الثلاثاء، سبتمبر 29، 2015

قراءة في كتاب “التجربة النهضوية التركية”

-       الكتاب: التجربة النهضوية التركية: كيف قاد حزب العدالة والتنمية تركيا إلى التقدم؟
-       المؤلف: محمد زاهد جُل
-       دار النشر: مركز نماء للبحوث والدراسات - السعودية
-       سنة النشر: 2013م
-       عدد الصفحات: 240

رغم مُضِيّ ثلاثة عشر عاما على بدء تجربة أردوغان وحزبه "العدالة والتنمية" في تركيا، وبرغم ما أسفرت عنه هذه التجربة من تغير كبير في تركيا: سياسيا واقتصاديا وثقافيا، ومن تغير في المشهد السياسي في الشرق الأوسط، وبرغم ما حققه أردوغان من شعبية عالية في الأوساط العربية.. برغم كل هذا إلا أن الكتب المتوفرة عن هذه التجربة في لغة العرب قليلة للغاية، وأقل منها تلك التي كتبها أتراك في رصد وتقييم هذه التجربة.

من هنا يأخذ هذا الكتاب الذي بين أيدينا أهميته، إذ مؤلفه باحث تركي يتقن العربية، وهو مقرب من حزب العدالة والتنمية، فهو إن لم يكن أحد المساهمين في التجربة ولو بقدر قليل فإنه في الحد الأدنى شاهد عيان عليها، فيكون لروايته قيمة إضافية.

ويزيد في أهمية الكتاب أن مؤلفه صرَّح في مقدمته بأنه قَصَد إلى تأليفه لأن "مرحلة الربيع العربي نفسها تحتاج إلى الدراسات العميقة التي تفهم التجربة النهضوية التركية في كافة مجالاتها"، إذ أن أسباب إخفاقات المحاولات العربية إنما كان "لافتقاده الرؤية المتكاملة للمشروع النهضوي، ولافتقاره إلى إخوة صادقين يشاركونه المعاناة والرغبة الصادقة بتحقيق نهضته دون طمع ولا خداع ولا غدر ولا دوافع استعمارية ولا هيمنة امبريالية ولا عولمة مستعلية ولا شركات عابرة للقارات متوحشة، وإنما بأخوة مؤكدة ومصالح مشتركة ومنافع متبادلة".

ولمحاولة تحقيق هذا الهدف قَسَّم المؤلف كتابه إلى تمهيد وأربعة فصول وخاتمة.

يستعرض التمهيد لما سَمَّاه المؤلف "مفتاح النهضة التركية"، ويقصد به "الهوية الإسلامية" للشعب التركي، إذ هي المفتاح الذي أصرت التجربة العلمانية التركية على اطراحه بل ومحاربته ففشلت دائما في صناعة نهضة، فما من نهضة لشعب إلا وكانت "الهوية" حاضرة فيها. ولقد كان حزب العدالة والتنمية مستوعبا لهذا المعنى كما كان وريث المحاولات الإسلامية الممتدة عبر القرن السابق.

ويستعرض الفصل الأول الأسس الفكرية للنهضة التركية، وهو فصل تاريخي يلقي الضوء سريعا على تجربة الإصلاح التركية منذ أواخر العصر العثماني وتأسيس الجمهورية، ومختصر هذا الفصل أن الدولة العثمانية ثبت ضعفها وفشلها في أواخر عمرها ولم يكن من بديل عن إصلاحات جذرية إلا أن الذي انتصر في النهاية هم العلمانيون فأسسوا الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك، وبهذا التأسيس نبتت مشكلات الهوية في المجالات كافة؛ ففي باب السياسة والدستور تفاقمت إشكاليات الديمقراطية والأحزاب –كوسيلة تمثيل شعبي- مما جعل الديمقراطية نفسها موضع صراع كبير بين الشعب وبين الدولة، يختار الشعب من يمثله فيقوم الجيش بانقلابات عسكرية تعيد الدورة من جديد. كما تفاقمت مشكلة العلاقة بين الدين والدولة، ومن منهما يسيطر على مساحة الآخر أو يهيمن على مساحات التداخل بينهما، وقد أثمر كل هذا إشكاليات اقتصادية، فالاقتصاد جزء من السياسة التي هي رؤية شاملة، كما أثمر مشكلات في التعامل مع العرقيات والطوائف التركية التي انعكست آثارها على انسجام الشعب التركي وحقوق الإنسان.

كما يستعرض الفصل الثاني الرؤية التربوية والتعليمية للنهضة التركية، وكيف أدرك حزب العدالة والتنمية أن التعليم جزء لا يتجزأ من الهوية ومن أسباب التنمية، وهو حين أدرك هذا فإنه استدرك فشل العثمانيين حين لم يستطيعوا إنتاج إصلاحات تتلافى سقوطهم وفشل العلمانيين حين اعتنقوا الهوية الأوروبية وأنزلوا تطبيقاتها على التربية والتعليم، ثم إنه أكمل مسيرة المحاولات الإسلامية لمقاومة العلمانية منذ عدنان مندريس معتقدا أن التعليم هو ركن أساسي في صناعة الإنسان التركي الذي هو محور النهضة المنشودة.. وطفقت باقي المباحث تستعرض فقرات من برنامج الحزب في شأن التعليم، كما استعرضت بالأرقام إنجاز الحزب في مجال التربية والتعليم: المدارس والجامعات والبحث العلمي.

وفي الفصل الثالث حديث عن النهضة الاقتصادية التركية، وشمل هذا الفصل الإنجازات الاجتماعية والقانونية القضائية أيضا، وقد احتشد هذا الفصل كذلك بوصف رؤية الحزب لهذه المجالات وبإنجازاته –مدعومة بالأرقام- في هذه الأبواب، مع التأكيد في كل باب على استيعاب الحزب لموقع تركيا وإمكاناتها الاقتصادية وما تستطيع أن تقوم به من استثمار لتاريخها وجغرافيتها وثقافتها في صناعة النهضة.

