الأحد، نوفمبر 29، 2015

في فهم روح الغرب (1)

حين بدأ الجغرافي العلامة د. جمال حمدان موسوعته عن "شخصية مصر"، عقد فصلا في أولها ليتحدث عن علم الجغرافيا وعلاقته بالشخصية الإقليمية، قال: "ليس هدفنا أن نشرح المكان لنقدم عن أعضائه وأجزائه موسوعة كتالوجية وصفية، إن تكن ضافية وافية إلا أنها خاملة راكدة. ولكن الهدف أن نعتصر "روح المكان" ثم نستقطره حتى يُستقطب في أدق مقولة علمية مقبولة ويتركز في أكثف كبسولة لفظية ممكنة. ولمثل هذا فنحن بحاجة إلى جغرافية تركيبية في المقام الأول، جغرافية علوية رفيعة، قل "سوبر جغرافيا"، لا تقف عند حدود وصف المكان بل تتعداه إلى فلسفة المكان"[1].

هذا الذي قيل هو ما نحتاجه من كل ذي تخصص في تخصصه، أن يبذل المجهود في وَصْلِنا بالروح ما استطاع، فتكون المعلومات بمثابة الغذاء المهضوم والرحيق المختوم، لا قِطَعًا جامدة يعسر هضمها ويتطاير شذاها فلا يُفاد منها.

إن حقيقة العلم وثمرته لا تكمن في حشد التفاصيل بل في استخلاص الخلاصات منها، وقد أطال علماؤنا في شرح هذا المعنى، فقال مالك: "إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب"[2]، وقال ابن تيمية: "من نَوَّر الله قلبه هداه بما يبلغه من ذلك (العلم)، ومن أعماه لم تزده كثرة الكتب إلا حيرة وضلالا"[3]، وقال ابن رجب: "فليس العلم بكثرة الرواية ولا كثرة المقال، ولكنه نور يقذف في القلب يفهم به العبد الحق ويميز به بينه وبين الباطل، ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد"[4]. وعلى عظيم ما استفادت الأمة من الحفاظ إلا أن استفادتها كانت أعظم من ذوي العقول التي جمعت هذا الحشد العظيم في أصول وثوابت، وقد جاء في الحديث تقديم الفقهاء على الحفاظ فقال r: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما قيعان[5] لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعَلِم وعَلَّم، ومَثَل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به"[6].

ينبغي على الدارس أن يذهب وراء التفاصيل ويبحث في الأعماق، وعليه أن يجتهد فهي عملية شاقة، حتى تصير له هذه الملكة، فيلتقط من التفاصيل المغزى المكنون، أو يضعها في نظام يفضي إلى نموذج تفسيري منضبط.

وكلما تعمق الباحث في دراسة تاريخ المنطقة أو الموضوع محل البحث، كلما كان أحسن إدراكا لثوابته ومتغيراته، فما تكرر في التاريخ والواقع أدعى أن يكون من الثوابت والأصول، وما تغير في الواقع عما كان في التاريخ أدعى إلى أن يكون من المتغيرات والفروع.

ولا ريب أن من عرفوا الغرب وعاشوا فيه طويلا أو اهتموا بتراثه هم المقدمون في هذا الجانب، وكلمتهم فيه هي المقدرة، ومثلهم -وربما أهم منهم- من نشأوا في الغرب ثم اعتنقوا الإسلام، بل ولا نرى بأسا في أن نستفيد بالتحليلات الغربية للروح الغربية في هذا الباب، فالقوم في النهاية أقدر على تعريف أنفسهم بدقة من غيرهم على تعريفهم وإن افتقدوا نظرتنا للأمور وقواعدنا في الحكم على الأشياء، فكم في الكتب الغربية من تفسيرات قوية قادرة على حل الإشكاليات البحثية المطروحة وتقديم نماذج تفسيرية ممتازة ومتميزة.

ولنضرب بعض الأمثلة على ما نريد قوله من البحث وراء التفاصيل أو جمعها في تفسير واضح، ولا يعنينا الآن أكانت مدحا أم ذما:

1. من الجغرافيا إلى الوطنية إلى العنصرية: "الوطنية من لوازم الطبيعة الأوربية، بينما تخف في آسيا، وذلك من آثار الطبيعة الجغرافية، فآسيا تتمتع بجغرافيا متسعة وخصب وفير، أما في أوربا فالتنازع على البقاء شديد، والكفاح للحياة دائم مستمر، لتزاحم العمران وضيق المناطق وقلة وسائل المعيشة، وقد حصرت الجبال والأنهار الأجناس الأوربية في نطاق طبعي دائم، وقد شاءت طبيعة هذه القارة أن تكون منشأ لممالك ضيقة صغيرة، لذلك كان التصور السياسي في أوربا في القديم لا يكاد يجاوز ممالك بلدية لا تزيد منطقتها على أميال مستقلة استقلالا تاما، وأكبر مظهر لهذا التصور أرض اليونان حيث وُجدت من فجر التاريخ عشرات من مدن صغيرة مستقلة، فلا عجب إذا كان اليونان يدينون بالوطنية وينتحلونها، وكانت الفكرة العالمية التي نادى بها بعض حكمائهم كسقراط وانكساغورس شاذة لم تنل أنصارا في يونان، فكان نظام أرسطو مبنيا على التمييز بين اليوناني وغير اليوناني، وكان حب الوطن يتقدم فضائل الأخلاق التي أجمع عليها حكماء اليونان، ولم يكتفِ أرسطو بحب وطنه فحسب بل قال: إن اليونانيين ينبغي لهم أن يعاملوا الأجانب كالبهائم. وراجت هذه الفكرة الوطنية الضيقة في الأوساط اليونانية حتى لم يقبل اليونانيون قول فيلسوف منهم يعلن أن بِرَّه سيكون لجميع اليونانيين وليس لأهل وطنه فحسب، فتعجبوا ونظروا إليه شزرا"[7].

