الثلاثاء، أكتوبر 25، 2011

عن ضرورة النزول في جمعة "المطلب الوحيد"

حين ترك المصريون ميدان التحرير بعد تنحي المخلوع، كانت تملؤهم الثقة في أن ثورتهم قد نجحت، وفي أن الجيش المصري "العظيم" سيأخذ بيد الثورة حتى تسليمه إلى سلطة مدنية منتخبة بأقل الخسائر وأكثر الطرق أمانا، ذلك أن الجيش كان –ولا يزال- المؤسسة المتماسكة القادرة على حماية الخيط الأخير في حلقة انهيار الدولة.

عظيم.. هذا بحد ذاته دليل على أن الثوار لا يحبون الثورة بطبيعتهم، ولا يدمنون الاعتصامات، ولا لديهم هوس بالمظاهرات، ولا وُلِدوا ملتصقين بميدان التحرير.. لقد تركوه عندما كانت لديهم الثقة، ولذلك عادوا إليه كلما افتقدوا إلى الثقة.

لا يغيب عن بالي كلمات عبد الناصر لحسن العشماوي قبل ستين سنة حين صرح له أنه لا بد من التضييق على هذا الشعب في الرزق لكي ينشغل بحاله ويكون طيِّعا، وهو ما فهمه حسن العشماوي، ورواه بعدئذ في كتابه "مذكرات هارب" بعد أن طاردته شرطة عبد الناصر في قصة إنسانية غاية في الإثارة والمأساة!

لقد كان حسن العشماوي أحد المخدوعين في ضباط 52، وقد دفع المخدوعون حينها ثمن انخداعهم باهظا، سجون ومعتقلات ومشانق وأسر أكلت التراب ولم تجد حتى الثياب الممزقة تستتر بها، وقبلهم وبعدهم دفع الوطن من عمره وحريته وموارده ستين سنة هي في عمر التخلف الحضاري والعلمي والاقتصادي أكثر من الف سنة!

حسنا، لنتكلم بوضوح:

1. الجيش نكث عهده مع الشعب، ومضت ثمانية أشهر بدون خطوة حقيقية على مسار التحول الديمقراطي، والطريف –بل الصاعق- أن المجلس العسكري قد صرح بعدة تصريحات تنسف ما يُتوهم أنه مسار للتحول الديمقراطي، أخطرها تصريحان؛ الأول: عن أن المجلس غير ملزم بأن يكلف الأغلبية بتشكيل الحكومة فالنظام ما زال "رئاسيا"، والثاني: أن القائد العام للقوات المسلحة لن يعينه حتى الرئيس المنتخب!!

2. ثم استطاع الفريق سامي عنان ومجموعته القيام بخدعة، نعترف به فيها بالمهارة الرائعة، لمجموعة الأحزاب الثلاثة عشر، فاستخلص منهم موافقة على جدول زمني قاتل للثورة بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ، ثم أمسك في تلابيب هذا الاتفاق، برغم أن هذه الأحزاب لا تمثل الشعب المصري وبرغم تراجع بعض الموقعين عن الاتفاق!

3. هذه الخطوات أفضت إلى أن الفترة الزمنية لم تعد ستة أشهر، بل صارت مفتوحة بلا حد، ومليئة بالفخاخ.. وحتى لو تم كل شيء في الحد الأدنى من الزمن فإن البرلمان القادم منزوع الصلاحيات، بل حتى الرئيس المنتخب لديه بعض الخطوط الحمر!

الآن تسود الساحة نوعين من الرؤى: رؤية وطنية، ورؤية أنانية انتهازية سافلة (لا أحب التهذب في موضع الحقيقة).. وهي تلك الرؤية التي تريد الإبقاء على حكم العسكر غير الشرعي وغير الديمقراطي وغير المنتخب لأنهم يعلمون موقعهم ومكانتهم الشعبية، فهم على استعداد صريح للتضحية بالوطن ومستقبله إذا لم يكونوا ذا مكانة فيه.