ويتناول الفصل الرابع العلاقات الدبلوماسية والسياسة الخارجية التركية، وكيف أن تركيا وضعت نفسها في الحضن الأوروبي تماما منذ تأسيس الجمهورية، وكانت أوروبا تحتاجها –لموقعها الفريد- لتكون ضمن خطوطها الدفاعية الأمامية ضد الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو مما جعل انضمامها إلى حلف الناتو وعلاقتها بإسرائيل تحصيل حاصل. إلا أن أوروبا أعرضت عن تركيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ولم تعد ترحب باقترابها، ومن ثم كانت رؤية حزب العدالة والتنمية تعتمد على فتح العمق الجغرافي والإسلامي لنفسها، لتكون ذات بيئة إقليمية آمنة، ولتكون موضع اعتماد وركن أساس في استقرار المنطقة، مع تطويع سياستها الخارجية لتناسب البيئة السياسية المتغيرة. وأفرد المؤلف مبحثا في هذا الفصل لرصد تأثير التجربة التركية على العالم العربي، وهو من أفضل مباحث الكتاب وأطولها، ورأى أن التجربة التركية تفيد العرب في تقديم نموذج لحكم يجمع بين الإسلام والمعاصرة، إلا أن هذا النموذج تعترضه ثلاثة مخاطر: خطر الصراع الداخلي: بين الإسلاميين والعلمانيين وبين الأقليات غير المسلمة خصوصا والثورات لا تتحمل الاختلافات والشقاقات وتحتاج إلى الاتفاق، وخطر الفراغ الدستوري الذي هو ضرورة ديمقراطية والتي لم يستطع أردوغان –كما يقول المؤلف- أن يحسمه رغم تسع سنوات من حكمه، وخطر التخويف الدولي الآتي من العالم الغربي.

ثم تأتي الخاتمة لتطرح سؤال "كيف يمكن الاستفادة عربيا من التجربة التركية" وفيها نصائح عامة مجملة تتركز في خمسة؛ الأول: امتلاك رؤية واضحة تعتمد على جعل الشعب فوق السياسيين لا تابعا خاضعا لهم، والثاني: أن السلطة خدمة لا مغنم وأن يكون هذا بالعمل والإنجاز لا بالشعارات، والثالث: محاسبة المسؤول عما أنجزه مما وعد به وجعل هذا شرطا لبقائه في السلطة، والرابع: العمل المؤسسي وفق خطط مدروسة لا العمل العشوائي، والخامس: وصول النهضة إلى كل أنحاء الوطن لا تركزها في منطقة بعينها أو في طبقة بعينها.

لقد كُتِب هذا الكتاب في أواخر عام 2012، حين كان الربيع العربي في واحدة من أفضل لحظاته، تبدو الثورات جميعها سائرة في طريق النجاح، وقد تولى حكم مصر رئيس إسلامي لا يخفي رغبته في اقتفاء التجربة التركية.. ولا ريب أنه لو كتب الآن في ظل الخريف العربي –بعد سلسلة الانقلابات- وربما الخريف التركي أيضا بعد الأزمات التي حاصرت أردوغان لكان سيكون على منوال آخر.

وهنا أول ما نأخذه على الكتاب: أنه أراد تقديم تجربة نجحت في ظل استقرار سياسي، وداخل نظام الدولة الحديثة ومؤسساتها ليكون دليلا لتجارب ثورية تقوم بالأساس على كسر هذه النظم التي لم تسمح ولا بعشر معشار ما سمحت به العلمانية التركية طوال تاريخ الجمهورية.

إلا أن المأخذ الأهم الذي ننقد به الكتاب هو أنه لم يقدم حتى هذه التجربة..

لا ريب أن تقييم المرء لكتاب إنما يعتمد في الأساس على توقعاته منه، فإن جاء محققا لتوقعاته مجيبا عن إشكاليته أو كان أعلى منها كان المرء منبهرا، وإن كان دون ذلك كان القارئ محبطا.. ولقد كنت مع هذا الكتاب من المحبطين!
فالكاتب باحث مقرب من حزب العدالة والتنمية، وعلى اطلاع بما لا يطلع عليه العامة من الدهاليز، وكنت أتوقع أن يأتي تحليله للتجربة التركية عميقا ومهموما بالمفاصل والخطوات المهمة والكبرى.. إلا أن هذا لم يكن.

لقد كانت المساحة الأطول مرصودة لسرد إنجازات حزب العدالة والتنمية في كافة المجالات، فتحول معظم الكتاب إلى نشرة إخبارية أو تقريرا حكوميا عن الإنجازات، لأنه مجرد سرد للبرنامج ثم سرد للأرقام.. لذلك فمن أراد أن يقرأ "حصاد" التجربة التركية فسيجد في هذا الكتاب بغيته.. لكن من أراد أن يفهم ما وراء هذه النجاحات فسيعود محبطا لأن سر النهضات ليس في نصوص البرامج ولا في ظواهر الأرقام. وحتى ما كان في الكتاب من التاريخ أو من أثر التجربة التركية على العالم العربي كان الكلام عنه سريعا ومختصرا وإن كان لا يخلو من عمق ورصانة. وجاءت الخاتمة بنصائح نظرية وسريعة أيضا يمكن لكل صحفي أو متابع أن يكتب مثلها، فهي أقل من المنتظر من رجل مقرب من الحزب ويعرف دهاليزه.

إن الكتاب في مجمله دعائي لا تحليلي، وهذه المشكلة أقابلها للمرة الثانية في كتاب تركي يعرض للتجربة التركية (الكتاب الأول كان: رجب طيب أردوغان:قصة زعيم) مما يحمل على الظن بأن الأتراك أنفسهم غير واثقين في استقرار نجاحهم ولذلك يسيطر عليهم التسويق له بدلا من تقديمه كتجربة يستفاد منها.. وهذا الكتاب يعترف أن المعركة الديمقراطية لم تنته بعد حتى بعد تسع سنوات من التصدر للحكم.