2. الداروينية في الفن: "لنضرب مثلا بالكارتون المسمى توم وجيري، الذي يصوغ وجدان أطفالنا كل صباح، حيث يقوم الفأر اللذيذ الماكر باستخدام كل الحيل (التي لا يمكن الحكم عليها أخلاقيا، فهي لذيذة وذكية وناجحة) للقضاء على خصمه القط الغبي ثقيل الظل، وليلاحظ أن القيم المستخدمة هنا قيم نسبية وظيفية برجماتية، لا علاقة لها بالخير أو الشر، قيم تشير إلى نفسها وحسب، ولا تفرق بين الظاهر والباطن. كما أن الصراع بين الاثنين لا ينتهي، يبدأ ببداية الفيلم ولا ينتهي بنهايته، فالعالم حسب رؤية هذا الكارتون الكامنة، إن هو إلا غابة داروينية مليئة بالذئاب التي تلبس ثياب القط والفأر: توم وجيري"[8].

3. سمات التراث الغربي: "هناك سمات عامة مشتركة تتخلل كل هذا النتاج التراثي (الغربي) بالرغم من تعدده، لا فرق في ذلك بين تراث الغرب الرأسمالي وتراث الغرب الاشتراكي، فكلاهما تراث سيطرة وهيمنة، بين تراث الطبقة المسيطِرة والطبقة الـمُسَيْطَر عليها، فكلاهما تراث عنصري. وهي السمات المشتركة التي توجد في أعماق اللاوعي الأوروبي الحضاري بل وفي وحدة شعور الأوروبي"[9].

4. أول حضارة ملحدة: "وحينما سئل فاكيلاف هافل (رئيس جمهورية التشيك) عن الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع، أجاب قائلا: هذا الوضع له علاقة ما بأننا نعيش في أول حضارة ملحدة في التاريخ البشري، فلم يعد الناس يحترمون ما يُدعى القيم الميتافيزيقية العليا، والتي تمثل شيئا أعلى مرتبة منهم، شيئا مفعما بالأسرار، وأنا لا أتحدث هنا بالضرورة عن إله شخصي، إذ إنني أشير إلى أي شيء مطلق ومتجاوز، هذه الاعتبارات الأساسية كانت تمثل دعامة للناس وأُفقا لهم؛ ولكنها فُقدت الآن، وتكمن المفارقة في أننا بفقداننا إياها نفقد سيطرتنا على المدنية، التي أصبحت تسير من دون تحكم من جانبنا، فحينما أعلنت الإنسانية أنها الحاكم الأعلى للعالم، في هذه اللحظة نفسها، بدأ العالم يفقد بُعده الإنساني"[10].





[1] د. جمال حمدان: شخصية مصر 1/12.
[2] الخطيب البغدادي: الجامع لأخلاق الراوي 2/174.
[3] ابن تيمية: مجموع الفتاوى 10/665.
[4] ابن رجب الحنبلي: بيان فضل علم السلف ص63.
[5] قيعان: جمع قاع، وهي الأرض الملساء.
[6] البخاري (79)، ومسلم (2282).
[7] الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص144، 145. باختصار وتصرف.
[8] د. عبد الوهاب المسيري: العلمانية تحت المجهر ص22.
[9] د. حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب ص102.
[10] د. عبد الوهاب المسيري: رحلتي الفكرية ص219.

الخميس، نوفمبر 26، 2015

موجز قصة النكبة الإسلامية

هي قصة النكبة، أو بالأحرى قصتان..

قصة احتلال البلاد واستنزاف ثرواتها ومواردها، وقصة احتلال الأفكار والعقول..

في القصة الأولى نرى البنادق والقنابل والجيوش، وفي القصة الأخرى نرى الكتب والنشرات، والإذاعات، وإنشاء المؤسسات التعليمية والثقافية، وهيكلة الإدارات الحاكمة.

تستدعي القصة الأولى أن نرصد حركة النهوض الغربي وانقضاضه على العالم الإسلامي،  وتستدعي القصة الثانية أن نرصد أهم الفوارق المؤثرة بين الشرق والغرب؛ لنفهم كيف أراد الغرب أن يعيد صياغة العالم الإسلامي على مثاله، فزرع قِيَمه وأفكاره وأنظمته، كما استفاد مما وجده فيها ليُعيد زراعته عنده.

