الاثنين، أكتوبر 27، 2014

عن الديمقراطية في البلاد الإسلامية





1. في مرحلة ما قبل الثورات العربية كانت كل بلادنا يحكمها مستبدون مجرمون، حتى لو تغطى بعضهم بقشرة ديمقراطية رقيقة كالحال في الأردن والمغرب، أو يضع لافتة ديمقراطية كالحال في مصر والسودان والجزائر، فيما كان الباقون يمارسون الاستبداد علانية وصراحة!

2. في هذه الأجواء كان مجرد النظر إلى الغرب يكشف عن نموذج يسيل له لعاب عشاق الحرية، هناك تجري انتخابات نزيهة، يتغير البرلمان، يتغير الرؤساء، يختار الشعب من يحكمه، مع جرعة عالية من حرية التعبير والنقد دون خوف، واحترام واضح لحقوق الإنسان... إلى آخر ما هو معروف للجميع.

3. ونحن في هذه السطور لا يهمنا سوى الإسلاميين وموقفهم من سؤال الديمقراطية الجديد، وهو سؤال ما كان بوسعهم تجاهله في ظل القصف الإعلامي المتواصل لهم كإسلاميين، وفي ظل القصف الإعلامي المتواصل من الغرب والعلمانيين للإسلام نفسه.

4. وفي إطار الدفاع عن الإسلام نفسه اجتهد الإسلاميون في إثبات أن الإسلام يرفض الاستبداد ويحرر الناس ويجعل الأمة هي صاحبة الحق في نصب الحاكم ومراقبته وعزله، واجتهد كثير من العلماء في أن تأقيت مدة الولاية للحاكم لا تنافي الإسلام لأن عقد الولاية يمكن أن يضيف فيه العاقد (الأمة) شروطا.

وظلت مسائل كثيرة عالقة تتراوح فيها الأقوال مثل حدود حرية التعبير، حرية نشر الكفر، حرية الردة، تطبيق الحدود الشرعية كالقطع والجلد والرجم، التعامل مع الفنون التي عمادها (في الواقع الآن) العري والإباحية والكفر أحيانا.

ولكن هذه المسائل في الحقيقة ليست مختصة بالديمقراطية، بل هي مختصة بالفلسفة الغربية نفسها التي تعد الديمقراطية بصيغتها المعاصرة واحدة من إفرازاتها.. فالمتبادر إلى الذهن لدى سماع كلمة ديمقراطية هو اقتصارها على الجانب السياسي وشؤون الحكم. وهذه النقطة يجب أن تكون واضحة لأنها كانت سبب التباس كبير في التعبير عن الفكرة.

5. وفي إطار الدفاع عن الإسلاميين، كان الأسئلة الرئيسية تدور حول:

أ. هل إذا وصل الإسلاميون للسلطة بالطريق الديمقراطي سيستمرون في هذه الديمقراطية حتى لو أدت إلى إقصائهم من السلطة وتنصيب غيرهم؟

ب. وإذا لم يكن غيرهم هذا إسلاميا، بل كان شيوعيا أو كافرا، فما حكم الشعب حينئذ، وهل يكون قد كفر؟ وهل يجيز الإسلاميون لأنفسهم التنازل عن الحكم إلى كفار أو ملاحدة ينشرون الكفر في الأرض؟

جـ. ما هي رؤية الإسلاميين للمساحة التي يسمونها "أحكام الله غير القابلة للنقاش" في مقابل المساحة التي يجوز للشعب فيها أن يشرع لنفسه؟

وصحيح أن هذه الأسئلة كان يطلقها الغرب والعلمانيون بكل ما في نفوسهم من حقد -وهو كثير فياض- إلا أن الصحيح كذلك أنها أسئلة نوازل ليس للإسلاميين فيها سلف، إذ لم يواجه الفقه الإسلامي في عصوره السالفة مسألة قوم يتسمون بالمسلمين ولا يريدون إسلاما.

6. وكطبيعة أي موضوع إنساني اختلف الإسلاميون فيما بينهم على إجابة هذه الأسئلة، فكان أكثرهم تنازلا من اشتاق إلى وجود الحرية ولو من غير شريعة لأن الحرية تتيح لهم أن يمارسوا الدعوة إلى الله وأن ينشروا أفكارهم، وهذا خير من حكم المستبدين المجرمين (الكفار عند أغلبهم: بأفعالهم أو بأعيانهم) الذين لا ينشرون إلا الكفر في بلاد المسلمين ولا يتركون فرجة للدعوة إلى الله.

فيما كان أشدهم محافظة وتشددا من رمى كل هذه المسائل عن قوس واحدة، ولم ير سبيلا إلا حمل السلاح لجهاد الأنظمة الكافرة مع اقتناع بأنه ما إن تزول هذه الأنظمة إلا ويمكنهم إعادة شرع الله إلى واقع الحياة!

وبين الفريقين طيف واسع من الآراء والاجتهادات والرؤى!