ومن العيوب الخطيرة للكتاب، وهو عيب كذلك في كتاب قصة زعيم، هو تجنبهم التام للحديث عن الخارج وتأثيراته في التجربة التركية، إنهم يسوقونها كتجربة محلية بحتة قامت ونجحت لمجرد قدرتها على التعامل مع الشعب.. وهذا الخطاب هو خطاب صحفي دعائي، بينما في ساحة السياسة يكون العامل الخارجي أقوى بكثير من العامل الداخلي، خصوصا في منطقتنا الإسلامية الواقعة تحت الهيمنة الغربية منذ قرن على الأقل. ولئن شئنا إنضاجا حقيقيا للفكر الحركي الإسلامي فلا بد من أن يُعرض هذا الباب في التجربة بأمانة وعدل رغم خشية التشنيع عليه ممن يزايدون أو لا يفهمون طبائع الحكم والسياسة وموازين القوى.

ومن المدهش في هذا الكتاب: الاعتماد على مصادر عربية لا تركية، فالكاتب تركي ومقرب من الحزب وسياسته، إلا أنه ينقل عن المصادر العربية التي كتبت عن الشأن التركي! حتى المصادر التركية ككتاب داود أوغلو "العمق الاستراتيجي" ينقل عن ترجمته العربية لا عن الأصل التركي، وهي مسألة غريبة جدا، إذ لا يحتاج العرب أن يقرأوا في شأن التجربة التركية أقوال المحللين والدارسين العرب، وإلا فإن هذا مبذول سهل المنال، إنما يطلبون عند التركي بضاعة لا يجدونها عند العربي، لكن الذي حدث هو أننا ذهبنا إلى الكتاب فوجدنا بضاعتنا رُدَّت إلينا!


نشر في تركيا بوست

الأحد، سبتمبر 27، 2015

خلايا القرامطة النائمة في الخليج (5)

مما يثير التأمل في شأن القرامطة أنهم ظلوا قوة مرهوبة الجانب على رغم عددهم وعتادهم، تنهار أمامهم جيوش الخلافة التي تبلغ أضعافهم، ويتكرر انتصارهم على من لا يُتَخيَّل أنهم يقفون أمامهم ساعة من نهار، بل لقد كان جيش الخلافة الرئيسي وقائده العام مؤنس الخادم –وهو صاحب جهاد واسع للروم وغيرهم- يجبن عن مواجهتهم ويتحصن منهم بالجغرافيا ويكتفي بالدفاع.

ما كان ذلك إلا لأن القرامطة امتلكوا أمريْن: صلابة عقدية مع قائد فذ صلب وإن كان صغير السن.. وبذلك استطاعوا أن يكونوا قوة ضاربة في عصور الضعف والاضطراب التي ضربت أطنابها في أنحاء قصر الخلافة العباسية. واستطاعوا أن يبلغوا من الفجور والإفساد في الأرض وارتكاب الجرائم ما لم يسبقه إليهم أحد في تاريخ الإسلام.

وما إن انهار هذان الأمران: الصلابة العقدية والقيادة الصلبة حتى انهار خبر القرامطة واضمحلوا حتى قاربوا على الاختفاء من المشهد السياسي، وقد كان ذلك حين نبت فيهم داعية عُرِف في التاريخ بالداعية الأصفهاني، والذي استطاع أن يكسر قوة القيادة الواحدة ويكسر معها الصلابة العقدية إذ دعا إلى نفسه وبلغ نفوذه أن يأمر الرجل بقتل أخيه فيفعل، واغتال كبار قادة القرامطة، لكنهم استطاعوا أن يتداركوا الأمر فاغتالوه. ولم يلبث وقت طويل حتى مات زعيم القرامطة أبو طاهر القرمطي (رمضان 332هـ).

هنا فقط بدأت شمس القرامطة في الذبول ثم الغروب، وفي هذا درس كبير لمن يتولى التخطيط وصناعة القرار في عالمنا المعاصر، والذي يعاني من خطر القرامطة الجدد!!

نعود إلى التاريخ.. الذي سردنا أوله منذ أربعة مقالات سابقة (ج1، ج2، ج3، ج4)

مات زعيم القرامطة أبو طاهر القرمطي الذي ارتكب من الجرائم ما لم يرتكبه أحد قبله في تاريخ الإسلام، من انتهاك الحرم الشريف ونزع الحجر الأسود وقتل الحجاج في الطريق إلى وفي جوار الكعبة.

ولا ريب أن خبر موت القرمطي نزل بردا وسلاما على المسلمين في سائر البلاد..

ولقد جاء موته نعمة عظمى من الله تعالى في ذلك الوقت، فإن الخلافة العباسية قد صارت إلى أسوأ وأقبح حال في هذه الأيام، وصارت أضعف كثيرا كثيرا مما كانت عليه إذ كانت تواجه القرامطة.. لقد ساء الحال أكثر بعد الانقلابات العسكرية المتكررة على الخلفاء: المقتدر بالله ثم القاهر بالله ثم الراضي بالله، ومن بعد الراضي صار الخليفة لا يمثل شيئا في ميزان القوة بل صار أمراء العراق يتصارعون من حوله فيتكرر بينهم الانقلابات العسكرية على بعضهم ليحوز كل منهم على منصب الرجل الثاني "أمير الأمراء" فلا يلبث فيه أحدهم إلا شهورا ثم ينقلب عليه آخر، وصار عسكر الخلافة أشبه بالمرتزقة، تكثر فيهم التحزبات والانقسامات، وهم إن وجدوا المال رضوا وقنعوا وإن لم يجدوه أخذوا في السلب والنهب والانتقال إلى ولاء أمير آخر، فما إن ينتقلون حتى تنتعش آمال هذا الأمير في الانقلاب فتتكرر الدورة التاريخية القصيرة: يستولي على بغداد، تقابله أزمة الأموال، ينتقل ولاء الجند إلى غيره، ينهزم أمام الانقلابي الجديد.. وهكذا!

