[5] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص89، 91، 94، 96، 97.
[6] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص99 وما بعدها؛ Lapidus: A History of Islamic Societies, p. 506-7; Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 16.
[7] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص43؛ Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 17.
[8] Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 17-9.
[9] William Hale, Ergun Özbudun: Islamism, Democracy, and Liberalism in Turkey, the case of AKP, (London and New York, Routledge,2010), p. xx.
[10] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص108 وما بعدها، Lapidus: A History of Islamic Societies, p. 507.
[11] Heinz Kramer: A Changing Turkey, The Challenge to Europe and the United States, (Washington D. C., Brooking Institution Press, 2000), p. 25; Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 19.
[12] M. Hakan Yavuz, John L. Esposito: Turkish Islam and the Secular State: The Gülen Movement, (New York, Syracuse university press, 2003) p. xxvi; Heinz Kramer: A Changing Turkey, p. 64.
[13] برنامج تحت المجهر: "العثمانيون الجدد"، قناة الجزيرة، بتاريخ 26 يوليو 2007
[14] Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 20.
[15] Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 38.
[16] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص112 وما بعدها؛ Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 37-8; Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 3.
[17] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص120، 124؛ Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 39-40.

الأحد، فبراير 21، 2016

مات هيكل.. نكبة الأمة العربية

"إن كنتم قد هزمتم جيلنا بالمدفع والدبابة، فقد هزمناكم بالكلمة، وغدا يأتي جيل يبصق على قبوركم وصحافتكم ودبابات أتت بكم وأضاعت الوطن"
محمد جلال كشك مخاطبا محمد حسنين هيكل

(1)

ماذا بوسع المرء أن يكتب عن هيكل؟!

إن الأمر ثقيل كبير، وواسع ممتد، فلم يكن هيكل مجرد فيلسوف منافق، ولا صحفي أفاق، ولا كاهن في معبد الاستبداد، ولا هو مجرد خائن لأمته ومُضِلٍّ لقرائه.. هيكل هو كل هذا معا، هيكل هو أشهر وأكبر مزور للتاريخ في القرن العشرين، هيكل لم يكن كاتبا للتاريخ فحسب بل صانعا له، ولقد مات هيكل ولم ينكشف كل سره، ولا ينكشف سر هيكل إلا بسقوط دولة العسكر كلها، حينئذ تظهر الروايات الخفية التي يمنع انتشارها قوة السلطة أو الخوف منها، فهيكل عمود من أعمدة الدولة العسكرية البغيضة التي ابتليت بها مصر منذ انقلاب 1952، وهو العهد الذي ذاقت فيه مصر أظلم عصورها على الإطلاق، فلا يقاس بحقبة العسكر شيء: لا حقبة الاحتلال الإنجليزي ولا حقبة محمد علي ولا حقبة العثمانيين ولا حقبة المماليك، كل هذه الأحقاب هي جنة وارفة إذا قورنت بحقبة العسكر، ولكن ليس يعلم هذه الحقيقة من يجهل التاريخ، فالتاريخ هو مصباح الضوء الوحيد الذي يكشف حقيقة الحاضر في ميزان الماضي.

فماذا بوسع المرء أن يكتب عن هيكل، وهو عمود من أعمدة هذه الحقبة؟!

إن المرء حيث ولى وجهه يلتمس الكتابة ارتد إليه القلم خاسئا وهو حسير، لسان حاله مقالة الشاعر:

من أين تبدأ هذا البوح يا قلم .. أم كيف تصبر والأحداث تزدحم
هذا النزيف على جنبيك منبثق .. وفي فؤادك من فرط الأسى ألم

(2)

وحيث كان لا بد من الاختيار فقد آثرت أن أكتب فيما هو أبعد شيء عن التصديق لمن لا يعرف هيكل..

هل تعرف أن هيكل كان ببساطة: توفيق عكاشة عصره؟!!

شئ لا يصدق!!

نعم! صحيح أن هيكل لديه من الثقافة الموسوعية ورشاقة القلم وموهبة الصحافة والإعلام ما لا يجوز مقارنته بتوفيق عكاشة، إلا أن هذا هو ما يظهر لأهل زماننا هذا.. إذ لو استمر حكم العسكر لصار الجيل الذي سيأتي بعد ستين سنة يتعامل مع توفيق عكاشة بذات الإعجاب والانبهار الذي يتعامل به الجيل الحالي مع هيكل.