في هذه السطور نوجز القصة الأولى، وفي المقال القادم إن شاء الله نوجز القصة الثانية..

في ذات لحظة من عمر هذا الزمان اجتمعت أربعة عوامل لتصوغ تاريخ القرون القادمة، كان ذلك منذ أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، على هذا النحو:

1. الضعف الإسلامي:

شمل الضعفُ عالم المسلمين فسقطت غرناطة آخر معاقل الأندلس (1492م)، وانساح الإسبان والبرتغال ليُحْكِموا سيطرتهم لا على الأندلس فحسب؛ بل هاجموا سواحل المغرب والجزائر، واحتلوا عددًا من أراضيها، وكانت الممالك الإسلامية في غرب إفريقيا وشرقها قد أصابها الضعف والتفكك ذاته، وكذلك كان الحال في اليمن وعُمان وسواحل الهند وما وراءها من السواحل الجنوبية لآسيا.

2. النهضة الأوروبية

وفي ذلك الوقت وُلِدت النهضة الأوروبية التي بدأت من إيطاليا، وعلى الرغم من أن جذور تلك النهضة قد تمتد إلى نحو قرنين قبل ذلك الوقت، فإن إيطاليا حينئذٍ أخرجت بدائع جديدة في الأدب والعلم والفن والعمارة وغيرها، وظهر رواد النهضة الأوروبية؛ مثل: ليوناردو دافنشي، ومايكل أنجلو، وميكافيللي، وأصبحت بعض المدن تمثل مراكز حضارية؛ مثل: فلورنسا، وسيينا، والبندقية، ثم فاضت تلك النهضة على أوروبا بشكل عام.

3. الرحلات.. وتطور علم الخرائط

كان من آثار الضعف الإسلامي واستيلاء البرتغال والإسبان على الأندلس أن انطلقوا يكتشفون البحار دون عوائق، البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، فاستطاع الرحالة أن يصلوا إلى العالم الجديد "الأمريكتين"، كما استطاعوا الدوران حول إفريقيا، واكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، الذي وصلوا عبره إلى الهند والسواحل الجنوبية والشرقية لآسيا.

وكان من آثار النهضة الأوروبية ومن آثار هذه الرحلات أن تطوَّر علم الخرائط، وابتدأ رسم خرائط أكثر دقة لهذه الأرض، قاراتها وبحارها، فكل تطور علمي وكل رحلة كشفية تضيف جديدًا في علم الخرائط.

4. بُعْد مركز الخلافة الإسلامية

لم يعد في العالم الإسلامي مملكة قوية، إلا أولئك العثمانيون في عاصمتهم البعيدة القسطنطينية، تلك المدينة المنيعة الراقدة شمالاً عند مضيق البوسفور، والتي تقوم بدورها الجهادي في شرق أوروبا وفي روسيا، وتقاوم الصفويين في العراق وإيران، فما كان بإمكانها في ظل هذا الوضع الجغرافي أن تعتني بأمر الأندلس الذي يسقط وينهار، وتتبعه سواحل الشمال الغربي لإفريقيا، ثم سواحل الغرب والشرق الإفريقية، والسواحل الجنوبية الآسيوية.

ولقد حاولت الدولة جهدها الدفاع عن مسلمي الأندلس وعن سواحل اليمن، وخاض الأسطول العثماني معارك ضارية مع الأساطيل البرتغالية والإسبانية، واستطاع تحقيق إنجازات مهمة؛ منع بها الأعداء من دخول البحر الأحمر -حيث أرادوا مهاجمة مكة وإنهاء أمر الإسلام- كما حفظوا بها ما استطاعوا من سواحل الشمال الإفريقي، وأنقذوا ما أمكنهم من مسلمي الأندلس ويهودها، الذين كانت تفترسهم محاكم التفتيش الكاثوليكية.

كان اجتماع هذه العوامل معًا في الفترة الزمنية ذاتها قادرًا على رسم صورة جديدة للعالم وموازين القوة فيه، خلاصة هذه الصورة أن الأيام قد دالت على المسلمين، وأن الأعداء قد التهموا -تقريبًا- أطراف العالم الإسلامي على السواحل الإفريقية والآسيوية، بل وتنافسوا عليها؛ فلقد لحق بالإسبان والبرتغال الهولنديون والإنجليز والفرنسيون وغيرهم، ولم تكن المقاومة المحلية في تلك البلدان –على الرغم من بسالتها وصلابتها- بقادرة على تغيير ميزان القوة هذا.