وأما الرؤية الوطنية فهي تنقسم إلى تيارين، تيار يسير مع الجدول الزمني الممطوط ويريد أن يلاعب العسكر ويثق بقدرته على استدعاء الحشد الشعبي في الوقت الذي يحيد فيه العسكر عن طريق تسليم السلطة، والتيار الآخر يريد من الآن تقليص الجدول الزمني والمطالبة بانتخابات رئاسية قبل وضع الدستور، وهذا التيار هو الذي يدعو للنزول والحشد في مليونية يوم الجمعة 28/10/2011 في ميدان التحرير للضغط حتى إصدار قرار بهذا المعنى.

وأعلن أنني منحاز تماما وبكل كياني إلى هذا التيار الثاني، وأدعو للنزول يوم الجمعة في مليونية تتطور إلى اعتصام حتى يتم إصدار قرار بإجراء الانتخابات الرئاسية في إبريل أو مايو 2012 بحد أقصى.. وأسوق في دعم هذا بعض الاعتبارات:

أولا: بالنسبة لأروقة الحكم

1. لا ضرورة أبدا، بل ولا شبهة ضرورة، في أن يظل العسكر في الحكم حتى يتم كتابة الدستور والموافقة عليه في الاستفتاء الشعبي.. ما المانع أن ينتخب رئيس يمارس الصلاحيات كما هي في الإعلان الدستوري، وليُكتب الدستور على السعة.

2. كتابة الدستور في ظل رئيس مدني منتخب لم يستكمل أسباب الديكتاتورية خير ألف مرة من كتابته في ظل حكم عسكري.

3. ستثور مشكلات لا شك حول لجنة كتابة الدستور، ثم حول مواد الدستور، وهذا نقاش يطول، وقد تكون نتيجة الاستفتاء الشعبي رفض الدستور، وفي هذه الحالة ستمتد الفترة الانتقالية سنة أخرى، فهل سنة أخرى تحت حكم رئيس مدني منتخب أفضل أم تحت حكم عسكري؟

4. وفي حالة انتفاء الثقة في العسكر –الذين أجبرونا على العودة لميدان التحرير في كل قرار- فالشك قائم في تدخلهم في صياغة مواد فوق دستورية أو تعيين أعضاء في الشعب والشورى ثم إدخالهم لجنة الدستور لتفجيرها أو تفخيخها.. ففي النهاية لا مجال للمقارنة بين الثقة في رئيس مدني منتخب لا يستطيع أن يكون ديكتاتورا في شهور، وبين مجلس عسكري يزداد كل يوم ترسخا في الحكم وينجذب له مزيد من المنافقين، ويدير كل علاقات البلد الداخلية والخارجية في الكواليس دون أدنى قدر من الشفافية.

5. حتى لو جرت انتخابات نزيهة وأفرزت برلمانا نزيها، فإن الحقيقة أنه سيكون بلا صلاحيات مؤثرة لأن النظام ما زال رئاسيا، المعركة الحقيقية تكمن في انتخابات الرئاسة وتأجيل هذه المعركة إلى ما بعد سنة ونصف سيجعل قدرة العسكر على المناورة أفضل جدا، فهو سيلاعب القوى السياسية بما حصلت عليه من مكاسب، وسينسحب من المعركة كل من لا يقدر أو لا يريد المنافسة على الرئاسة.

6. والخارج، لماذا يبدو المحللون والمراقبون في مصر وكأنهم نسوا الخارج تمامًا، من ذا الذي يشك ولو لحظة أن أمريكا وإسرائيل والغرب ليسوا على الخط الساخن المفتوح مع المجلس العسكري منذ اندلاع الثورة على الأقل.. حين نترك كل هذا الوقت لإدارة البلد من خلال هذا الخط الساخن ودون أي شفافية، فيما يظل الشعب في موقع الانتظار والمفعول به، فأي الحالين أفضل: أن تكون المواجهة الآن أم بعد سنة ونصف على الأقل، هذا مع الإقرار بأن الوقت الذي خسرناه قد لا يُعوض؟!