وهذا الفارق نفسه بين هيكل وبين توفيق عكاشة ما هو إلا حصاد حكم العسكر، لقد كان صحافي السلطان في عصر عبد الناصر نتاجا للثقافة والتعليم في عصر الملكية والاحتلال الإنجليزي، لذا كان المستوى الموجود على قدر مصطفى أمين وعلي أمين وهيكل، أما بعد استقرار حكم العسكر لستين سنة وإنتاجهم أجيالا جديدة لم تجد السلطة إعلاميا يعبر عنها إلا أن يكون في مستوى توفيق عكاشة وعمرو أديب والإبراشي والجلاد ممن لا يستطيع أحدهم تأليف كتاب أو حتى الحديث لخمس دقائق بلغة عربية سلمية!!

لكن الشبه بين هيكل وتوفيق عكاشة لا ينحصر في كون كل منهما لسان السلطة المجرمة، بل في تلك القدرة المثيرة للدهشة –والاحتقار معا- على تزوير التاريخ والواقع، ولقد كان عكاشة سيئ الحظ في عصر اليوتيوب والبواحث الإلكترونية التي تأتيه بتقلباته وتلونه، بينما كان هيكل محتاجا إلى مثقف يتتبع إنتاجه ليرصد تزويره للتاريخ بل وتعديله للرواية الواحدة في الكتاب الجديد، بل واختلاف ما يكتبه في الطبعة الإنجليزية عما يكتبه في الطبعة العربية، فيقول بعض الحقيقة لقرائه الأجانب بينما يمارس التهريج على قرائه العرب! وسنأتي لتفصيل هذا بعد قليل.

وهما يتشابهان كذلك في تلك القدرة المثيرة للدهشة وللاحتقار أيضا على تزييف الواقع وتسمية الأمور لا بغير مسمياتها وإنما بضد مسمياتها، فمثلما اعتبر عكاشة نفسه "مفجر ثورة 30 يونيو"، كان هيكل قبله بعقود يسوق لقرائه أن حرب 1956 هي "أكمل نصر عربي في العصر الحديث"!! ولك أن تضع من علامات التعجب والذهول ما تشاء لتسأل بعدئذ عن معنى كلمة النصر ومعنى كلمة الهزيمة في قاموس هيكل!

هيكل بشَّر قراءه عند نكبة 67 بأنهم قرروا تلقي الضربة الأولى! هذا بعد أن كانت كل الأحداث تثبت أن مصر هي التي تسير إلى الحرب وتطلب من الأمم المتحدة سحب البوليس الدولي!! ثم إنهم بعد أن قرروا تلقي الضربة الأولى لم ينتصروا كما هو متوقع ممن "قرر تلقي ضربة"، بل اكتسحتهم إسرائيل اكتساحا تاريخيا غير مسبوق، فإذا به يبشر قراءه للمرة الثانية بأنهم لو كانوا بدؤوا بالهجوم لم يكونوا لينتصروا كذلك.. إذن ماذا كنتم تفعلون؟! ولماذا سرتم إلى الحرب هذا السير الحثيث؟!

نعم، كانوا يقضون وقتهم في التفتيش عن مصطلح مخنث، ولذلك كان إنجاز هيكل في هذا الحرب هو ابتكاره لفظ "نكسة" ليعبر بها عن هذا الاكتساح التاريخي في تاريخ الحروب، ثم ليتحول هذا بعدئذ إلى نصر! أي والله "نصر"! لماذا؟ لأن إسرائيل لم تنجح في إسقاط الزعيم!!

هل تذكر ما فعله عكاشة في حرب غزة؟! هل تذكر كيف كان حقده يسيل على المقاومة والغزاويين؟! مثل هذا كان يفعله هيكل: فهو مع تيتو الزعيم الشيوعي اليوغوسلافي مهما كانت مجازره ضد المسلمين، وهو مع غاندي ونهرو والهندوس ضد باكستان والمسلمين في الهند، وهو مع هيلاسيلاسي سفاح الحبشة ضد المسلمين هناك، ويصاغ كل هذا بعبارات السياسة والقومية والمصالح الوطنية ولا يدري القارئ المسكين ما خلف الصورة!

هذا بعض من بعض من بعض ما فعله هيكل.. لم يكن إلا توفيق عكاشة عصره! إلا أن عكاشة عصرنا كان سيئ الحظ إذ نشأ في مدارس العسكر ودرج في إعلام العسكر فجاء أحمق أخرق سفيها سخيفا عيي اللسان والعقل، وجاء في عصر اليوتيوب والفضائيات حيث يستطيع الناس سماع غيره، أما هيكل فلقد كان سعيد الحظ إذ نشأ في تعليم وثقافة عصر المليكة والاحتلال فكان موهوبا وفصيحا، ثم كان في عصر الصوت الواحد حيث لا يستطيع أحد أن يسمع شيئا لا يريده هيكل ولا زعيمه!!