وبعد قرنين من الزمان أخذت الأزمة منحى جديدًا؛ إذ استطاع الفرنسيون احتلال مصر والشام، فلم يكن هذا مجرد احتلال لأطراف العالم الإسلامي بل لقلبه، ولم تكن بينه وبين الخلافة مسافات بعيدة؛ بل ليس بينهما إلا البحر المتوسط، فكانت صدمة بالغة هائلة الأثر للمسلمين، حتى قال الجبرتي: إنه "اختلال الزمن وانعكاس المطبوع وانقلاب الموضوع"([1]). فقد ثبت ما وصل إليه المسلمون من ضعف، وكذلك ما وصلت إليه خلافتهم "الدولة العثمانية العَلِيّة" من عجز، وابتدأ من هاهنا سؤال: كيف حدث هذا؟ وكيف سبيل الخروج؟

"سؤال النهضة" هذا لم يُترك لتُجيب عنه الشعوب، بل قام به الحكام المستبدون الذين هم سبب أصيل في نكبة المسلمين، لقد اتجه الأقوياء منهم إلى تعلُّم ما عند الغرب، أو الإتيان بخبراء الغرب؛ لنقل خبراتهم إلى بلاد المسلمين، ولم يكن في هذا من بأس لو أن الناقل كان واعيًا حريصًا على أخذ ما لديهم من علوم مادية، دون استلهام رؤاهم الفكرية والفلسفية؛ لكن الذي حدث كان على العكس من هذا، ولعل المشهد المصري يكون خير نموذج على هذا التطور باعتباره الأسبق زمنًا والأغزر مادة.

لقد تولى الحكم في مصر محمد علي باشا، فكان –على الرغم من إصلاحاته المادية الكثيرة الهائلة- أحد أهم النكبات في تاريخ المسلمين، فهو الذي اعتمد سبيل بناء دولة قوية يكون الحاكم فيها الرجل الأوحد، فأخذ في تدمير النظام الاجتماعي؛ ليملك وحده مقاليد البلاد، فضرب العائلات الكبرى، ومنع على الأهالي تملك السلاح، وضم الأوقاف إلى الدولة، وأسس جيشًا على النظام الأوروبي؛ يكون ولاء الجندي فيه للأمر العسكري مهما خالف الدين أو العرف أو الخُلُق، وعلى الرغم من أن محمد علي أتى إلى الحكم باختيار جماعة العلماء؛ فإنه لم يلبث أن تخلص منهم، ولم يعد يسمح بوجود أحد إلا علماء السلطان.

فما إن ذهب عصر محمد علي حتى كانت "الدولة" قد زُرِعت، والناس قد صاروا عبيدًا للدولة لا أصحابًا لها، ولما لم يكن خلفاؤه على قدر همته في العمران؛ فقد فسد العمران، وانهارت آثار محمد علي، ثم جاء الاحتلال الاقتصادي الأجنبي الذي تبعه النفوذ الأجنبي، ثم تبعهما الاحتلال الأجنبي البريطاني، فوجد أمامه شعبًا أعزل، ودولة منهارة، وبذورًا علمانية مغروسة، فظل في البلاد سبعين سنة يُفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، ويصنع منها نخبة على مثاله وبصبغته.

مَثَلُ الذي حَدَثَ في مصر حَدَثَ في غيرها من البلدان بالقدر ذاته تقريبًا؛ فقد وقعت ديار الإسلام إلا قليلاً منها تحت احتلال أجنبي، ثم سقطت الدولة العثمانية، التي كانت تمثِّل خلافة المسلمين، فصار المسلمون كالغنم المتفرقة لا راعي لها، وامتلكت أزمَّتها تلك النخبة التي صنعها الاحتلال على عينه، وسلم لها أمر البلاد، وما نستطيع أن نبرئ الحركات الإصلاحية في ذلك الوقت، والتي تكررت منها السذاجة في أقطار المسلمين؛ حتى سُرِقت الثورات وحركات المقاومة جميعًا؛ لتسقط كل ثمارها في يد أتباع الاحتلال.

حين خرج الاحتلال حَكَم أتباعه، فبدأ عصر الاستبداد العلماني العسكري، الذي كان على المسلمين أشد وأقسى وأكثر نكالاً من الاحتلال؛ إذ صارت العلمانية نظاما حقيقيًّا حاكمًا مقدسًا، وصارت حدود المحتل مقدسة، وترسَّخ نظام الدولة المركزية القومية الحديثة باعتباره شكل الحكم المقدس أيضًا، وقبل كل هذا وبعده صارت الخلافة من الأوهام والخرافات، وصار العمل للإسلام والدعوة للوحدة الإسلامية من الجرائم، وذاق المسلمون ويلات النظم العلمانية والعسكرية، واستمر تساقط العواصم الإسلامية على أيدي اليهود والصليبيين والهندوس والملاحدة.
وها هو الأمل يتجدد بثورات الربيع العربي أن تنهي هذا المسلسل من السقوط والتراجع، وأن تعيد تمكين الأمة من حكم نفسها بشريعتها وقِيَمها، وأن تكتب الفصل الأول في رحلة التحرر من الاحتلال الأجنبي العسكري والاقتصادي والثقافي.

نشر في ساسة بوست




([1]) الجبرتي: عجائب الآثار 2/179.

معركة الهوية التركية

كنت مهتما في الأيام الماضية بمطالعة المصادر الغربية ورصدها للتجربة التركية، وقد قرأت أو طالعت حوالي عشرين دراسة أجنبية ما بين كتب أو تقارير مراكز بحثية وعدد لا أتذكره من المقالات، منها ما هو مترجم ومنها ما قرأته بالإنجليزية ومنها ما اهتممت أن أقرأه في الإنجليزية بعد قراءته مترجما لمزيد فهم ودقة. وقد كنت غنيا عن هذه الكلمات لولا أني أتخذها سببا ومدخلا لموضوع السطور القادمة الذي أرى أنه أهم موضوع تحتاجه الساحة الإسلامية!