7. إذا كان الوقت الذي مضى أثبت لنا أن الإسلاميون (وهم القوى السياسية الحقيقية الوحيدة بحكم الأمر الواقع) في العموم لا يُفضِّلون المواجهة مع المجلس العسكري مع كل ما حدث في هذه الشهور (انخداعا أو خوفا – لا فرق الآن) فلماذا نتوقع أنهم سيفكرون في المواجهة حين يتبين لهم أن العسكر قد نكثوا العهد. أغلب الظن أنهم لن يخاطروا بأنفسهم ولا بكياناتهم (التي ستكون قد أخذت حريات جزئية ومقاعد برلمانية وربما وزارات هامشية) وسيتواءمون مع الواقع ويرضون به. أقول هذا وأنا من الإسلاميين، وأقوله مقرا به وكلي حسرة!

ثانيا: بالنسبة للزخم الثوري

8. لعل أحدا لا يشك في أن الزخم الثوري يتراجع بالفعل، وإذا كانت القوى الوطنية تعاني من حشد مليونية بعد عشرة أشهر من الثورة، فكيف بها بعد سنة ونصف أخرى على الأقل.

9. يخدع نفسه جدا ذلك الذي يظن أن الزخم الثوري سيستمر، وأنه قادر على حشد الناس دائما وقتما يحب، دعونا نتذكر مثلا (وهذا المثال أهديه للإسلاميين خصوصا) أن الحشد الذي صرفه عبد القادر عودة في مظاهرة عابدين 1954 لم يُر مرة أخرى على الإطلاق رغم ما نزل بالأمة والوطن من كوارث.. وكل مطالب المظاهرة من سلطة مدنية وعودة نجيب تم سحقها دون أن ينبس أحد ببنت شفة، ولا حتى في السجون التي قُهِر فيها المعتقلون على الهتاف بحياة جلاديهم!

10. ذلك أن الوقت عنصر فاعل، فكما أن الوقت يُنسي الهموم ويداوي الجروح، فهو أيضا يرسخ المشكلات والأزمات.. ثمة لحظات فارقة تساوي أعمارا طويلة، وهذا الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى دليل، كم مرة فاتتك الطائرة لأنك تأخرت دقائق فاضطررت أن تتأخر يوما أو شهرا أو تلغي السفر كله.. الثمن لم يكن تلك الدقائق، بل كان ثمنا باهظا، وهذا إن أمكن دفع الثمن وتعويض الخسارة أصلا.. ولذا فخوض المعركة في هذه اللحظة أفضل بما لا يقارن من خوضها حين تزداد الثورة تراجعا ويزداد المجلس العسكري رسوخا في الحكم.

هذه عشرة أسباب، أرى أنها فاصلة وواضحة وضرورية في الدعوة للحشد والنزول يوم الجمعة 28/10/2011.. وأتمنى على الله أن يوفق القوى السياسية والثورية، وفي القلب منها رجل المرحلة الرائع: الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، لاستكمال هذا الحشد وأن تكون مليونية وأن تتطور إلى اعتصام.. فإما أن تنجح هذه الثورة وإما أن نعد حقائبنا: إلى السجون أو إلى المهاجر، هذا إن لم يذهب بنا الطغاة الجدد إلى المشانق والمقابر..

الأمر فعلا جد خطير، ولو أن هذه الثورة لم تكن إلا استبدالا لاسم الطاغية مع الإبقاء على المنهج والنظام وفلسفة الحكم فهي ثورة فاشلة، فاشلة فاشلة فاشلة، فاشلة كأخواتها اللاتي سُرِقْن من الشعب في كل مرة..

اللهم قد بلغت..

اللهم فاشهد..