فالأولون كانوا الأكثر اشتباكا مع الواقع وتفاعلا معه وكانوا كذلك الأكثر (تنازلا / مرونة) فيما كان الآخرون الأكثر فهما لطبيعة الصراع وأنه ليس صراع فكري نظري بل هو صراع حضارات ومشاريع، فكانوا الأكثر تفاعلا معه من جهة كونه صراعا والأقل اجتهادا في الفقه والدين لإخراج إجابات على هذه النوازل، فكانوا كذلك الأكثر (تمسكا / تشددا).

واعتزلت فرق هذا الصراع كله، وبحثت عن جانب تخدم الإسلام فيه، كالدعوة والتربية ونشر العلم.. وهؤلاء لا يدخلون في حديثنا الآن!

7. كان الأولون تدعمهم تجارب تاريخية كثيرة تدلل لهم على أن الشعوب تختار الإسلاميين في أي انتخابات (شبه) نزيهة، الجزائر والأردن والمغرب وغزة ومصر وتركيا.. وكان الآخرون يستدلون بنفس هذه التجارب على فشل نظرية الأولين: إذ لم تستطع أي تجربة أن تحقق نصرا يمكن وصفه بالإسلامي دون تحفظات!

كان الأولون يرون أنه تقدم على الطريق في ظل العجز عن دخول معركة حاسمة، وكان الآخرون يرون أنه تأخر على الطريق وهدر للطاقات والجهود، فحقيقة الأمر ليست بيد الشعوب بل بيد الجيوش: جيوش الغرب التي تحرس بقاء الهيمنة الصليبية (أو العلمانية، حسبما يختلف الناس في تحليل الغرب).

وكل إخفاق للأولين (الواقعيين، المرنين، المتنازلين.. لسنا في إطار تقييمهم الآن) كان يصب في خانة هؤلاء الآخرين (المتمسكين، المحافظين، المتشددين.. لسنا في إطار تقييمهم الآن).. وأبرز الأمثلة: الجزائر ومؤخرا مصر، كذلك هزال الحركة الإسلامية في الأردن والمغرب وعجزها عن تحقيق أي تغيير ملموس، وحتى تجربة غزة وتركيا -الأحسن حالا من بين كل هذه التجارب- لا يستطيع أحد أن يصفهما بالنصر الحاسم في ظل الظروف والمعرفة.

8. حتى جاءت الثورات التي أسفرت عن سقوط غير متوقع لعدد من أساطين المجرمين: بن علي، مبارك، القذافي، بن علي.. مع بشائر مستمرة لسقوط بشار، وما أحدثه ذلك من زلازل في المغرب والجزائر، وبراكين في دول الخليج التي وجد حكامها أنفسهم -لأول مرة- أمام تهديد شعبي غير متوقع، وقد كانت نكباتهم مقتصرة على صراعات أجنحة الحكم.

وكان طبيعيا أن يكون الأكثر واقعية (مرونة، تنازلا) هم الأقرب للتصرف في الواقع الذي خبروه واشتبكوا معه.. فيما لم يظهر الأكثر تمسكا (محافظة، تشددا) إلا حين تحولت الثورات إلى التسلح والجهاد كما في ليبيا وسوريا.

9. وهنا كانت النازلة الثانية التي لم ينتبه لها إلا النادرون جدا (حتى ليصح أن نقول: لم ينتبه لها أحد)، وهي: هل الديمقراطية تعبير حقيقي عن إرادة الناس، أم لها دهاليز وكواليس وخفايا وخبايا غير منظورة؟

لم يكن طبيعيا أن من حاول عبر عقود إثبات أن الديمقراطية من الإسلام، وأن الفروق بين الديمقراطية والشورى ليست جوهرية (فيما عدا محكمات الإسلام وثوابت الشريعة التي يريد الجميع تطبيقها فعلا لكن يختلفون في حدودها وفي الكيفية) وأنه كإسلامي ليس ضد الديمقراطية ولا ضد التنوع الثقافي ولا التعدد الحزبي ولا أنه ينوي أن "يأخذ السلم معه فوق.. فوق".. أقول: لم يكن طبيعيا أن يتحول هذا الشخص من هذه الحالة إلى حالة البصر بما في الديمقراطية من كمائن!

لكن الإخفاقات المتوالية نبهت الكثيرين إلى هذه الكمائن، إلى دور المال الذي يحرك الإعلام الذي يحرك الجماهير، ودور المال الذي يحرك الجريمة، وإلى النظام القديم الراسخ الذي لم يسقط بطبيعة الحال لمجرد أن قيل له "ارحل، مش هنمشي هو يمشي .. إلخ".

وساعتها وجد الكثيرون مادة غزيرة من كتب ونظريات غربية تتحدث عن عيوب الديمقراطية، وكيف أنها لا تؤدي إلى تعبير حقيقي عن إرادة الناس، بل هي في الحقيقة تعبر عن إرادة أصحاب السلطة والمال ومراكز القوى، لكن هذه الإرادة لم تعد تفرض قهرا (كما في النموذج الشيوعي) بل صارت تصاغ عبر الإعلام وضخ الأموال في ترتيب المصالح والمواقف وتصنيع القناعات حتى يذهب المواطن لينفذ هذه الإرادة وهو يتخيل أنها إرادته هو! (وهذا بخلاف مشكلات أخرى أقل تأثيرا وأكثر تفصيلا).