على ما بين هذه الدراسات –وعامتها قد كُتِب قبل 2011، أي قبل اشتعال الثورات العربية- من خلافات في زاوية النظر والتوصيف والتوقعات المستقبلية، فإنها تتفق بشكل غريب على مسألة واحدة تطرحها دائما كسؤال ملح وحاضر، هو: هل تخلى حزب العدالة والتنمية عن أصوله وأفكاره الإسلامية؟ أم ما يزال يخفي هويته تحت غطاء سياسي نفعي (براجماتي) ويسعى بصبر لأسلمة تركيا أو إعادة الخلافة العثمانية؟!

القليل النادر من هذه الدراسات من اطمأن إلى أن سياسة العدالة والتنمية لا تمثل خطرا كبيرا، لكن أغلبها ظل على مكانه في الشك والترقب ومحاولة التفتيش في الخبايا والنوايا.

ورغم النقلة الهائلة التي أحدثها حزب العدالة والتنمية في تركيا لا تكاد الدراسات الغربية تركز إلى على إجراءات بعينها، هي الإجراءات المتعلقة بالهوية الإسلامية، ولا تكاد تخلو واحدة من تحليل أغراض الحزب حين سعى لتمرير قوانين تضيق على شرب الخمور أو تسمح بارتداء الحجاب أو تسوِّي بين خريجي مدارس الأئمة والخطباء مع خريجي التعليم العادي، لقد حظيت هذه القوانين الثلاثة –من بين آلاف مشروعات القوانين التي طرحها الحزب عبر 8 سنوات في الحكم- باهتمام خاص.

كذلك لا تخلو دراسة من المقارنة بين خطاب ولهجة أردوغان وجول وداود أوغلو مع لهجة أربكان السابقة، والدراسات الأكثر تفصيلا تهتم أيضا برصد تدرج أربكان في إخفاء هويته الإسلامية وتدرجه في قبول العلمانية من لحظة (حزب النظام الوطني – 1970، وهي الأشد وضوحا وقوة) حتى لحظة (حزب السعادة – 2001، وهي الأخف وضوحا والأهدأ لهجة)، ورصد ما إن كان أردوغان هو امتداد لأربكان بشكل أكثر خفاء أم هو بالفعل قد تغير واعتنق القيم الغربية أم هو نمط جديد يسعى لدولة على المقاييس الغربية ولكن بهوية ثقافية عثمانية؟

وترصد الدراسات بشكل خاص تطور مسألة الهوية لدى الشعب التركي من خلال الإحصائيات التي تسأل: هل ترى نفسك تركيا أم مسلما بالدرجة الأولى؟ كيف ترى الآخرين: غير أتراك أم غير مسلمين؟ كيف تصنف الناس في البيئة المحيطة بك: إخوة في الدين أم إخوة في الوطن؟ هل تريد دولة تطبق الشريعة الإسلامية؟ ما معنى الدولة الإسلامية من وجهة نظرك؟ هل ترى أن حزب العدالة والتنمية يسير بالبلاد إلى أن تكون دولة إسلامية؟ إذا أعلن حزب العدالة والتنمية أنه إسلامي ويسعى لتطبيق الشريعة فما موقفك منه؟ لماذا تؤيد حزب العدالة والتنمية: لأنه متدين أم لأنه ساهم في ارتفاع مستوى المعيشة؟.. وهكذا!

وهم حريصون على محاولة فهم "ماذا يعني الإسلام في حياة المواطن التركي: وهل هو مجرد اختيارات شخصية كالحفاظ على الصلاة والامتناع عن شرب الخمر وارتداء الحجاب؟ أم أن للإسلام تأثير على سياسة الدولة ونظامها وعلاقاتها الداخلية والخارجية؟"، ومن أطرف ما حرصت هذه الإحصائيات على رصده استطلاع موقف غير المسلمين الأتراك، وهم لا يمثلون سوى 1% من الشعب، وانتهت الإحصائية إلى أنهم ورغم كون العسكر لم يفرقوا في الاضطهاد بين أصحاب الأديان ورغم كونهم حظوا بفرص غير مسبوقة تحت ظل العدالة والتنمية إلا أنهم في النهاية يرون أن معيشتهم في ظل دولة علمانية أفضل منها في ظل دولة إسلامية.

وتعد مسألة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مهمة في رصد الفارق بين سياسة أردوغان ونظريات أربكان، إذ كان الأخير يرفض الانضمام للاتحاد الأوروبي ويراه ناديا مسيحيا، بينما أردوغان رغم كل ما تبديه تركيا من تعنت يظل حريصا على الانضمام. لكنهم يتفقون كذلك على أن هذا ربما يكون طريقته التي يستعمل فيها الغرب ليتمم إصلاحات ديمقراطية في تركيا يحجم بها نفوذ وسلطة العسكر، فيكون قد ضرب عصفورين بحجر: قضى على خصومه بيد الغرب وشروطهم الديمقراطية، ثم فضح الاتحاد الأوروبي وتعنته في ضم دولة مسلمة إلى ناديه.