أمر ثالث كان عكاشة سيئ الحظ فيه، وهو أنه عمل في خدمة المخابرات الحربية، بينما كان أستاذه هيكل أعلى قدرا بمواهبه ولظروف التاريخ الانتقالية التي حتمت قدوم الأمريكان عند غروب الإنجليز، لقد كان أستاذه عميلا للأمريكان مباشرة!

(3)

هل تعلم أن هيكل كان عميلا للمخابرات الأمريكية؟!

شيء لا يصدق أيضا!!

لا تتعجل، اسمع هذه القصة..

ذات يوم مكفهر عام 1965، انقلبت الأيام على مصطفى أمين، مؤسس دار أخبار اليوم، ووجد الرجل نفسه في السجن من بعد ما عاش حياة رغيدة على عرش الصحافة المصرية منذ 1944، لم يُعرف بدقة أسباب هذا الانقلاب من عبد الناصر عليه، إلا أن التهمة التي وجهت له كانت: التجسس لحساب الأمريكان!

في السجن حاول مصطفى أمين استعطاف عبد الناصر، فكتب رسالة سجل فيها اعترافاته، وذكر فيها لقاءاته مع رجال المخابرات الأمريكية منذ منتصف الأربعينات، وسرد فيها بالأسماء تواصله معهم ولقاءاته بهم وأماكنها وماذا حصل عليه من المعلومات منهم، وماذا أعطى لهم، وكيف سهلوا له لقاءا بمدير المخابرات الأمريكية "آلان دالاس"، وكيف كان هو الخط الخلفي لدولة عبد الناصر في التواصل مع الأمريكان وكيف كان مخلصا له في كل هذه الاتصالات وأنه قام من خلالها بأشياء عظيمة لمصلحة الوطن ومصلحة عبد الناصر، وذكر له كل هذا في صيغة استعطاف تذكره بالأيام الخوالي وكيف وقف معه ضد محمد نجيب، وكيف أعطاه معلومات مهمة من السفارة الأمريكية ... إلخ!

قيمة رسالة مصطفى أمين هذه أنها وثيقة تثبت صناعة انقلاب يوليو على أيدي رجال المخابرات الأمريكية، لكن المهم في سياقنا الآن أن مصطفى أمين وهو يقول هذا كله، ظل يؤكد على عبارة يكررها كثيرا إثباتا لصدقه، وهو أن كل هذه اللقاءات كانت بحضور محمد حسنين هيكل!!!!

في ذلك الوقت كان هيكل تلميذ مصطفى أمين، والرجل الثالث في دار أخبار اليوم، ومديرا لعدد من إصداراتها، وكانت أخبار اليوم منذ نشأتها صوت الاستبداد والاحتلال، الصوت المضاد للحركة الوطنية ضد الملك والإنجليز، ثم ظهر بوضوح أنها تابعة للأمريكان منذ نوى الأمريكان في مطلع الخمسينات انتزاع مصر من التركة البريطانية فتحولت للهجوم على الملك والإنجليز، ثم بعيد الانقلاب شنت حملة كبرى على محمد نجيب.

[انظر الرسالة وتعليق هيكل عليها في كتاب هيكل "بين الصحافة والسياسة" ص155 وما بعدها. ط6 شركة المطبوعات 1985م، وانظر تعليق محمد جلال كشك على الرسالة وعلى تعليق هيكل في كتابه "ثورة يوليو الأمريكية" ص273 وما بعدها. ط2 دار الزهراء للإعلام العربي 1988م.]

وما يهمنا في كل ذلك أن هيكل الذي سن قلمه عندئذ للهجوم على مصطفى أمين وأخيه علي أمين وإثبات تهمة التجسس على أستاذه القديم، لم يكن إلا الطرف الثالث الحاضر في أغلب اجتماعات مصطفى أمين برجال المخابرات الأمريكية، وأحيانا كانت الاجتماعات تجري في مكتب هيكل نفسه.

لم يستطع هيكل أن يدفع عن نفسه هذه التهمة إلا بحيلة بهلوانية، فقال بأن مصطفى أمين لديه حالة نفسية وأنه يتوهم أشياء لم تحدث ويرويها وهو مقتنع بصدقها، فهو ليس كذابا ولا يستدعي الأمر تحليلا، وإنما يستدعي الأمر طبيبا نفسيا! (انظر ص249 من كتابه "بين الصحافة والسياسة").