هذا بالإضافة إلى فارق كبير آخر، وهو أن الغرب يمارس الديمقراطية بعد أن استقرت قيمه الأساسية (الهوية: التوجه السياسي والاقتصادي والثقافي) فالديمقراطية -ولو كانت تعبر عن إرادة حقيقية- فهي في النهاية تحكم على التفاصيل، على المذهب، على المدرسة.. فيما الحال مختلف تماما في بلادنا التي تشهد صراعا على هذه القيم الأساسية (وهذه القيم الأساسية تحسم بالحرو كما حدث في الغرب نفسه).

ولكن بدأ كثير من الشباب ينشرون هذا المعنى، ووجدوا فيما كتبه ناعوم تشومسكي -وغيره من اليساريين والأناركيين وبعض الصحافيين والخبراء- مادة غزيرة في نقد الديمقراطية وبيان خدعتها.. إلا أن هذه المحاولة كانت ضعيفة ومحدودة الانتشار والتأثير.. وكيف لا والتيار العام مزهو بالديمقراطية (التي نفوز فيها رغم كل الأموال والمؤامرات والإعلام الذي يعمل ضدنا)؟!!

لقد كانت النشوة أكبر من محاولات الإيقاظ بكثير!!

10. تلقى الأولون (الواقعيون، المرنون، المتنازلون) ضربات هائلة قوضت تجربتهم في مصر وتونس واليمن، رغم أنهم بذلوا كل ما قدروا عليه من تنازلات في هذه البلاد الثلاثة لمحاولة "تجنب الصدام، تحقيق التوافق، عدم الانجرار إلى الفخ".. إما بانقلابات عسكرية صريحة كما في مصر واليمن، وإما باضطرابات وقصف إعلامي كما في تونس!

بينما بقيت تجربتا الآخرين (المتمسكين، المحافظين، المتشددين) تراوح مكانها: فلم تنجح بعد، ولم تفشل بعد، وإن كان الثمن باهظا (وكل ثورة لها أثمان باهظة في الحقيقة).

لكن الحقائق الملموسة لكل التجارب تسفر عن:

أ. السلاح يحسم المعارك، ويضرب بالسياسة وتفاهماتها عرض الحائط.

ب. المال والإعلام غيرا الخريطة الشعبية التي كانت من قبل تعطي الإسلاميين المركز الأول باكتساح، فصارت تضيق الفوارق (مرسي، شفيق - انتخابات ليبيا)، ثم صارت تميل بالكفة عليهم (انتخابات تونس 2014).

جـ. الخارج واقف بسلاحه وأمواله ومؤسساته في قلب المعركة، وعلى المخدوع بالشرعية وحقوق الإنسان أن يظل مخدوعا حتى يستيقظ على المذبحة.

11. وهنا نصل إلى الخلاصة المرجوة من هذا المقال الذي طال:

أ. الديمقراطية كـ "آلية اختيار" لا تنافي الإسلام!

ب. الديمقراطية كـ "إفراز من الفلسفة الغربية" جزء أصيل من المعركة الحضارية القائمة والدائمة بين الإسلام والغرب، وهذه هي التي يحرسها الغرب بجيوشه وأمواله، ويحاصر ويقتل من أفلتوا منها كما فعل في الجزائر وغزة ومصر.

جـ. الذين أرادوا أن يصلوا إلى مرحلة "الحرية بدون إسلام" ظنا منهم بأنه يمكن منها الوصول إلى "إسلام من خلال الحرية" غفلوا عن التفريق بين هذين النوعين من الديمقراطية، وظنوا أن الصراع الحضاري يمكن أن يُحسم بغير حروب مسعرة.. ولذلك كانت دماؤهم وحدها هي الثمن المسفوك دون النتيجة المرجوة.

ورغم أن عددا من المواقف كان يدل على استحالة ذلك (مثل اضطرارهم للتوافق المناقض للديمقراطية، واكتشافهم أن العلمانيين ليس فيهم شريف يدافع عن الحرية كمبدأ وإنما هم أذيال للاستبداد وكم خانوا وغدروا وكفروا بما كانوا ينطقون به، واكتشافهم أن الغرب يطالب بأمور يسميها مصالحه أو يسميها قيم عالمية رغم أنها من صميم الخصوصية الوطنية والسيادة الوطنية).. أقول: رغم أن عددا من هذه المواقف كان يدل على استحالة الوصول إلى حرية حقيقية، إلا أن رسوخ الفكرة في أنفسهم منعهم من إدراك ذلك أو بالأحرى: لم يكونوا مستعدين -ولو أدركو- لتغيير سياستهم.

ولكن: حيث وصلنا إلى القناعة بأنه لا يمكن الوصول لمرحلة "الحرية" تمهيدا لمرحلة "الإسلام"، وحيث رأينا عدونا لا يسمح بالوصول إلى هذه المرحلة.. فالواجب إذن، أن نقصد مباشرة إلى مرحلة "الإسلام" و"الشريعة" و"الحكم الإسلامي".