لقد قُتِل الخلفاء: المقتدر بالله، والقاهر بالله، والمتقي لله بانقلابات عسكرية، والخليفة الوحيد الذي لم يُقتل وهو الراضي بالله ورث الخلافة ضعيفا وكان عمره خمس وعشرون سنة ثم لم يمهله الأجل فمات وهو في الحادية والثلاثين من عمره فحسب، فوصلت الخلافة إلى المستكفي بالله الذي توسل الجند أن يجعلوه خليفة مقابل أموال وعدهم ببذلها واستخلاصها من أهل بيت الخلافة وعهود وضمانات ألا يروا منه سوءا.. وهو ما كان!

وهكذا لطف الله بعباده إذ ضعف حال القرامطة في الوقت الذي صار حال الخلافة بائسا.

ولقد حاول أبو عبد الله البريدي، أمير البصرة وأحد أمراء الحرب في الزمن المضطرب، أن يجذب القرامطة إلى صفه في الصراع الدائر بين الأمراء، فحين وُلِد لأبي طاهر مولود (331هـ) أهدى إليه هدايا كثيرة، منها مَهْدٌ من ذهب مرصع بالجواهر، وجلاله منسوج بالذهب محلى باليواقيت، وغير ذلك. ولكن القدر كان أسبق إلى أبي طاهر من ثمرة التحالف معه.

تولى أمر القرامطة بعد وفاة أبي طاهر إخوته أبو العباس وأبو القاسم وأبو يعقوب، وكانوا ذوي اتفاق وانسجام في الرأي، وكذلك وزراؤهم السبعة.. وهذا دليل على مقدار الفراغ الذي تركه أبو طاهر وعلى انهيار أمر القيادة من بعده، إذ احتاجوا إلى "مجلس قيادة" لا يُعرف فيه زعيم بارز مسموع الكلمة وله مواهب القيادة.

وقد دلَّ على هذا أنهم حين دخلوا على خط صراع الأمراء الدائر في العراق اكتفوا بدعم طرف من المتصارعين، وهو أمير البصرة، بينما كان المتوقع في الزمن القديم، أيام زعامة أبي طاهر قبل فتنة الداعية الأصفهاني، أن يجتاحوا العراق كلها بلا تردد.

لقد دعموا أبا الحسين البريدي، أخي أبي عبد الله البريدي ووارث الحكم من بعده في البصرة، ولكن هذا أساء الحكم والسياسة فانقلب عليه الجُند حتى هرب منهم إلى القرامطة، فحاولوا إعانته بجيش يرده إلى ملكه غير أنهم فشلوا بعد حصار فاشل للبصرة، فتركوا سبيل الحرب وسلكوا سبيل السياسة فَسَعَوْا في الصلح بينه وبين ابن أخيه الذي تولى أمر البريديين، فتمَّ لهم ذلك فعادوا إلى بلادهم. ثم بحث أبو الحسين عن حليف آخر يستند إليه في صراعه.

وبذلك يكون القرامطة في الخليج قد انتهوا عمليا، وخرجوا من المشهد السياسي الكبير، وإن كانوا قد بقوا كقوة إقليمية.

إلا أن القوة الإقليمية ما كان لها أن تقف أمام التغيرات الضخمة التي جرت على مشهد الخلافة، فقد ذهب عصر الأتراك، وجاء عصر البويهيين، واجتاح البويهيون بغداد وأنهوا صراع الأمراء فيه وصاروا أصحاب الأمر والنهي، وأصحاب الدولة التي تستقبل أيامها.

وكما يفعل أي ثائر أو ملك يؤسس لسلطته، بدأ معز الدولة البويهي في تحطيم كل مراكز القوى المتبقية من العهد القديم، ليفرض وضعا جديدا يكون فيه الوحيد صاحب اليد العليا والسلطة الكاملة، ولهذا دخل معز الدولة في صراعات مع سبعة أطراف منهم: القرامطة.

كان أول اشتباك بين القرامطة والبويهيين حين انطلق جيش معز الدولة (336هـ) للاستيلاء على البصرة معقل البريديين، فرأى القرامطة أن مسيره بالجيش اعتداء على منطقة نفوذهم في صحراء هذه المنطقة فأرسلوا إليه يستنكرون مسيره بغير استئذانهم أو مشورتهم، فما كان من معز الدولة إلا أن عامل مبعوث القرامطي بالاستعلاء واستهان بهم فلم يكتب ردا على رسالتهم وهددهم قائلا لحامل الرسالة: قل لهم من أنتم حتى تُسْتَأْذَنوا؟! بل أنتم المقصودون بعد البصرة لأفتح بلادكم.

كان طبيعيا أن تنهار العلاقة السلمية بعد هذا الرد، وهو ما استغله الوالي على عمان في ذلك الوقت يوسف بن وجيه، فراسل القرامطة (341هـ) يخبرهم أنه ينوي أن يهاجم البصرة، وأغراهم بالتحالف معه ومساعدته بجيش بري يساند جيشه البحري السائر في الخليج حتى البصرة، فتم له ما أراد، وكان دخول هذا اللاعب الجديد على ساحة الصراع يسبب همًّا كبيرا لمعز الدولة، فسعى لتركيز كل طاقته في تحصين البصرة وشحنها بالرجال والسلاح والعتاد وجعل قيادتها لوزيره المهلبي الذي أسرع بالوصول إلى البصرة حتى جاءها قبل جيش القرامطة ويوسف بن وجيه، وظل معز الدولة يتابع أمره ويمده بالأعداد والعتاد، حتى اندلعت الحرب بين الجيشين واستمرت أياما ثم كانت نهايتها لصالح المهلبي الذي هزم يوسف بن وجيه والقرامطة وأسر بعضا من قادتهم واستولى على مراكبهم وأسلحتهم، فانزاح همُّ معز الدولة وثبتت سلطته ونفوذه وعلت يده على القرامطة.