لم ينف هيكل إلا واقعتين من بين سائر الوقائع التي سردها مصطفى أمين، بالأسماء والأماكن وأحيانا بالتواريخ، وهو ما يجعلنا نثق أكثر برسالة مصطفى أمين لأنها موثقة، ولأنها في مقام الاعتراف والتوسل، ولأن هيكل صاحب مصلحة في نفي هذه التهمة بطبيعة الحال!

لكن أقوى ما يجعلنا نثق في رسالة مصطفى أمين هو أن تهمة العمالة للمخابرات الأمريكية ترد في مذكرات رجال المخابرات الأمريكية الذين عملوا في مصر في هذه الفترة، فالذين تعرضوا لعلاقة المخابرات الأمريكية بالصحافة المصرية ذكروا أن المخابرات استطاعت تجنيد: مصطفى أمين وعلي أمين ومحمد حسنين هيكل.

هذا الكلام قاله مايلز كوبلاند صاحب الكتاب الأشهر "لعبة الأمم"، وقاله -بأوضح عبارة- ولبر كراين إيفيلاند صاحب كتاب "حبال الرمال"، فصرح بأنه "في مطلع الخمسينات جندت المخابرات الأمريكية ثلاثة من الصحفيين المصريين هم: محمد حسنين هيكل والأخوين مصطفى وعلي أمين".

وحين نشر هذا الكتاب الأخير، استفز الأمر جلال كشك رحمه الله، فنشر القضية في مطبوعة "رسالة التوحيد" التي كان يحررها وحده (العدد الثاني، ديسمبر 1985م)، وفيها مارس جلال كشك أقسى ما يستطيع كاتب أن يمارسه من الاستفزاز ليدفع هيكل للرد على هذا الاتهام. فقال:

"والمطلوب الآن إن كان ما قاله كذبا –وهو لا يزال على قيد الحياة بالمناسبة- المطلوب هو أن يرفع هيكل ومصطفى أمين قضية على الكاتب الأمريكي، ويطلب كل منهما تعويضا مائة مليون دولار.. فما من إساءة أو إضرار بمكن أن يصيب مؤرخ الناصرية مثل اتهامه بالعمالة للمخابرات الأمريكية... إذا جرؤ هيكل على مجرد رفع القضية أمام القضاء الأمريكي فإن الشك سيزعزع الاتهام، وإذا استمر في القضية وحكم له القضاء فقد سقط الاتهام إلى الأبد، وحق له أن يجلس على منصة القضاء يتهم أساتذته [يقصد مصطفى أمين] وله علينا، وهذا عهد أمام الله والناس أن نطوف سبعة عشر مرة حفاة عراة إلا مما يحتمه القانون حول قبر الزعيم الخالد تائبين نادمين، نحثو التراب على رؤوسنا!! أما إذا لم يفعل ولن يفعل.. فلماذا لا تطالبه نقابة الصحفيين بتوضيح موقفه من هذا الاتهام الذي يمس بصورة أو أخرى سمعة الصحافة المصرية كلها.. فهذا اتهام معيب فاضح مشين منشور في كتاب طبع وبيع منه ما يقرب من مائة ألف نسخة، فلماذا يسكت وفي أمريكا قضاء؟! وإذا كان يشكو التكاليف فمن الممكن أن تتضامن معه النقابة، فهي قضية تمس شرف عميد الصحفيين الناصريين، بل إننا هنا في "رسالة التوحيد" على استعداد للتضامن معه بكل ما نطيق، فقط إذا استجمع شجاعته ولجأ إلى القضاء يدافع عن شرفه، وشرف من ائتمنه على تاريخه".





وقد صحَّ ظن جلال كشك وخاب استفزازه، وظل هيكل حيا لنحو ثلث قرن بعد هذا الكلام ولم يثأر لشرفه، رغم أنه اطلع عليه، واستشهد بهذا الكتاب نفسه في روايات أخرى وافقت رأيه.