د. الشعوب المسلمة تستطيع مقاومة الديمقراطية الغربية بقدر ما بقي فيها من قيم إسلامية تجعل الهيمنة للشريعة، بقدر ما فيها من حرية منابر ومساجد، بقدر ما فيها من تماسك اجتماعي.

هـ. الشعوب المسلمية تُخترق بقدر ما وصل إليها من قيم غربية، وإعلام منفلت، وأموال فاسدة، وانهيار اجتماعي، وابتعاد عن الدين.. ففي ظل الانهيار الاجتماعي والابتعاد عن الدين تبدأ الأموال الفاسدة والإعلام الفاسد في تحقيق أهدافها.

و. الشعوب تُخاطب بالوضوح.. وأما الغموض والتذبذب الذي تفرضه توازنات الساسة والفرقاء فلا يرضيهم ولا يرضي هؤلاء الفرقاء.

ز. الثورات تنتصر بالحسم، وأنصاف الثورات قبور الثوار.

حـ. الثورات في عالمنا العربي والإسلامي لا تقوم بغير الإسلام، ومحاولة تجنيب الإسلام لتجنب السخط الدولي كمحاولة تغطية الشمس بثوب!

نسأل الله الرشاد والثبات.

الثلاثاء، أكتوبر 21، 2014

المعركتان



من الآثار الهامشية للثورة البلشفية في روسيا أنها أدت إلى تسريب الاتفاق التاريخي بين بريطانيا وفرنسا حول تقسيم أراضي العرب الذي عرف باتفاقية سايكس بيكو، لكن هذه الفضيحة لم تحل أبدا دون أن تمضي الاتفاقية في تحقيق غايتها، لسبب بسيط: أنه سواء علم المعنيون بها أم جهلوا فإنهم كانوا أعجز عن فعل شيء إزاءها.
ليس من شك في أن أطراف الاتفاقية كانوا يفضلون بقاءها سرا، إلا أن خروجها إلى العلن وإن تسبب في مضايقات لم يتسبب في تعطيلها وتعويقها!

هما إذن معركتان: معركة الوعي، ومعركة السلاح!

فليس أفشل من القوي الغبي إلا النبيه العاجز، ولربما كانت حسرة هذا الأخير أضعافا مضاعفة، فهو يرى ويسمع ثم يعجز! فتنفذ فيه إرادة عدوه دون أن يستطيع لها ردا!

ومن هنا احتاجت الأنظمة الفرعونية دائما إلى فئتين: الكهنة (أو السحرة) والجنود! فهؤلاء يفسدون الوعي ويستعبدون الناس للفرعون، وأولئك يقفون بالمرصاد لمن نجا وعيه واستطاع أن يفهم ما يحاول الإعلام تزييفه.

ومن هنا كذلك كان قوام الدين –كما قال ابن تيمية- كتاب "يهدي وسيف ينصر"! وكان نبينا الذي أرسله الله رحمة للعالمين داعية مجاهدا، رسالته تدفع الناس نحو التفكر والتأمل والتعقل والنظر، ثم تدفع من آمن منهم إلى أن يجاهدوا الباطل بأنفسهم وأموالهم، وإلا أهلكتهم جيوش الباطل (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة).

ولذلك فإن كل حركة إصلاح لا تنتبه للأمرين معا فإنها تفشل أو تُوَظَّف، فإما أصابها غلوٌّ يفضي بها إلى أن تكون كالثور الهائج لا يفرق بين عدو وحبيب، أو أصابها تفريط يجعلها كالفريسة المخدوعة يتآمر القوم على ذبحها وتقسيمها فلا تعطيهم من نفسها إلا نظرة المحب الشفوق، ولربما استغاثت من عدوها بعدوها فلم تفق إلا لحظة ذبحها، وكان آخر ما طالعته: ضحكة ساخرة شريرة!

هذا الانقلاب العسكري في مصر خير مثال!

إذ لم يكن يستطيع السحرة والكهنة أكثر من شحن النفوس بالغضب، وإخراجهم في حشود، ثم تصويرهم، وما كاد الليل أن ينقضي حتى انفض السامر! وفرغت الشحنة وعادت الحشود إلى البيوت.

وهنا استلم الجنود الزمام، فخرجوا يترجمون هذه الحالة إلى وضع جديد وواقع جديد، وبالسلاح وحده سفكوا الدماء وسيطروا على البلاد وانتهبوا الأموال وانتهكوا الأعراض، ولا تسل عن شرعية، فالشرعية هي السلاح!
 
لم يكن أحد الجناحين ليستطيع التخلي عن الآخر، وبذات القدر، لن تتمكن حركة مقاومة الانقلاب من إسقاطه بأحد الجناحين دون الآخر.