نشر في شبكة رصد الإخبارية

السبت، أكتوبر 08، 2011

شهادة قانوني غربي للشريعة قبل مائة عام!

في حواره مع قناة الجزيرة مباشر مصر لفت المستشار طارق البشري النظر إلى أن المتشكك في الشريعة الإسلامية ليسوا –في العموم- من أهل القانون، بل هم من "النخبة السياسية" التي يمثل جهلها بالإسلام وبالشريعة المشكلة الأساسية في السجال السياسي والثقافي القائم.

على أنه ينبغي أن نضيف شيئا آخر، ذلك أن النظر إلى العلمانيين على أنهم مجرد أصحاب رأي مخالف هو بعض الصورة لا كلها، وتكتمل الصورة حين ننظر إلى الخارج الذي استطاع في سنوات الاستعمار ثم سنوات الاستبداد صناعة قواعد داخلية وطابور خامس ينطق باسمه على لسان عربي، ويروج لأفكاره باللغة العربية.

لكن الخارج وأذنابه قد أفلسوا إفلاسا تاما في المعركة الفكرية، وصاروا يرددون الكلام الذي مضى على إثارته أكثر من قرن من الزمان، وهو الكلام الذي أُشْبِع ردا وتفنيدا من علماء الإسلام بل من المستشرقين المنصفين، ولم يعد أحد يردده ممن يحترم نفسه ويحرص على صورته ومكانته في المجال الفكري[1].

ولمزيد من إثبات هذا الكلام نسوق هنا شهادة دافيد دي سانتيلانا (David de Sautillana) (1855 - 1931م) المستشرق الإيطالي والقانوني الذي تبحر في دراسة الشريعة الإسلامية، وقد اعتمد عليه الاحتلال الفرنسي في تدوين القوانين التونسية، فوضع القانون المدني والتجاري معتمدا على قواعد الشريعة الإسلامية ولكن بالصياغات الأوروبية، وقد تخصص سانيلانا في دراسة المذهب المالكي والشافعي على وجه التحديد، وله في هذا مجموعة من المؤلفات مثل: (ترجمة وشرح الأحكام المالكية)، و(الفقه الإسلامي المالكي ومقارنته بالمذهب الشافعي) في نحو 1300 صفحة، و(القانون والمجتمع) في المقارنة بين الفقه الإسلامي والقوانين الأوربية، و(القوانين المدنية والتجارية) وهو مُصَنَّف كبير وبحث جامع لفقه الحقوق الإسلامية، وله أيضًا (ملخص ابن الإنسان) للشيخ طنطاوي جوهري، و(الخلافة والسلطان في الشرع الإسلامي)، كما ترجم الجزء الثاني من كتاب (مختصر خليل) في الفقه المالكي مع تعليقات عليه[2].

***

فارق ما بين الشريعة والقانون الوضعي

أدرك سانتيلانا الفارق الجوهري بين القانون الذي يُستمد من الإله، وبين القوانين الوضعية، وأثر هذا الفارق في تنظيم سلوك الناس وفي وحدتهم الاجتماعية، يقول:

"إن أساس الوحدة الاجتماعية المسمى في المجتمعات الأخرى (حكومة) يُمَثِّلُه (الله) عند الإسلام؛ فالله هو الاسم الذي يُطْلَق على السلطة العاملة في حقل المصلحة العامة، وعلى هذا المنوال يكون بيت المال هو (بيت مال الله)، والجند هم (جند الله)، حتى الموظفون العموميون هم (عمال الله)، وليست العلاقة بين الله والمؤمن بأقل من ذلك، ولا يوجد بين المؤمن وربه وسيط، وما دام الإسلام لا يقرُّ بسلطان كنسي وكهنوتي، ولا يعترف بأسرار مقدسة، فأي فائدة تُرْتجى من الوسيط بين الإنسان وبين خالقه، الذي كان يعرفه قبل أن يُبدعه، والذي هو أقرب إليه من حبل الوريد"[3].