وهكذا انتهى عصر نفوذ القرامطة، وسكنت أحوالهم وانكمشوا، ولم يُعرف لهم خبر طيلة عصر القوة البويهي، والذي بلغ ذروته في عهد عضد الدولة البويهي، ولما مات عضد الدولة كانت الوهجة الأخيرة للقرامطة!

فما إن توفي عضد الدولة حتى طمع القرامطة في الاستيلاء على بغداد نفسها!! فخرج جيش منهم إلى بغداد حتى صاروا قريبا منها (373هـ)، لكن صمصام الدولة البويهي استطاع مفاوضتهم وردهم عن بغداد مقابل مبلغ كبير من المال. وكان للقرامطة نائب في بغداد من أثر اتفاق سابق بينهم وبين البويهيين، ويبدو أنه انتعشت آماله أيضا بموت الرجل القوي عضد الدولة فاصطدم بصمصام الدولة، فقبض عليه هذا الأخير وحبسه، فحرَّك القرامطة جيشا (375هـ) إلى الكوفة بزعامة اثنين من مجلس السادة للقرامطة، فبايعا لشرف الدولة البويهي –الأخ المنافس على السلطة- فدخلوا بهذا على خط الصراع السياسي الرئيسي بين الأخوين، فاستوليا على الكوفة وأخذا في جمع الأموال وجباية أهل الكوفة. ثم تطور الأمر فأرسلوا جيشا بقيادة الحسن بن المنذر -وهو من كبار القرامطة- إلى "الجامعين". فلم يعد أمام صمصام الدولة إلا الحرب فأخرج جيشه واستنفر معهم العرب، فعبروا الفرات وقاتلوا الحسن وهزموه هزيمة منكرة وقع فيها هو أسيرا، فأرسل القرامطة جيشا آخر أكثر عددا فاشتعلت المعركة بينهما وأسفرت عن نصر كبير لجيوش صمصام الدولة حتى لقد قُتِل قادة جيش القرامطة أو أُسِروا، ثم انطلقت الجيوش إلى الكوفة لكن القرامطة هناك كانوا قد هربوا منها فلم يلحقوهم، وكانت هذه الهزيمة من أقوى ما نزل بهم، وبها خُتِمت في السياسة والقتال صحيفة أخبارهم!

نشر في الخليج أون لاين

الحج في قلب الصراع الحضاري

أركان الإسلام من أظهر الفوارق ودلائل التناقض بين طبيعة الإسلام ومنهجه وبين الفكر الغربي المادي ونموذجه الحضاري.

1. إن النطق بالشهادتين يرتب أوضاعا جديدة قانونية وشرعية وحقوقية لمن تلفظ بهما في الدولة الإسلامية، لأن قاعدة الدولة الإسلامية وصلبها وروحها وقطبها هو "الدين".. مع مساحة واسعة من الحرية والتسامح مع الأديان الأخرى، ولكن في ظل الهيمنة الكاملة للإسلام.. ولئن كان ثمة خلاف حول تولي غير المسلمين وظائف مهمة في الدولة الإسلامية، فإن الذي لا خلاف فيه بين العلماء هو هيمنة النظام الإسلامي على وظيفة الدولة.

بينما لم يزل الأساس النظري (ودعنا الآن من الأوضاع العملية) في النموذج الغربي أن يكون الدين أمرا شخصيا بحتا.. ومن المكفول لكل أحد أن يتنقل بين ما شاء من الأديان، أو يخرج من دين ثم يعود إليه ثم يخرج منه، أو أن يبقى بلا دين بالكلية.. ذلك أن عمود هذا النموذج هو "الدولة" لا الدين! ففي حين يتحسس النظام الإسلامي لكل ما يهدد "الدين"، بل ولا يعتبر تهديد الدولة الإسلامية نفسها خطرا إلا لكونه تهديدا للدين التي هي قائمة على شأنه.. يكون النظام الغربي حساسا لما يهدد "الدولة"، ولهذا فإن قانون "الدولة" يعاقب على كل ما من شأنه تقسيمها أو إنشاء كيانات لا تعترف بسلطتها أو التعامل مع أطراف تعتبرهم تهديدا لها أو الدخول في مساحات تراها الدولة من خصوصياتها واحتكارها.

2. وتبدو الصلاة هنا مثالا في غاية القوة والوضوح على هذا الموضوع.. ففي الإسلام تحوز الصلاة قدرا كبيرا من مساحة القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي فرض على المرء في السفر والحضر والصحة والمرض، يصليها قائما أو قاعدا أو نائما أو يصليها إيماء أو بعينيه أو بقلبه.. ولا يُسمح بترك الصلاة، بل يختلف العلماء حول تارك الصلاة: هل هو مسلم أم كافر؟ ولا يعني اختلافهم هذا مجرد حكم أخروي ديني بل هو يرتب لأوضاع وعقوبات قانونية دنيوية، فهم لا يختلفون في عقوبته بالقتل (وانظر وتأمل ضخامة العقوبة) ولكن يختلفون هل يُقتل ردة أم يُقتل حدا.. يعني: هل عقوبة قتله هي عقوبة لارتداده عن الإسلام أم عقوبة على فعل يستوجب القتل مع كونه مسلما (كالقاتل، والزاني المحصن، والمفسد في الأرض).

بينما لن يحفل النموذج الغربي بشأن العبادة أصلا، ولن تجد في دساتيره أو قوانينه شيئا يوجب أو يحث على الالتزام بالعبادة.. بل هو يتكون ويقوم من أوله إلى آخره لكي يحفظ "كيان الدولة".. وهو بطبيعة الحال لا يهتم بأن يراقب عبادة أحد ولكنه ينمي كل لحظة أجهزته الأمنية والاستخباراتية ليراقب تصرفات كل مواطن في مجال "تهديد الدولة".. وهو لا يبالي في هذا أن يخرق ستر الناس وأن يتنصت على هواتفهم ورسائلهم وإنما يرى هذا من صميم حق السلطة.. كما أنه لا يسمح بوجود وسائل إعلام تمارس أو تحرض على "تهديد الدولة".. بل على الحقيقة هو يسخر كل طاقاته وإمكانياته لصناعة "المواطن الصالح" بالنسبة للدولة، ذلك الذي يرى قيمها عقيدة وقانونها كتابا مقدسا وترابها غاليا ومختلفا عن كل أنواع التراب وعلمها راية تبذل لها الدماء بلا تردد.