الاثنين، أكتوبر 20، 2014

ملامح قرنين فاصلين في التاريخ المصري




محمد إلهامي[1]

من أهم الفوارق بين الدولة في الإسلام والدولة الحديثة، هو أن الدولة الإسلامية تقوم على مبدأ "توازن القوى" في المجتمع، بينما تقوم الدولة الحديثة على احتكار القوة بيد السلطة. وينتج عن هذا أن السلطة في الدولة الإسلامية تقوم بالواجبات الكفائية التي لا يستطيع أحد غير السلطة أدائها مثل توفير الأمن وحفظ الثغور وإقامة الحدود وجمع الأموال المفروضة وتوزيعها فيما يقوم المجتمع بكافة الأنشطة الأخرى وقد يزاحم السلطة في بعض الأعمال كالتكافل ورعاية الفقراء والأيتام ويعتمد في هذا على الابتكار الإسلامي المبدع "الأوقاف" الذي يمثل جهاز تمويل ضخم لكل هذه الأنشطة، بينما تقوم السلطة في الدولة الحديثة بكافة الأنشطة وتتحكم في كل التفاصيل وتدير كل المرافق وتوزع الأموال ولا يملك المجتمع أن يتحرك في أي نشاط بغير إذن وتصريح منها.

ساد النظام الإسلامي في الشرق، بينما ساد نظام الدولة الحديثة في الغرب، ومن هنا كان المجتمع الإسلامي أشد ترابطا وتماسكا وقوة من المجتمعات الغربية، وكان الفرد متوزعا بين انتماءات عديدة: قبلية واجتماعية وحرفية، بينما كان النظام الغربي يميل إلى الفردية[2] عبر تاريخه، ففيما تواجه السلطة في النظام الإسلامي كتلا اجتماعية في عموم الأحوال تواجه السلطة في النظام الغربي مواطنين أفرادا في عموم الأحوال.

عصر محمد علي

يعتبر عصر محمد علي انقلابا في التاريخ الإسلامي، إذ هو مؤسس الدولة الحديثة في مصر، والدولة الحديثة نشأت في سياق غربي طبيعي وبدت في ذلك الوقت وكأنها الحل الأمثل للمجتمعات، وذلك أن التفوق الغربي العسكري والصناعي جعل الأنظار في القسطنطينية والقاهرة تتوجه إلى هذا الغرب تبتغي تقليده ومعرفة سر قوته، ولذلك استعانت السلطنة العثمانية وسلطنة محمد علي في مصر بالخبراء الأجانب والنظم الأجنبية في تطوير البلاد الإسلامية، فدخلت إلينا الدولة المركزية.

وفيما لاحظ نجباء العالم الإسلامي آنذاك أن سر التفوق الغربي ليس فقط في تنمية الموارد وإنما في الحريات السياسية وانتشار العلوم[3]، إلا أن السلطات في مصر وتركيا وغيرها لم ترحب بهذه الآراء ولم يهمهما إلا أن تأخذ ظواهر المسألة "التنظيم الإداري"، الذي يؤول في أحد وجوهه إلى تركيز السلطة كاملة بيد الدولة (وهي في الحالة الإسلامية آنذاك: الحاكم الفرد الذي لا تقيد سلطته سلطات أخرى شعبية كما في إنجلترا وفرنسا)، فبدأ محمد علي حربه بتحطيم النظام الاجتماعي الذي لا يتناسب بطبيعة الحال مع هذا الوضع الجديد[4]، فحطم رؤوس العائلات لكي لا يبقى في البلد رأس غيره، وحطم نظام الحرفيين وتجمعاتهم لأن الدولة صار لها مصانع تريدهم، والفلاحين لأن الدولة صارت مسيطرة على نظام الري وتوزيع الأراضي، وفي ضربة هائلة ألغى نظام الأوقاف واستولى على كل ما لم يستطع صاحبه إثبات أنه وقف (ولم يكن الزمن زمن اهتمام بالتوثيق) متعهدا بأن الدولة هي من ستنفق على مصارف الأوقاف، وفي ضربة قاصمة منع على الناس حمل السلاح أو الاحتفاظ به[5] فسلب الأمة حقا طبيعيا ظلت متمتعة به منذ وُجِدت متعهدا بأن السلاح في يد الدولة ضمان للجميع (وهذا ما لم يكن صحيحا بالطبع) وأسس جيشا على الطراز الحديث (وهذا الطراز ربما كان مناسبا لأوروبا التي تستعبد الأرض والفلاحين في سياقها الإقطاعي، لكنه في المجتمع الإسلامي أشبه بتكوين عصابات مرتزقة) ليس للجندي ولاء لأحد إلا للدولة، وتدليلا على هذا فقد كافأ جنديا قتل أباه في إخماد احتجاج ضد سياسة محمد علي.. وأسس محمد علي مدارس لتعليم العلوم أدارها أجانب بطبيعة الحال وأدخلوا فيها فلسفاتهم دون علومهم.