(4)

طال المقال أيضا رغما عني، وكنت أنوي أن أضرب بعض الأمثلة عن تزويره للتاريخ، كما كنت أود أن أثير بعض الأسئلة عن موقع حسنين هيكل من خريطة السياسة العالمية، ولعل ذلك يكون في مقالات قادمة إن شاء الله تعالى.
لكن ما لا يجب بحال أن يفوت في هذا المقام هو لفت النظر إلى أستاذنا العملاق الراحل الأستاذ محمد جلال كشك رحمه الله، والذي تصدى لهيكل تصديا عنيفا، وتحداه كثيرا تحديا مهينا، وتعقب تزويره للتاريخ في كتبه، وكان من الطاقة والقوة بحيث يقرأ كتاباته بالعربية والإنجليزية ويستخرج الفوارق بينهما، بل لقد بلغ به الأمر مرة أن كتب في أخبار اليوم مقالا بعنوان "ما لن ينشره هيكل من الطبعة العربية في كتابه عن حرب الخليج"، وكان جلال كشك قد قرأ كتابه عن حرب الخليج في النسخة الإنجليزية وفيه ما يفضح ملك الأردن، فتحداه بهذا المقال الخطير، ثم خرج كتاب هيكل بالعربية "حرب الخليج أوهام القوة والنصر" خاليا مما تحداه به جلال كشك، وأصدر جلال كشك كتابا صغيرا عن هذا أسماه "الفضيحة: هيكل يزور التاريخ لحساب الملك حسين".

ولم يفكر هيكل مرة في الرد على جلال كشك في حياته ولا بعد موته فيما أعلم، إلا أنه ظل متحفزا بكل طاقته لضرب جلال كشك، وأتذكر أني كنت أتتبع تراث جلال كشك على الانترنت فوقعت على مقال صحفي مصري يعيش في السويد دخل في نزاع قضائي مع جلال كشك فلم يجد إلا أن يراسل هيكل، ومن فوره تحرك هيكل ليجعل المحامي عن هذا الصحفي هو يحيى الجمل شخصيا!

ويعد كتاب جلال كشك "ثورة يوليو الأمريكية" هو أقيم وأفضل ما يمكن قراءته في بيان تزوير هيكل للتاريخ، وفي إثبات ارتباط انقلاب يوليو بالمخابرات الأمريكية.

(5)

يستطيع جلال كشك الآن أن يقرَّ عينا في قبره، فقد مات هيكل وقد رأى بنفسه الجيل الذي بصق عليه وعلى قبره وعلى صحافته، وإن لم يستطع الجيل أن يحطم المدفع والدبابة بعد. لقد مات هيكل ولا يكاد في الشباب أحد يثني عليه أو يترحم عليه، ولا يكاد فيهم أحد يحترم مؤسساته التي عمل بها أو أنشأها: لا الأهرام ولا الأخبار ولا حتى مؤسسات تلاميذه التي لا زالت عاهرة تنام على فراش الحاكم العسكري، لقد صارت حقبة العسكر مبغوضة ملعونة، وصار هيكل وأقران هيكل وتلاميذ هيكل لعنة عند جيل الشباب الجديد.


وفي غد غير بعيد، يأتي جيل الدبابة والمدفع ليدك حصون العسكر ويطوي صفحتهم السوداء الملعونة التي ألقت بثقلها ودنسها على هذا البلد الكريم في تلك الأمة الخالدة.

نشر في ساسة بوست

الجمعة، فبراير 12، 2016

كيف خربت عصور الاحتلال المجتمعات الإسلامية

سلكنا في هذه السلسلة من المقالات رحلة طويلة نوشك الآن على نهايتها..

أردنا أن نتحدث عن منهج الإسلام في بناء المجتمعات، فبدأنا بالحديث عن تصورات الفلاسفة للمدينة الفاضلة، وكيف أجابوا على سؤال التغيير، فظهر لنا عيوب البشر حين يرسمون المناهج، مع ما ثبت من فشلهم في صناعة نموذج واحد لمجتمع واحد يحقق هذه الصورة.

ثم دلفنا إلى موضوع بناء الإسلام للمجتمع، وذكرنا أنه يقوم على أربعة أركان:

1.    الأساس العقدي المغروس في قلب المسلم، وهو التوحيد الذي يصوغ الأفكار والقناعات ويجيب عن الأسئلة الكبرى، ومنها: سؤال مهمة المسلم في هذه الحياة، وهي مهمة تعميرها ومقاومة الإفساد فيها ابتغاء وجه الله وطلبا للدار الآخرة.
  
2.    بناء شخصية المسلم المؤهل للقيام بهذه المهمة، فيكونَ أهلا للمسؤولية، ليس إمعة بل مستقل الشخصية، يتحلى بأخلاق المهمة، مستدركا ومستوعبا لأخطاء غيره، صلب لا ييأس أبدا.