3. ويبدو مثال الزكاة مثالا فريدا في الدلالة على الموضوع، ويبدو هذا أوضح ما يكون في دولنا التي فُرضت عليها العلمانية.. إذ الدولة نفسها تنشيء القوانين والمؤسسات لجمع الضرائب بينما تترك أمر الزكاة لحرية كل فرد.

في الإسلام تقوم الدولة بمهمة جمع الزكاة، لأنها فرض ديني، ولأن الزكاة نزلت في كتاب الله وطبقها رسول الله فهي بطبيعة الحال سابقة على هذه الدولة وسلطتها، ومساحة استلاب الدولة الإسلامية لأموال الناس ضيقة ومحدودة لأن كافة الموارد المالية قتلت بحثا ورسخت فيها آراء فقهية عبر قرون طويلة.. فما يستطيع الحاكم في الدولة الإسلامية إلا أن يتلاعب في مساحات محدودة، ثم يكون تلاعبه مكشوفا.. وأهم من هذا: يكون تلاعبه ذريعة لمقاومته لا دفاعا عن المال بل دفاعا عن الدين وعن عباد الله المسلمين.. دفاع من منطلق الجهاد والإصلاح الديني لا من منطلق الإصلاح الاقتصادي أو الكفاح الطبقي، والفارق بينهما في القوة والاتساع واضح!

بينما دولة النموذج الغربي تستطيع في كل حين اختراع ضرائب جديدة، وما عليها إلا أن تجعل ذلك "قانونا" يقره البرلمان المنتخب (والديمقراطية في الدولة الحديثة هي عملية خداع ضخمة تأتي بمن هم على هوى الدولة.. وانظر مثلا كتابي: السيطرة الصامتة لنورينا هيرتس، وأفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها لجريج بالاست).. ولهذا فإن مساحة استلاب المال من الشعوب هي مساحة واسعة بل مساحة مفتوحة.. وكلما زادت العلمانية والحداثة كلما ضعف المجتمع وكلما ازداد الغني غنى والفقير فقرا، وكلما تراكمت القوة في يد السلطة ورجالها.

4. أما الصيام فكالصلاة في كونه عبادة تحفظها الدولة الإسلامية، فللمجاهر بفطره عقوبة قانونية، إلا أنه يزيد عنها في كونه نظاما يؤثر في حياة الناس ويومهم ويغير من عاداتهم وأوقات طعامهم وشرابهم وعبادتهم.. وهي لحظة تخضع فيها حياة الناس لنظام تفرضه العبادة.. وكل ذلك ممزوج بالسعادة والارتياح لما لشهر رمضان وفضله من مكانة في النفوس.. مكانة بناها ورسخها الدين بنصوص القرآن والسنة وتراث طويل من سيرة الصالحين.

لكن نظام الدولة الحديثة لا يحفل بصوم أحد أو بفطره، هي بالنسبة له مجرد اختيار شخصي، لا الصائم يستحق الثواب ولا المفطر يستحق العقاب.. وقد لا يمثل هذا مشكلة كبيرة في الدول ذات الأقليات الصغيرة المسلمة، بينما هو يمثل إرباكا في الدول التي يكثر فيها المسلمون أو بلادنا التي فُرضت عليها العلمانية.. ذلك أن الصوم يمثل "ظاهرة اجتماعية" بما يغيره من عادات الناس وأسلوب حياتهم، كما أن نظام الدولة الحديثة حساس لكل تحرك جماعي لأنه مبني على التعامل مع "المواطن الفرد"، والنموذج المثالي له هو سلطة الدولة التي تدير شؤون أفراد لا شؤون كتل ومجموعات وطوائف وقبائل (نظام القبيلة نظام مضاد للدولة الحديثة).. ولهذا فإن الدول التي اشتدت فيها شوكة العلمانية حاولت -وإن لم تفلح- أن تنهي مسألة الصيام قسرا (كما فعل بورقيبة في تونس) أو تتجاهله تماما اعتمادا على أن يتناقض نظام الناس مع نظام عبادتهم، فيكونون أقرب اندماجا في نظام الحياة من نظام العبادة.
أما الذي يهدد الدولة الحديثة وتتحرك له بكل ما تملك من قوة، فهو الخرق الجماعي لقوانينها وعاداتها المستقرة، وهي في هذا تعاقب فاعليه أفرادا أو بالجملة.. كالإضراب عن العمل أو التمرد العسكري.. فهذا هو المثال الذي يقرب مسألة عقوبة المفطر في الدولة الإسلامية إلى أذهان من يعيشون في عالم الدولة الحديثة.

5. وأما الحج فلا مثيل له، فإنه ظاهرة عالمية مضادة للتقسيم القطري في أصلها وجوهرها، وهو تذكير سنوي بمعنى الأمة.. ذلك المعنى الذي لطالما هفت نفوس الغربيين وعملاؤهم إلى اجتثاثه من النفوس لزرع ولاءات أخرى تكون أعظم منه كالوطنية والقومية والإقليمية واللغوية والعرقية وسائر هذه التقسيمات.. إن الحج يمثل سببا مثيرا للتوتر والارتباك في كتابات المستشرقين والمنصرين لأنه "عبادة" وهو في ذات الوقت "ذا مغزى وأهداف سياسية" كما يقولون..

إن الحج يعيد سنويا جمع هذه الأمة وتعريفها بنفسها وبأصلها وبوحيها وبأرضها المقدسة وبآمالها في التوحد والنظام، أن تكون الأمة كالحجيج: اتفاق في المظهر والحركة والغاية وإن اختلفت الألوان واللغات والبلدان والأعراق والسمات!