وعامة تلك الدراسات تنظر بحياد أو لا مبالاة إلى الانقلابات العسكرية المتتالية في تركيا، ولا تصفها بأنها جريمة أو تأخذ منها موقفا أخلاقيا، فإن لم تبرر لها لم تهاجمها، كأن الانقلاب العسكري إجراء سياسي طبيعي من حق الجيش أن يتخذه ضد النظام المنتخب.

والنادر جدا من اعترض عليها ورأى أنها مخاوف مبالغ فيها وأن الانقلاب على أربكان إنما كان لدوافع أيديولوجية إذ لم يكن بوسع أربكان أن يهدد النظام العلماني بعد شهور ولا بوسع الفتاة المحجبة أن تهدد النظام العلماني إذا دخلت الجامعة بحجابها.

يحظى بالتركيز أيضا مسألة الأقليات، لا سيما الأقلية الكردية والأقلية العلوية، وهنا تظهر الضمائر والأخلاق فجأة فيتحدثون بلسان أخلاقي مبين عن جرائم الدولة وعن اضطهاد الأقليات وعن حقوقهم المهدورة. كذلك ثمة اهتمام خاص بالظهير الاقتصادي والاجتماعي للتيار الإسلامي، وعلام يعتمدون في الأموال وما هي المناطق التي تصوت لهم، وكيف بدأ نمو هذه الشركات الإسلامية "المال الأخضر" وأين تتركز وأنشطتها؟ وكذلك كيف ظهرت هذه الطبقات والفئات الاجتماعية التي لم تنفذ العلمانية الكمالية إلى قلوبها وعقولها وظلت تصوت للإسلاميين، وكيف انتقلت من القرى لتظهر في العواصم والمدن الصناعية.

ومنذ ظهر في الأفق داود أوغلو كوزير للخارجية حتى لقي كتابه "العمق الاستراتيجي" موضع اهتمام خاص، فكتاب أوغلو صريح في أن موقع تركيا الجغرافي وثقلها التاريخي يفرضان عليها أن تكون دولة عظمى، وأنها فقدت هذه العظمة يوم أن تخلت عن هويتها وتاريخها وأريد فرض ثقافة مخالفة عليها، وأنه لا بد من أن تعيد تركيا نشر مظلتها على ما انحسرت عنه من أراضي الدولة العثمانية وإن بشكل سياسي ثقافي اقتصادي اجتماعي، إذ إما أن تكون تركيا قوة عظمى وإما أن تكون جسرا يتلاعب بها وعليها الأقوياء.

والخلاصة النهائية أن الهوية هي المعركة الحاضرة الظاهرة، المعركة القائمة الدائمة، المعركة التي تدور حولها التحليلات والدراسات.. وأن العلمانية وأصحابها كذابون منافقون إذا حاولوا تصوير الأمر على أنه خلاف مادي حول برامج النهوض الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والعلاقات الخارجية، فكل هذه فروع عن أصل هو الهوية والرؤية الشاملة، فإذا اختلفت الرؤية والهوية اختلف كل هذا. والعلمانيون أنفسهم في مصر وتركيا يفضلون النظام العلماني الفاسد الذي يقهر البلاد والعباد على نجاح نظام إسلامي وإن نهضت به البلاد وارتاح معه العباد. بل والغرب الذي يدعي العلمانية هو نفسه الذي يفتش في كل تجربة عن مضمونها الكامن خلفها، ويسعى للبحث عن الإسلام الكامن خلفها، حتى وإن كان لسانه وظاهره لا يدل على هذا.

ما كان أغنانا عن هذا كله إلا لأن كثيرا ممن فينا تركوا كتاب الله والتمسوا كتاب الغرب يقرأون منه، ولو أنهم قرأوا كتاب الله لعلموا أن كل الصراع الدائر في هذه الدنيا والذي يهيمن على الأرض هو صراع الحق والباطل، صراع الإنسان عبد الله مع الشيطان ومن أضلهم وأغواهم، صراع لا يقوم فيه شئ مقام العقيدة (الهوية)، لو قرأنا كتاب الله لعلمنا أن البشر ينقسمون بناء على عقائدهم، فهناك أولياء الرحمن وهناك أولياء الشيطان، الذين آمنوا والذين كفروا، وعلى هذه القسمة سيكون مصيرهم: فريق في الجنة وفريق في السعير.


ولعلنا إن لم نفقه هذا من كتاب ربنا أن نفقهه من كتاب الغرب الذي لم يقنع من تجربة تركيا بنهوض اقتصادي ولا بعلمانية ظاهرة بل أخذ يسلط الأضواء والمجاهر ليستبين: هل خلف هذا إسلام مستتر يسعى بصبر للعودة من جديد، أم قد استطعنا بالفعل هزيمة الإسلاميين في تركيا وصاروا مثلنا قلبا وقالبا؟!!

نشر في تركيا بوست

الجمعة، نوفمبر 20، 2015

الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر (2)

لم يزل الحديث موصولا في إلقاء الضوء حول طبيعة المجتمع الإسلامي، وكيف صنع الإسلام من العرب البدو الرعاة خير أمة أخرجت للناس.