3.     بناء النظام العام للمجتمع، الذي يحدد طبيعة السلطة وشرعيتها وثوابتها، ويحدد طبيعة المجتمع وروابطه التي تُمَتِّنُه وتقويه: الدين والرحم والجوار، ثم يحدد طبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع.

4.     ثم وجدنا في الإسلام نظاما تفرد به عن سائر المناهج والفلسفات، وهو نظام الحماية وجهاز الإنذار، ذلك هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فرسمنا خريطته، ونبهنا على أمور منسية يغفل عنها الكثيرون فيه، وذكرنا آثار إهماله وتركه.

وكانت المزية العظمى للمنهج الإسلامي أنه لم يكن نظريا فلسفيا ولا مجرد خيال محبوس في الأوراق، وإنما نشأ مجتمع إسلامي على الأرض وأعطى لتاريخ الإنسانية إنجازا عظيما لم يكن مثله لأي أمة في التاريخ، لا في ميزان الإنجاز السياسي والعسكري، ولا في ميزان الإنجاز الحضاري. وذكرنا أمثلة عن حيوية المجتمع وقدرته على المقاومة والتغيير من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الفردي، والجماعي.

ثم كان لا بد أن نروي قصة الهبوط، وكيف صرنا بهذا الضعف والهوان من بعد ما كنا على قمة الحضارة، ونفتش في جذور هذه النكبة، وكيف استطاع الغرب التفوق علينا وهزيمتنا وقهرنا. فوجدنا إجابة ذلك في ستة أمور: أخذوا منا ثلاثة تقيم حضارتهم وزرعوا في بلادنا قسرا الثلاثة الأخرى.

أما التي أخذوها واقتبسوها فهي: التحرر من سلطة الإقطاع والكنيسة، وقوة المجتمع، والتوحد رغم الخلافات العرقية والدينية. وأما التي غرسوها عندنا فهي: القوميات بدلا عن الوحدة، والعلمانية ذات الدولة المركزية، والنزعة الفردية.
هذه الثلاثة هي التي نتناولها في هذا المقال والذي يليه إن شاء الله تعالى، وبها نختتم هذه الرحلة في هذا الموضوع، والله المستعان.

***

"المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده"([1]).

مثلما كان الغرب وغيره من الحضارات مولعين بتقليد المسلمين أيام الازدهار الحضاري، جاءت عصور الضعف بما عكس الوضع، وصار المسلمون مولعين بالاقتداء بالغربيين.

على أن المسلمين حين انتشروا في الأرض لم يكونوا يريدون بأهلها إلا خيرًا، على العكس من الغربيين في لحظات قوتهم؛ فهم لم يريدوا نشر خير أو حضارة في البلاد المحتلة؛ بل أرادوا استلاب خيرها، وانتزاع مكامن قوتها لتصير تابعة أسيرة؛ ولهذا ترى آثار المسلمين في البلاد التي فتحوها –حتى ولو خرجوا منها- حضارة ونهضة، بينما آثار غيرهم في بلادنا –حتى بعد خروجهم- مشكلات ونزاعات حدودية وإثنية وقبلية، وأفكار منحلة هدامة، وتبعية سياسية واقتصادية وثقافية ما تزال الأمة تسعى للتخلص منها.

(1)

لا ريب أن الاحتلال لم ينزل بلادنا إلا بعد أن تفرقنا نحن أولاً، ولكن فرقتنا كانت فرقة الحكام؛ بينما كان الاتصال الشعبي قائمًا؛ إذ لا حدود ولا قيود ولا جمارك، ولا حرج على انتقال التجارة وطلاب العلم، وسائر البشر الذين يشعرون أنهم في وطنهم دار الإسلام، وإن تباعدت الديار.

بينما صنع الاحتلال في تلك الأمة الواحد حدودًا صارت مقدسة، بل صار تقديس الحدود والتراب أعلى وأولى من تقديس البشر، وصارت الجيوش الوطنية تدافع عن هذه الحدود، ولو بقتل المسلمين وإن كانوا لاجئين، وصار للوطن معنى آخر بخلاف الانتماء إلى دار الإسلام، واشتعل تأجيج النعرات القومية بين العرب والترك لإسقاط الخلافة العثمانية، ثم بين العرب وغيرهم من الشعوب كالسودان والأكراد والأمازيغ والفرس والتتر وغيرهم، ثم بين العرب أنفسهم؛ فأولئك مصريون جذورهم ضاربة إلى الفراعنة العظماء، وأولئك عراقيون المنتسبون إلى حضارات السومريين والبابليين، وأولئك سوريون أحفاد الفينيقيين، وأولئك التوانسة وجذورهم في حضارة قرطاج، وأولئك اليمنيون ورثة الحضارة العريقة في سبأ وعدن([2]).. وهكذا!