الحج يعيد تذكير الأمة بأصلها (إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام) ووحيها (الكعبة) ونبيها (خذوا عني مناسككم) وعدوها (الشيطان وحزبه) وبانتمائها (أمة الإسلام) وغايتها (اليوم الآخر) ورسالتها (الجهاد والزهد.. وليس من مشهد أقوى في الجهاد والزهد من مشهد ذوي الأكفان البيضاء وهم يطوفون ويلبون ويكبرون ويسعون بين جبلين ويبيتون في الضيق والزحام).


إنه مشهد مناقض لكل ما تريد الهيمنة الغربية أن تحققه!! ولذلك فإنه يثير حنقهم كما تشي بذلك كتاباتهم هم.

نشر في ساسة بوست

الثلاثاء، سبتمبر 22، 2015

معارك المصطلحات في الواقع الإسلامي

ألقي القبض على أحمد عرابي بعد هزيمته أمام الجيش الإنجليزي، ومن بين أسئلة الاستجواب الطويل الذي استغرق عدة أيام، وُجِّهت له تهمة رئاسته لـ "الحزب الوطني" ووجه بورقة وُجِدت عند بعض الضباط فيها قول عرابي وتوقيعه بأنه "رئيس الحزب الوطني"، ثم سُئل: "ألم تعلموا أنه بالممالك المنتظمة ووجود الحضرة الخديوية بمقر الحكومة لا يجوز وجود أحزاب حتى تمضوا تلك المكاتبة بصفتكم رئيس الحزب، فهل تَصَرَّحَ لكم من الحضرة الخديوية بذلك؟ وإن كان لم يَتَصَرَّح لكم فهل جَعْل نفسكم رئيسا لحزب داخل الحكومة لا يُعدّ عصيانا؟"

وكان من جواب عرابي قوله: "من المعلوم بداهة أن مصر مأهولة بأجناس مختلفة وعناصر متنوعة وكل عنصر منهم يعتبر نفسه حزبا كما أن أهل البلاد هم حزب قائم بذاته يُعتبر عند الآخرين منحطا عنهم ويُطلقون عليه لفظ فلاحين إذلالا لهم وتحقيرا، أولئك هم الحزب الوطني وهم أهل البلاد حقيقة...".

وقد اتخذ تيموثي ميتشل –المؤرخ المعروف- من إجابة عرابي هذه مثالا أراد أن يثبت به الطبيعة المتقلبة للغة في إطار مناقشته لسلطة اللغة والمؤلف وفلسفة الشيء، متأثرا بجاك دريدا[1]، إلا أن التفسير البسيط والمباشر للأمر هو أن عرابي أراد أن يهرب من التهمة فعمد إلى تفريغ كلمة "حزب" من معناها المباشر الذي يعني تنظيما قائما في البلاد مضادا للسلطة إلى معناها اللغوي الواسع الذي يجعل كلمة حزب تشمل كل جمع وطائفة وطبقة، حتى أنها تشمل جميع الفلاحين أو جميع المصريين الرافضين للاحتلال.

وبهذه الإجابة التي لا تعتمد إلا على تلاعب بالمعنى، نقل عرابي موقفه من كونه خارجا عن سلطة الدولة إلى كونه ممثلا لمصلحة الشعب، وأن هذا ليس بدعا من الأمر، "لأن كل أمة من الأمم المتمدنة الراقية فيها أحزاب مختلفة قائمون بحفظ حرية بلادهم والمدافعة عن حقوقهم"[2].

وقد نجحت حيلة عرابي هذه –نظريا وعلى سبيل الجدل- فلم يكررها المحقق كتهمة، ومن يقرأ محضر التحقيقات –وهو طويل- يرى ويشهد أنه لا يتجاهل أمرا إلا إذا أُفْحِم وأعوزته الحجة، أما في غير ذلك فهو يستمر في الإلحاح على المتهم ومحاصرته.

بعد هذه الواقعة بأكثر من قرن من الزمان، وفي تركيا، جاء حزب العدالة والتنمية، وهو يحمل ميراثا من التجارب التاريخية وفي بيئة حاكمة ترى أن "العلمانية مقدسة" وترى أن الإسلاميين يضادونها، وقد نفذوا العديد من الانقلابات العسكرية ومن أحكام حل الأحزاب الإسلامية.. فكان الحل عندهم شبيها بما فعله عرابي.

يقول محمد زاهد جل –وهو باحث مثرب من الحزب- بأن حزب العدالة والتنمية قد "قدَّم مقاربة جديدة لمفهوم العلمانية، تعبر عن المضامين الصحيحة داخل هذا المفهوم وتبعد عنها المضامين الأخرى، فهو لم يجعل من العلمانية الأوروبية معياره ولا نموذجه ولا محرابه، ولم يجعل من العلمانيين الغربيين قدوته ولا أئمته ولا وعاظه، وإنما فهم أن العلمانية هي أنها الدعوة إلى العلم وتحرير تفكير الإنسان وعقله، ورفض الأفكار التي تلغي حرية الإنسان وتحرمه من عقله وتمنعه من اتباع العلم واكتشاف الحياة وتسخيرها لمصلحة الإنسان والناس والبشرية جمعاء.

إن حزب العدالة والتنمية بحسب هذه المقاربة التي يقدمها لمفهوم العلمانية يرفض من يحصر العلمانية على معنى الإلحاد أو رفض الدين أو رفض المتدينين في الحياة العامة أو الفصل بين الدين والدولة، أو الفصل بين الدين والحياة، إنما أراد أن يفرض تصورا خاصا للعلمانية قد لا يكون موجودا في الحاضر ولا في التاريخ، فالجميع لم يمكن التخلص من الفكرة الدينية، وعلى فرض وجوده في التاريخ، فهو تصور لا يقصده المسلمون ولا يسعون إليه، وهو ليس مما يسعى إليه العقلاء ولا العلماء ولا الأحرار.