إن أقوى ما يصنعه الدين هو تحويل الشريعة والقوانين إلى التزامات دينية قبل أن تكون التزامات مجتمعية، فيضع الإنسان أمام ضميرة، يقول سانتيلانا: "الخضوع لهذا القانون إنما هو واجب اجتماعي وفرض ديني في الوقت نفسه، ومن ينتهك حرمته أو يشقّ عصا الطاعة عليه لا يأثم تجاه النظام الاجتماعي، بل يقترف خطيئة دينية أيضًا".

أسفر هذا الامتزاج بين الدين والقانون في الشريعة الإسلامية عن نتائج مثيرة، يقول سانتيلانا: "نتيجة هذه الرُّوح الجميلة الخلابة في الشريعة ما كانت ممارسة الحق إلا إنجازُ واجبٍ؛ لأنه إن كان الحقُّ شيئًا حسنًا، فلا يمكن إغفاله، وإهمالُ المطالبة به إثمٌ، ومَنْ يَدَّعِي بملكه مِنْ مغتصب لا حقَّ له فيه إنما يُنجز واجبًا أخلاقيًّا، وفي بقائه ساكنًا مهملاً مطالبته بحقه يجعل الباغي متماديًا في بغيه".

فالأمر لا يقتصر على الحق باعتباره منفعة شخصية بل يُعَدُّ "الحق" قيمة دينية عليا لا يجوز التفريط فيها، "ولكنه إذا كان حق المرء هو منفعته الخاصة وواجبه الأدبي معًا؛ فإن لذلك الحقِّ حدودًا معينة بموجب مبادئ الأخلاق والمصلحة العامة؛ فالصلح والتراضي هما سيِّدَا الأحكام في كل وقت، وأخذ الثأر ممنوع منعًا باتًّا، والتضييق البدني على الْمَدِين مخالف للقانون، ولا اعتساف في استعمال الحقِّ تمامًا؛ إذ ليس لأحد أن يمارس حقًّا له، بالدرجة التي يسبب للآخر ضررًا مُحَقَّقًا، وللفقهاء المسلمين في هذا الصدد إحساس دقيق مرهف يفوق ما نتصوره؛ فمثلاً: يمنع أن يخوِّل حقَّ الادعاء إلى وكيل هو عدو للطرف الذي أُقِيمَتْ عليه الدعوى، وممنوع أن يُؤجر حيوان لشخص عُرِفَ بقسوته على الحيوان، كذلك حُرِّم بيع أمة صغيرة السن لرجل حُرٍّ بالغٍ خشية أن يُغَيِّرها بالفسق أو أن يَطَأَها زانٍ، وهكذا ترسم الأخلاقُ والآداب في كل مسألة حدود القانون".

على أن وجود الدين والإله في المجتمع الإسلامي لا تتنازعه المخاوف من تحول الدين إلى كهنوت، ولا تسمح بتقديس رجال الدين الذين لا سلطة روحية لهم على الناس ولا دور لهم في الوساطة بين العبد وربه، يقول: "إن أشد المذاهب البروتستانتية صرامة إنما تكاد تكون مذهبًا كهنوتيًّا صرفًا إذا ما قورنت بعقيدة التوحيد الراسخة، التي لا تلين ولا تتزعزع، ولا تسمح بالتدخل بين الخالق والمخلوق".

***

الشريعة الإسلامية وقضية الحرية

ومن خلال دراسته في الشريعة فهم سانتيلانا أن القضية الأساسية للشريعة الإسلامية هي "الحرية"، وأن الشريعة تعامل الإنسان باعتبار أصل الحرية فيه، ويرد على من يثير شبهة الاسترقاق بقوله: "أمَّا الرق فهو استثناء لتلك القاعدة (كان آَدم وحواء وكلاهما حُرٌّ)، من هذا المبدأ استخلص الفقهاء مسائل عديدة إليك بعضها:

1. اللقيط المجهول أصله تُرَجَّح حريته على عبوديته.