لقد ذاق الغربيون –أوروبيون وأمريكان- لعنة القومية والتفرق([3])، ولهذا فإنهم أجادوا صناعتها في بلادنا، وإليك هذا الاعتراف الغربي الباكي على أوروبا، التي أوقعتها القومية في الحرب العالمية الأولى، فأدت إلى أن "انهارت إمبراطوريات أوروبا الاستعمارية، وفُقِد موقعها البارز في العالم على نحو لا عودة عنه، وقامت الثورة الروسية (1917م) كنتيجة مباشرة للحرب، وكانت مع حلول عام 1953 قد أدت إلى ما يقارب 54 مليونًا من الوفيات، التي نجمت عن الحرب الأهلية والرعب، ومعسكرات الاعتقال والعمل، وأحكام الإعدام السياسي، ومن دون الحرب العالمية الأولى ما كنا على وجه اليقين تقريبًا قد وقعنا في بربريات ألمانيا النازية، أو الحرب العالمية الثانية، وهما الحدثان اللذان أديا فيما بينهما إلى ما يقارب 47 مليون قتيل ووفاة آخرين، وتدمير الحضارة الغربية. وبعد عام 1945 استمرت القومية في إحداث ضرر ضخم للعالم، ولكنه وقع بالدرجة الرئيسية خارج أوروبا الغربية وبرعاية أمريكية"([4]).
خريطة رالف بيتر لتقسيم العالم الإسلامي عرقيا ومذهبيا

هذا الاعتراف بأن لعنة القومية التي استمرت في العالم برعاية أمريكية ما زال –للأسف- لا ينبه الكثيرين من المسلمين إلى الحقيقة القائمة بأن تفريقهم إلى دول كل منها يتغنى بقوميته ووطنيته وترابه الغالي إنما يجعلهم جميعًا أذيالاً وتبعًا مُحَقِّقًا فيهم هدف خطة عدوهم، بل إن البعض([5]) يؤسس فكرًا وتنظيرًا لتفريق الأمة، وعلى الرغم من ذلك يتبوأ مكانًا عاليًا في الصحافة ودوائر الإعلام.

إن القومية التي زرعها الغرب لم تكن من نوع العلاقات المترابطة التي حرص عليها الإسلام كما أسلفنا من قبل، بل لا بد من الوعي بأن القومية الغربية -التي نشأت كانسلاخ من الكنيسة الدينية ومن وحدة اللغة اللاتينية وارتبطت بنمو الطبقة البرجوازية ضد نظام الإقطاع- كانت تحتاج إلى أن تتسلح بالتعصب والعنصرية لتكون انسلاخًا وبديلاً عن الوضع القديم، ولرسم معالم وحدود ونفوذ التوجه الجديد، ولأن الحضارة الغربية مادية، ولفساد الكنيسة المسيحية لم تستطع عوامل التوحد إنقاذ المسار من التمزق القومي، وكل ما سبق إنما هو نقيض مخالف تمامًا للوضع في المشرق الإسلامي([6]).  

لكنهم نجحوا في تمزيقنا، وزرعوا في بلادنا القومية بخصائصها التي نبتت في بلادهم، وهم لا يقنعون، بل ما تزال خطة التقسيم والتفريق مستمرة، وما يزال الباحثون يقترحون تقسيمًا جديدًا للعالم الإسلامي، وكان المستشرق الأمريكي اليهودي برنارد لويس صاحب أشهر خطة تقسيم معتمدة على التوزيع العرقي والمذهبي، وقد اعتمد عليها المحلل العسكري الاستخباري رالف بيتر في رسم خريطة أشد وضوحًا لتقسيم العالم الإسلامي.

وعبر التاريخ المعاصر لم تلق الأمة أقسى ولا أمرَّ ولا أكثر نكالاً من حكام نادوا بالقومية؛ مثل: عبد الناصر وصدام حسين والقذافي وحافظ الأسد وابنه بشار، فلم ينتصروا على عدوهم ولم يكونوا أشداء إلا على شعوبهم.