وبناء عليه فهو يرى أن كل دعوة إلى العلمانية على أنها فلسفة ضد الدين الإسلامي ينبغي أن يعلم أنها ليست علمانية صادقة ولا حرة ولا عقلانية ولا عالمة، وإنما هي تصورات مستوردة عن علمانيات قاصرة أو جزئية أو تاريخية بظروفها وزمانها ومكانها الخاص، وهي ليست جديرة بأن تكون فلسفة منقذة في مشروع النهوض العربي الحديث، في مقابل علمانية مؤمنة تملك مقومات المشروعية العلمية والعقلية للنهوض بالدول العربية الناشئة في ربيع الحرية والعقلانية والعلم.

على هذه الأسس، استطاعت التجربة التركية الحديثة أن تخوض تجربتها مع معركة جدل العلمانية، وهي تؤمن بالدين والإسلام دون تناقض بينهما ولا تعارض، وأن تقيم نهضتها وتخطط لتنميتها، وبالأخص في عهد حزب العدالة والتنمية، في توظيفه لتلك المضامين التي قدمها نحو هذا المفهوم، كقوة فكرية تنهض بمقومات المجتمع التركي المسلم دون اصطناع معارك بينهما لتوهم أن الإسلام يقف ضد التقدم والتنمية والعقل"[3].

وهكذا كان الحل هو تفريغ اللفظ من معناه المستقر لحساب معنى آخر مقصود، مما يجعل المعركة السجالية الكلامية أكثر إرباكا وتعقيدا وأبعد عن التهمة.. كأنما هي أقرب إلى التورية والمعاريض الذي أبيح اللجوء إليه عند الضرورة والاضطرار.

بعد هذا بنحو عشر سنوات، كانت المعركة الكلامية في مصر –عقيب ثورة يناير- تدور هي الأخرى حول مصطلح "الديمقراطية"، وفيما يبدو أن جميع من في الساحة السياسية يقبل الديمقراطية، إلا أن الجميع أيضا يدرك أن معناها عند قوم ليس كمعناها عند الآخرين.. فأما الإسلاميون فهم يعبرون عنها باعتبارها وسيلة وأداة للكشف عن "الإرادة الشعبية"، وهي الطريقة التي وصلت إليها التجربة البشرية لتحقيق اختيار الحاكم وعزله، لذلك صدَّر حزب الحرية والعدالة –الذي انبثق عن جماعة الإخوان المسلمين- برنامجه السياسي بعبارة "الشورى هي جوهر الديمقراطية" في محاولة لإفراغ معنى الديمقراطية (وهي اللفظ الغربي) ليوضع فيه "الشورى" التي هي القيمة الإسلامية.

وكان أبسط تعبير عن هذه الفلسفة هي العبارة البسيطة الدقيقة والعميقة للشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، إذ ما كان يُسأل عن الديمقراطية حتى يقول: "الديمقراطية حلال ما لم تحل حراما أو تحرم حلالا". وهو بهذا يجعلها وسيلة محكومة بالإسلام.

إلا أن خصوم الإسلاميين أصروا –في إطار هذه المعركة السجالية- على أن الديمقراطية ليست صندوقا فقط وإنما هي منظومة قيمية، وهي ليست مجرد وسيلة وإنما ثقافة، وهم في هذا مصرون على أنها جزء من المنظومة القيمية الغربية التي أنتجتها.

تلك ثلاثة أمثلة تاريخية قصدنا منها أن نقول الآتي:

أولا: إن هيمنة المصطلحات في بيئة حاكمة تُلجئ المقهور المغلوب إلى استعمال هذه المصطلحات المهيمنة وتحديد موقفه منها، وبمقدار ما تحظى به هذه المصطلحات من هيمنة بمقدار ما يكون العجز عن التخلص منها، وحينئذ تجري معركة صراع حول معنى هذه المصطلحات.

إن المعركة هي معركة المعاني، لكن جولة الصراع حكمت في بعض الأوقات بسيادة مصطلح بعينه، وفي عصور الدولة الحديثة فإن السلطة قادرة على ترويج مصطلحاتها عبر وسائل الإعلام ومناهج التعليم ومنافذ الثقافة، مما يجعل التعامل مع المصطلح ضرورة لا فكاك منها.

ثانيا: إن تحديد الأحكام الشرعية في المصطلحات الملتبسة التي سادت في مثل هذه الأجواء، مثل العلمانية والديمقراطية والأحزاب والحرية والانفتاح ... إلخ، لا يمكن أن يتم إلا بعد فهم مقصد القائل به، إذ المصطلح في نفسه لم يعد معبرا عن معنى محدد، ولا حتى كونه صدر ضمن سياق فلسفي بعينه أو في بيئة ثقافية بعينها، لم يعد تعريف أهل المصطلح له هو الحاكم في بيان الحكم الشرعي، لأن مدلول المصطلح ومعناه قد انتشر، ورُوِّج له بمعان أخرى لأغراض مختلفة، ثم تلقاه كثيرون ففهموا منه معاني متباينة. فلا بد من تحرير المعنى الذي يقصده قائله به قبل أن يُنظر في حكمه الشرعي، وبطبيعة الحال فسيختلف الحكم الشرعي مع كل قائل، فنفس المصطلح قد يقصد به قائله أشد الكفر وقد يقصد به قائله مقاصد الشرع.

هذا مع التشديد والتأكيد وبيان أن الأصل هو استعمال الألفاظ التي لا شبهة فيها ولا تحتمل المعنى الملتبس، وأن لا يُلجأ إلى هذا الالتباس إلا في حالات الضرورة –لغرض الإفهام والإفصاح، أو تحت ضغط الواقع الأكيد- وقد أمر الله تعالى عباده بقوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] لأن اليهود كانوا يقولون "راعنا" وهم يقصدون معنى "الرعونة" لا "المراعاة"، ووجهم ربنا إلى لفظ لا يلتبس وهو "انظرنا".

نشر في تركيا بوست



[1] تيموثي ميتشل: استعمار مصر ص228، 229.
[2] مذكرات أحمد عرابي 2/784 وما بعدها.
[3] محمد زاهد جل: التجربة النهضوية التركية ص89 وما بعدها.