وقد بدأنا الحديث –في المقالات السابقة- عن منهج الإسلام في بناء الأمة، ثم أتبعناه بأن هذا المنهج لم يكن مجرد فلسفة ونظريات بل تحول إلى واقع عملي وإلى بشر يطبقونه في حياتهم.

ومن أهم خصائص هذا المنهج في تكوين الفرد وبناء النظام العام أنه يجعل الفرد -في نفسه- مستشعرًا للمسئولية ومنبعثًا لحركة الإصلاح، ويجعل النظام العام مهيَّأً وقابلاً للإصلاح والتغيير. وقد ذكرنا في المقال السابق كيف كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشبه بالطبيعة في المجتمع الإسلامي يقوم بها الأفراد والمجموعات من تلقاء أنفسهم، والتقطنا عشرة مواقف للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر: خمسة منها فردية ذكرناها في المقال السابق، وتركنا لهذا المقال الخمسة مواقف الجماعية.

(1)

أول ما نعرف من مجموعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجموعة كَوَّنها الصحابي هشام بن حكيم بن حزام t؛ إذ جمع حوله نفرًا من أهل الشام، وكانوا يسيحون في الأرض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ ليس لأحد عليهم إمارة، وقد تفرغ هشام t لهذه المهمة؛ حتى لم يتخذ زوجة ولا ولدًا، وكان مهتمًّا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منذ عرف الإسلام -أسلم يوم فتح مكة- حتى صار معروفًا ومشهورًا بهذا في زمن عمر بن الخطاب t، الذي كان إذا بلغه منكر قال: أما مَا بقيت أنا وهشام بن حكيم فلا يكون ذلك. وكأن عمر بن الخطاب t قد أطلق يده؛ إذ كان هشام بن حكيم يهدد الوالي في مدن الشام إذا أراد فعل شيء من المنكر أنه سيكتب إلى عمر بهذا فيمتنع، وقد رأى يومًا عياض بن غنم -وكان والي حمص- أوقف ناسًا من أهل الذمة في الشمس؛ لأنهم لم يدفعوا الجزية، فواجهه بحديث النبي r: "إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا"([1]).

(2)

وقد كانت قوة القبائل والعشائر تقف أمام الحكام عبر التاريخ الإسلامي، وقد قلنا فيما سبق: إن الإسلام جاء بتقوية الروابط بين الناس حتى يصير المجتمع جسدًا واحدًا؛ فيمتنعوا بهذا من ظلم الحكام؛ بل وتنفذ إرادتهم في بعض الأمور وعلى رغم أنف الحاكم أحيانًا، وبهذا يوضع جهد كل قبيلة قوية -كانت قوتها سببًا في إقرار الأمور وتوازن القوى بينها وبين السلطة- في هذا الباب، فمن ذلك مواجهات الأحنف بن قيس التميمي لمعاوية بن أبي سفيان t، ومنها قول معاوية له: "والله يا أحنف ما أذكر يوم صفين إلا كانت حزازة في قلبي إلى يوم القيامة. فقال له الأحنف: والله يا معاوية إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي أغمادها، وإن تَدْنُ (أي: تقترب) من الحرب فترًا نَدْنُ منها شبرًا، وإن تَمْشِ إليها نُهَرْوِلْ إليها. ثم قام وخرج، وكانت أخت معاوية من وراء حجاب تسمع كلامه، فقالت: يا أمير المؤمنين، من هذا الذي يتهدد ويتوعد؟ قال: هذا الذي إذا غَضِبَ غَضِبَ لِغَضَبِهِ مائة ألف من بني تميم لا يدرون فيم غضب؟"([2]).

(3)

كانت بغداد في ختام القرن الثاني الهجري ومطلع القرن الثالث الهجري مسرحًا للاضطرابات والانفلات الأمني، فلقد قُتِل الأمين لكن المأمون ظل في مرو، ولم يقدم إلى بغداد، وشاع في أهل بغداد أن الفضل بن سهل –الوزير الفارسي- هو المسيطر على المأمون وهو المتحكم على الحقيقة، فرفض أهل بغداد أن يظل الخليفة خارج بغداد وتحت سيطرة فارسي غير عربي، ثم رفضوا الحسن بن سهل -أخا الوزير الفارسي- واليًّا عليهم، وشاع التمرد على المأمون من الناس ومن فرق الجيش كذلك، فعاشت بغداد أجواء الانفلات الأمني والسرقات وقطع الطرق واختطاف النساء والأطفال وفرض الإتاوات على الناس. كانت العصابات تأتي الرجل فيسألونه مالاً، فإذا رفض أخذوا جميع ما في منزله، وربما تعرضوا للغلمان والنسوان، ويأتون أهل القرية فيستاقون من الأنعام والمواشي ويأخذون ما شاءوا من الغلمان والنسوان، ونهبوا أهل قطربل ولم يدعوا لهم شيئًا أصلاً.