ولم يكتف الغربيون بالتفتيت السياسي، بل لقد استفادوا من تجربة تمزقهم هم؛ ذلك أن العامل الأهم في التمزق الأوروبي إلى قوميات هو استبدالهم اللغات القومية المحلية باللغة اللاتينية، التي كانت لغة رجال الكنيسة، وفي إطار النزاعات الدينية والنزاع بين الكنيسة والأفكار المتحررة منها بدأت تظهر الكتابات باللغات المحلية، فكتب دانتي "الكوميديا الإلهية" بالإيطالية، وكتب مونتاني أدبه بالفرنسية، ووضع شوسر "قصص كانتربري" بالإنجليزية، وهكذا، وساهم انتشار الكتابات باللغات المحلية في تيسير الإقبال عليها واحتضانها شعبيًّا، ثم ترسخ هذا الأمر حتى صار الاعتزاز باللغة المحلية من الاعتزاز بالقومية([7])، ويُعَدّ هذا العائق اللغوي هو الأكبر والأصلب أمام بين وحدة حقيقية لأوروبا لا سيما وأن اللغات المحلية استطاعت أن تكون لغات حية، واستطاعت دفن وإنهاء اللغة اللاتينية وجعلها شيئًا من التاريخ.

ولهذا عملوا على إشعال الدعوة للهجات العامية واللغات المحلية؛ سعيًا لضرب اللغة العربية التي تمثل الوحدة الثقافية لبلاد العرب، وخيط الوحدة الدينية الأخير بين المسلمين، وبدأ السعي الحثيث في إنتاج أدب باللغات العامية، بدأت الفكرة من لدن الأوروبيين –وتحديدًا ولهلم سبيتا ثم ويلم ويلكوكس- ثم سرت عبر ألسنتهم في بلادنا مثل لطفي السيد وعبد العزيز فهمي وسلامة موسى وغيرهم([8]). لكن تلك الدعوات لم تحقق نجاحًا مؤثرًا فارتباط المسلمين بالقرآن العربي وبالتراث الإسلامي الهائل يجعل أمر اللغة من أمر الدين.

ولقد كان لهذا التمزق من الأمة الواحدة إلى القوميات آثار جد بعيدة، لقد صارت الأوطان أعلى في النفوس من الأمة، ولم يعد أغلب الناس يهتم لأمر الأمة بل لأمر الوطن، وصارت الأنظمة الحاكمة لا ترى نفسها مسئولة عن عمقها الإسلامي، وطالت الآثار حتى فتاوى الفقه التي وجدت نفسها في واقع لا بد من معالجته، فكانت معالجاتها جزءًا من ترسيخ هذا الواقع نفسه، لم تعد مجازر المسلمين تهز مسلمين آخرين؛ لأن حدودهم التي رسمها المستعمر لم تستوعب أولئك المذبوحين، وكانت الحدود منبتة لفكرة أن "المواطن الكافر أقرب وأهم من المسلم البعيد"، وأن للكافر في الوطن حق ليس للمسلم الغريب، وصار الأمر من القوة بحيث يمكن أن نقع فيه بلا قصد وإن حرصنا([9]).

نشر في ساسة بوست



([1]) ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/184.
([2]) د. محمد محمد حسين: الاتجاهات الوطنية 2/96، 137 وما بعدها، و142 وما بعدها.
([3]) راجع الفصل السابق.
([4]) ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص31.
([5]) ونعني بهذا طائفة من الناس وليسوا شخصًا، وأما أبرزهم فهو الصحافي الناصري المعروف محمد حسنين هيكل، والذي تدفع كثير من المصادر بأدلة وافرة على تبعيته –أو على الأقل اتصاله- بالمخابرات الأمريكية، انظر مثلاً: محمد جلال كشك: كلمتي للمغفلين، ثورة يوليو الأمريكية، الفضيحة، الجنازة حارة، ود. سيار الجميل: تفكيك هيكل.
([6]) د. محمد عمارة: الغزو الفكري وهم أم حقيقة ص66 وما بعدها.
([7]) د. شوقي الجمل وعبد الله عبد الرازق: تاريخ أوروبا من النهضة حتى الحرب الباردة ص15.
([8]) يراجع في هذا البحث النفيس "تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها" للدكتورة نفوسة زكريا سعيد، ود. محمد محمد حسين: الاتجاهات الوطنية 2/359 وما بعدها.
([9]) ولعل لجنة المسابقة يتسع صدرها لنقدي هذا، فلقد اختاروا للبحث عنوانًا فرعيًّا هو "الشعور بالمسئوليَّة تجاه الأسرة والمجتمع والوطن" وكان الأولى أن يُقال "الأمة"، ونحسب أن هذا ذاته من آثار هذا التمزق الذي تسلل إلى وجداننا.