عصر أبناء محمد علي

ومات محمد علي وقد استطاع سحق الشعب المصري وتدجينه وتغيير نظامه الاجتماعي والاقتصادي، وصحيحٌ أنه أنجز كثيرا على مستوى البنيان والعمران لكنه قتل الروح والإنسان، ثم خلفه أبناؤه فواصلوا سياسة أبيهم إلا أنهم كانوا أقل منه شأنا وهمة، وكان بعضهم مثل إسماعيل مفتونا بأوروبا وكان غاية في التبذير، فكانت فرصة متميزة لنمو نفوذ الأجانب الذين أوجدوا كطبقة لها نفوذ منذ عصر محمد علي. لكنها اكتسبت مزيدا من النفوذ من خلال قوانين تجعل لهم وضعا اقتصاديا وقانونيا خاصا، بل وتجعلهم تابعون لسيادة دولهم دون الدولة المصرية، بل ويحكم القناصل الأجانب في أي قضية طرفها أجنبي، مما آل –واقعيا- إلى جعل النفوذ الأجنبي أقوى من النفوذ المصري.

ومن هنا تحول عصر محمد علي من حكم الفرد إلى "نظام"، وصارت له مؤسسات وطبقات منتفعة، فترسخ التغير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي بدأه محمد علي، فيما استمر ضعف النظام السياسي بضعف خلفائه، فضعف ما خلفه محمد علي من البنيان والعمران، فاجتمع على الناس الأشدان الأمران: مساوئ الدولة المركزية، والاستبداد. فكانت خيرات البلاد غير منصرفة إلى تقوية الجيوش والعمران كما في عصر محمد علي بل كانت تذهب رأسا إلى الأجانب والمتنفذين.

استدعى هذا ثورة شعبية برزت أهم فصولها في الجيش المصري، وقادها واحد من طبقة الترك ترفع عن انتمائه وآثر الانتماء إلى الحق أولا وهو محمود سامي البارودي، وكان ذراعه فيها أحمد عرابي، مع لفيف من القيادات الإصلاحية (كجمال الدين الأفغاني الذي بذر بذورها، والشيخ محمد عبده، والشيخ عبد الله النديم الذي كان لهيبها وخطيبها وصوتها الشعبي) والاجتماعية.

وفيما الأمور في شد وجذب مع الخديو توفيق، سارع الإنجليز بالدخول على الخط ليسبقوا الثورة (وتقول مصادر فرنسية بأن فرنسا وافقت لأن وجود إنجلترا "العدو اللدود" في مصر خير من ثورة إسلامية)، ونزلت الجيوش الإنجليزية ولم يكن الجيش المصري (بعد نحو أربعين سنة من الضعف والتخريب) في حال يسمح له بالتصدي له، فهزمت الثورة والجيس والبلد معا، واستلم الاحتلال الإنجليزي بلدا ذات شعب قد استوى تدجينه عبر ثمانين سنة!

وكان هذا أحد آثار محمد علي في مصر، إذ الشعب بعدما نُزِع منه السلاح عجز عن مقاومة شعبية كتلك التي أشعلها في وجه الفرنسيين قبل ثمانين سنة، كما أن تخريب بنيته الاجتماعية والاقتصادية وإقامة الدولة كبديل عن المجتمع أدى إلى أن يكون سقوط الجيش الرسمي سقوطا للمقاومة، وسقوط العاصمة سقوطا للدولة والاستيلاء على مؤسسات الدولة هو استيلاء على مفاصل المجتمع.

عصر الاحتلال

عاش الاحتلال الإنجليزي سبعين عاما في مصر، وقد وجد بلدا مهيئا للاحتلال، وتحالف في وجوده مع الطبقة الحاكمة المتنفذة (الأرستقراطية التركية: الملك والعائلة العلوية والحاشية + طبقة كبار الملاك المصريين) التي اتخذ منها ظهيرا معلنا وكذلك معارضة معلنة!

عمل الاحتلال على ترسيخ النظم التي أسسها محمد علي، مع إضعاف متعمد للمؤسسات الإسلامية كالأزهر، واتخذ تدابير لإضعاف الجيش في بداية الأمر وذلك لكي يعيد إنشاء جيش وشرطة على عينه، وقد كان، ومنذ تلك اللحظة حتى كتابة هذه السطور كانت الشرطة والجيش في مصر أذرع تعمل في صالح الاحتلال وإن بشكل غير مباشر.

لقد حافظ الاحتلال على المؤسسات المصرية ليجعل منها قلاعا للتغريب، واستعمل كل الإمكانيات المصرية في خدمة مصالحه، حتى الجيش المصري استعمله في حروبه، واستطاع الجيش المصري في الحرب العالمية الأولى القضاء على ثورة في السودان ضد الإنجليز والسنوسيين في الغرب وهزيمة القوات العثمانية عند قناة السويس (مما أدى بشكل مباشر لاحتلال الإنجليز لفلسطين وضياع القدس)، وعملت أنظمة التعليم والثقافة والإعلام على ترسيخ القيم الغربية وإفراز نخب وطبقة متغربة تمثل ظهيرا له، واستطاع من خلال بعضهم (سعد زعلول وحزب الوفد) إجهاض ثورة شعبية كبرى اندلعت في (1919م) حتى أدخلها في دهاليز ومتاهات التفاوض (وقد فشلت المفاوضات بطبيعة الحال، فالثورة لحظة فارقة) وقضى عليها، وعادت الأحزاب الهامشية تتعارك حول سلطة وهمية تحت ظل حراب الاحتلال.