فانبعث رجلان؛ وهما: خالد الدريوش، وسهل بن سلامة الأنصاري؛ فكَوَّنا "لجانًا شعبية" لحماية الناس، وانضم إليهم متطوعون، فكانوا يقبضون على اللصوص وقطاع الطريق فيعاقبونهم أو يحبسونهم ثم يسلمونهم للسلطان، وقد استطاعت هذه "اللجان الشعبية" إنهاء حالة الفوضى بعد استمرارها نحو العام (شعبان، رمضان 200 هـ - شعبان، رمضان 201هـ)([3]).

(4)

في واحدة من لحظات انهيار الأندلس –بعد سقوط دولة الموحدين- في الربع الأول من القرن السابع الهجري، كان المشهد على هذا النحو:

اقتتال أمراء البيت الموحدي وثورة بعضهم على بعض، يتحالف بعضهم مع النصارى ضد إخوانه في النسب والدين ليحفظ الملك لنفسه، ثم يثور على هؤلاء مغامرون آخرون، والنصارى يأكلون الأندلس قطعة قطعة ويأخذون –عبر شروط التحالف- ما لا يمكنهم أن يأخذوه بكل السيوف، وكان المستولي على شرق الأندلس يُدعى أبو جميل زيان الذي ما كاد يخرج من صراعاته مع زعماء التمرد حتى دهمه خايمة الأول (ملك أرجون، الذي لجأ إليه أمير بلنسية السابق أبو زيد عبد الرحمن الموحدي، وبلغ من خيانة هذا الأمير أن تنازل للصليبي عن ما كان يملكه من أرض الأندلس، بل لقد تنصر هو نفسه وصار منهم)، ولكن أبا جميل بدل أن يقاتل سار في مسار التسليم، فنهض أهل بلنسية بأنفسهم وبقيادة علمائهم وعلى رأسهم الإمام سليمان الكلاعي –شيخ المحدثين في ذلك الوقت- فأنشبوا معركة هائلة بإمكانياتهم المحدودة وتسليحهم الخفيف ضد النصارى، وحمل الكلاعي راية المسلمين، وظلوا يجاهدون، لكن ميزان المعركة أسفر عن التفوق الكبير للنصارى، فثبت الكلاعي في قلة ممن معه، وصار ينادي في الناس: "أعن الجنة تفرون؟!" فما زال كذلك حتى نال الشهادة (الخميس 20 من ذي الحجة 634هـ) بعد أن أعذر هو ومن معه إلى ربهم([4]).

(5)

أراد الظاهر بيبرس البندقداري الاستيلاء على أموال وأملاك الأوقاف؛ ليغطي بها تكاليف الحرب مع المغول، فقرَّر أن يسأل صاحب الوقف عن مستنده؛ فإن وجده تركه وإلا استولى عليه، فوقف أمامه في هذا جمع العلماء يتقدمهم الإمام النووي، الذي كان صلبًا راسخًا في وجهه، واشتدت بينهم المراسلات والمكاتبات؛ حتى بلغ الأمر في المواجهة الأخيرة أن قال له النووي: "أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بندقدار، وليس لك مال، ثم مَنَّ الله عليك وجعلك ملكًا، وسمعت أن عندك ألف مملوك، وكل مملوك له حياصة([5]) من ذهب، وعندك مائتا جارية، لكل جارية حقٌّ من الحلي، فإذا أنفقت ذلك كله، وبقيت مماليك بالبنود الصوف بدلًا عن الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي، أفتيتك بأخذ المال من الرعية". فأمره الظاهر بالخروج من دمشق، وهنا وقف له الفقهاء وقالوا: "إن هذا من كبار علمائنا وصلحائنا، وممن يقتدى به، فأعده إلى دمشق". واضطرَّ الظاهر تحت ضغط موقف العلماء أن يكتب برجوعه، لكن النووي رفض الرجوع، وصارت أزمة بليغة جاء حلها من السماء بوفاة الظاهر بيبرس بعد شهر من هذه الواقعة، وحُفِظت بهذا الموقف أموال المسلمين وأوقافهم قرونًا أخرى([6]).

 فتلك عشرة مواقف، خمسة فردية وخمسة جماعية، تعطي لمحات عن تحمل المسئولية لدى أفراد الناس وجماعاتهم، تجاه من يعرفون ومن لا يعرفون؛ سواء أكانوا من العامة أم من الحكام والمتسلطين، وهي من المواقف التي تحدث اتفاقًا بدافع الظروف وتطور الحدث لا تحتاج ترتيبًا أو تهيئة طويلة، فأما ما كان يحتاج هذه التهيئة وهذا الترتيب فنجعله إن شاء الله في المقال القادم.

نشر في ساسة بوست




([1]) ابن عبد البر: الاستيعاب 4/1538، 1539، المزي: تهذيب الكمال 30/197، والحديث عند مسلم (2613).
([2]) ابن خلكان: وفيات الأعيان 2/500.
([3]) الطبري: تاريخ الطبري 5/ 136، وانظر: محمد إلهامي: رحلة الخلافة العباسية 1/509.
([4]) النباهي: تاريخ قضاة الأندلس 1/119، ابن الأبار: التكملة لكتاب الصلة 4/103، د. حسين مؤنس: شيوخ العصر في الأندلس ص118 وما بعدها.
([5]) حياصة: ثياب موشاة بالذهب.
([6]) السيوطي: حسن المحاضرة 2/105.