الحكم العسكري

يتفق جمهور المؤرخين على أن مصر في مطلع الخمسينات كانت تغلي وتتهيأ لثورة شعبية جديدة، حتى إن حزب الوفد نفسه اتضح أنه فقد السيطرة على الجماهير، وظهرت حركات أشد فتوة وثورية وإن كانت نقطة ضعفها الرئيسية أنها كانت خارج نطاق الحكم والسلطة، وبالتالي ضعيفة التأثير في إحداث تغيير كبير.

وترافق ذلك مع انتهاء الحرب العالمية الثانية التي أسفرت عن أفول نجم إنجلترا وفرنسا وبزوغ نجم أمريكا والاتحاد السوفيتي، وبدأت القوتان الجديدتان في وراثة القوتان الشائختان، وكانت مصر من نصيب الأمريكان التي استطاعت ترتيب انقلاب عسكري في يوليو 1952م، وسبق ذلك انقلابات مماثلة في سوريا وتبع ذلك انقلابات أخرى في العراق مع ترتيب الوضع مع عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود في السعودية.. فالخلاصة أن أمريكا ورثت منطقة الشرق الأوسط.

لئن عانى المصريون من استبداد محمد علي، ثم أضيف عليهم مساوئ الدولة المركزية الفاسدة في عهد خلفائه، ثم أضيف عليهم الاحتلال الأجنبي.. فلقد جاءت لحظة تمثل الأمل، لأول مرة يحكم المصريون مصري، فأحرى به أن يكون مخلصا لبلاده غير تابع لأحد!

إلا أن الحال جاء عكس الحال، فقد كان الحكم العسكري أسوأ الأحقاب على هذه البلاد قاطبة، وقد فعل بالمصريين ما لم يجرؤ الاحتلال الإنجليزي نفسه على فعله، لقد أكمل سياسة المحتلين بأشرس ما يمكن، وتفنن في إذلال المجتمع وكسر طاقاته الثورية والروحية، وفقد المصريون حتى أخلاق الملوك فجاءهم شراذم الناس وأسافلهم في موقع السلطة، فاجتمعت أخلاق السفلة مع طباع العسكرية الغليظة الجلفة، وتدهورت البلاد بسرعة غير متصورة على كافة المستويات: اقتصادا وثقافة وسياسة وحتى قدرة عسكرية، ولم يحقق العسكر –وهم في موقع السلطة- ولا نصرا واحدا، بل كان عهدهم سلسلة من الهزائم المتوالية، وضاعت في عهودهم أرض العرب والمسلمين، ولم يكن لهم من إنجاز إلا في سحق الشعوب وكسر ثوراتها.

لم يُسمح في عهد عبد الناصر بمجرد وجود معارضة، وكانت السجون والمعتقلات تفتح أفواهها لكل من يشتم منه رائحة عدم الرضا، وحورب الإسلام لا بحرب أهله فحسب بل بحرب القيم، وأدخلت الشيوعية قهرا وقسرا في مؤسسات الإعلام والتعليم والثقافة، وألغيت آخر مظاهر الإسلام في المؤسسات: المحاكم الشرعية، ولم يبق من الشريعة إلا الأحوال الشخصية تقضي بها محاكم علمانية وقضاة لم يتلقوا قسطا كافيا من علم الشريعة.. أما باقي المؤسسات والأنشطة فكانت الشيوعية هي الدين الذي يسيطر عليها وتنطق باسمه.

واضطر أنور السادات –بعدما خلف عبد الناصر- إلى الاستعانة بالإسلاميين لتقوية جانبه ضد رجال عبد الناصر والشيوعيين، وخاض حرب أكتوبر –وهي في أحسن الأحوال نصف نصر عسكري- التي يراها كثير من المحللين حرب تحريك لا تحرير، إذ تفيد مجمل مذكرات شهود هذه الفترة أن السادات كان يريد إنهاء الحرب والوصول إلى سلام بأي ثمن وبأي تنازلات، وقد أفضى هذا إلى معاهدة سلام تمثل فضيحة سياسية فوق كونها جريمة شرعية مع إسرائيل!

وفي سياق تحولات السادات عن سياسية عبد الناصر، بدأ في التحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية، وأهم ملامحها الانفتاح الاقتصادي (ولم يفكر أبدا في انفتاح سياسي حقيقي، بل سمح بانفتاح شكلي يمكن من خلاله إنشاء أحزاب ووجود معارضة صورية تعمل بإذن من الدولة وتحت سيطرتها الكاملة)، فأنتج هذا بزوغا سريعا لطبقة تجارية مصرية قلبت لمرة أخرى البناء الاجتماعي المصري، وبذرت فيه بذرة الاستهلاكية والنشاطات الترفيهية والخدمية (دون الاقتصاد الحقيقي والتصنيع)، فظهرت في مصر آثار التحول إلى الرأسمالية بأسرع وأعنف ما يمكن: مثل الهجرة المتتالية من الريف إلى المدن مع ما يحمله ذلك من مشكلات اجتماعية للريف والمدينة على حد سواء، ومن انهيار للأخلاق الراسخة ليحل محلها أخلاق السوق النفعية، ثم كان وجود الفساد في مؤسسات الدولة مما جعل السياق كله عاملا على دفن المواهب الحقيقية في مقابل صعود الانتهازيين والمتطفلين، لأن مؤسسات الدولة لم تعد ذات كفاءة لتخريج الأفضل، مع قدرة الطبقة الجديدة المتشكلة حول السلطة على أن تكون طبقة مغلقة لا يدخلها إلا ذوي المواهب في التملق والتسلق.

ثم جاء عصر حسني مبارك، وهو رجل بليد بلا رؤية ولا مواهب ولا إنجاز، وطال عمره حتى حكم ثلاثين سنة كأنما وُضِعت فيها البلد في ثلاجة، فلم تحدث تحولات مهمة إلا أن مسار المساوئ التاريخية منذ عصر محمد علي صار ينمو ويضطرد ويزيد، فازدادت شدة وتماسك الطبقة الحاكمة المؤلفة من عسكر ورجال أعمال، وانتهى إلى العدم إي إصلاح سياسي حتى وصل الحال به في سنواته الأخيرة أن يمهد لتوريث الحكم لابنه فيما يشكل انقلابا على مبدأ الجمهورية نفسه الذي اكتسب منذ ستين سنة، وازداد التدهور على كل المستويات حتى صارت مصر ذراعا أمريكيا صريحا في حرب الحركات الإسلامية في مصر وسائر المنطقة العربية، وتولت تقويض المقاومة الإسلامية في فلسطين (حماس وغيرها)، وسارت في طريق التطبيع مع إسرائيل إلى آخر الشوط حتى عُدَّ حسني مبارك كنزا استراتيجيا للإسرائيليين.

على أن ترسيخ الرأسمالية هذا (الانفتاح الاقتصادي دون الانفتاح السياسي) لم يكن خالصا، فما إن ظهرت طبقة من رجال الأعمال تعمل في الاقتصاد الحقيقي حتى صفيت، فيما عرف بتصفية شركات توظيف الأموال، وهو ما يراه المفكر المصري القدير الضربة الرابعة في تاريخنا المعاصر، إذ تعرضت الطبقة البورجوازية الوطنية في بلادنا –وهي الطبقة التي قامت على أكتافها كل النهضة المعاصرة في أمريكا وأوروبا واليابان- لأربع ضربات قاسية فالأولى هي ضربة محمد علي، والثانية هي ضربة الاحتلال الإنجليزي، والثالثة هي ضربة عبد الناصر، والرابعة هي ضربة حسني مبارك لشركات توظيف الأموال.

ثم جاءت ثورة يناير 2011، وما تزال فصولها دائرة، وحقيقة المعركة بينها وبين النظام هو في قدرتها على إنهاء دولة محمد علي العسكرية الاستبدادية المركزية وما نشأ حولها من طبقة اقتصادية نفعية انتهازية لصالح تمكين حقيقي للشعب وصياغة جديدة للبناء الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. وهذا البناء الجديد لا يكون إلا بالإسلام الذي له من العمق والرسوخ كما له من القدرة على تثوير الناس وإشعال طاقاتهم ما يجعله الأقدر على إنجاز التغيير الأسرع والأعمق والأقوى.

هذا بالإضافة إلى ما للإسلام من نمط في بناء الدولة والمجتمع يقوم على "توازن القوى" بين السلطة والمجتمع، وهو سر النهضة الإسلامية الأولى، وهو ما اقتبس بعضه النظام الحديث في جانب "مؤسسات المجتمع المدني" التي لم تبلغ شيئا مما بلغه النشاط المجتمعي الإسلامي لطبيعة نظام الدولة الحديثة نفسه.
من الطبيعي أن تكون المعركة قاسية ومريرة، ولكن ما دام للثورة رجال يبذلون وسعهم ويستعينون بالله على عدوهم، فالنصر بإذن الله قريب ومأمول.


[1] باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية، تويتر @melhamy
[2] الفردية من الأعمدة الستة للحضارة الغربية كما في كتاب "انتحار الغرب" لريتشارد كوك وكريس سميث، وهي شائعة في الفلسفة الغربية عموما.
[3] ويراجع هنا ما كتبه أمثال الشيخ رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وأحمد فارس الشدياق، وهم أوائل الرحالة الذين زاروا أوروبا في ذلك الوقت وكتبوا رحلاتهم وفيها خلاصة أسفارهم.
[4] كان محمد علي نموذجا مبكرا من أتاتورك في تركيا والشاه رضا بهلوي في إيران وأمان الله خان في أفغانستان.
[5] وهذا رغم أن السلاح الموجود بيد الأمة هذا قد أنقذ له عرشه إذ استطاع المصريون وبمقاومة شعبية صد حملة فريزر الإنجليزية (1807) قبل أن يتحرك لها محمد علي.