2. الحرُّ المشكوك في حريته لا يُجْبَر مبادهة على إثبات حريته؛ حتى تنهض القرائن والدلائل القضائية على عكس ما يزعم.

3. تُرَجَّح حالة الحرية عند وجود الشكِّ.

... فالحرية على هذا الأساس لا يمكن أن تُبَاع أو تُشْتَرَى لرغبة ساورت صاحبها، أو لنزوة عارضة، والعبودية التي يختارها المرء بملء رغبته لا تعترف بها الشريعة قانونًا قط، وعلى هذا المنوال تُحَرِّم الشريعة الانتحار".

وحيث أن الأصل في الإنسان هو الحرية، كان طبيعيا أن يسبق الإسلام غيره في إقرار المساواة، يقول: "قد بشر الإسلام بهذه المساواة في وقت لم يعرف عنها العالم المسيحي شيئًا".

ولذا نرى سانتيلانا يستشهد بمقولة رينان: "الإسلام هو دين الإنسان"، ثم يزيد عليها فيقول: "رُوح الشريعة الإسلامية يتسم بطابع جَلِيٍّ هو إفساح أرحب المجال للأعمال البشرية، وهنا نَتَّفِق مع المشترعين والفقهاء المسلمين بأن القاعدة الأساسية في القانون هي (الإباحة) لكن هذه الإباحة لا يمكن أن تكون غير محدودة، فالإنسان بطبعه طماع، كفور، جشع، يميل إلى السطو على مال الآخرين وهو شحيح كَزٌّ يستطيب الخمول، ويستنيم إلى الكسل، وهو كافر بنعم الله، فلو أن الله أطلق الحرية التامة لنزعات كل فرد، وأباح للناس كافة الظلم والتعدي، فإن المجتمع البشري يكون ضربًا من المحال".

***

الروح قبل الإجراءات

ويقر سانتيلانا بأن الشريعة الإسلامية -على خلاف الشرائع الرومانية التي تركت بصماتها على الروح الأوربية المهتمة بالشكل والإجراءات- تهتم بالروح، وتعطي الإرادة البشرية مساحة كبيرة لإقرار المقاصد الشرعية، يقول:

"إن شريعة الإسلام تفسح أوسع المجال لتحكيم الإرادة البشرية، وتُعَلِّق أعظم الأهمية على القصد القانوني لا على نصِّ القانون الحرفي... وقلما كان بطلان أو صحة أي مبدأ قانوني مرهونًا بأمر شكلي أو بنصٍّ حرفي في الشريعة الإسلامية...

لما كان الشرع الإسلامي يستهدف منفعة المجموع، فهو بجوهره شريعة تطورية غير جامدة خلافا لشريعتنا من بعض الوجوه... إنها ليست جامدة، ولا تستند على العرف والعادة، ومدارسها الفقهية العظيمة تتفق كلها على هذا الرأي".

ولهذا يعترف سانتيلانا بالتفوق الكلي والتميز الفارق بين الشريعة الإسلامية والقوانين الأوروبية، يقول: "عبثًا نحاول أن نجد أصولاً واحدة تلتقي فيها الشريعتان الإسلامية والرومانية كما استقرَّ الرأي على ذلك، إن الشريعة الإسلامية ذات الحدود المرسومة والمبادئ الثابتة، لا يمكن إرجاعها أو نسبتها إلى شرائعنا وقوانيننا؛ لأنها شريعة دينية تغاير أفكارنا أصلاً".

***

فضل الشريعة الإسلامية

"إن آيات القرآن فُصِّلَتْ للناس بمعرفة خبير حكيم لتكون شريعة للحرية، وقانونًا للرحمة التي أنعم الله بها على الجنس البشري؛ للتخفيف من صرامة الكتب الإلهية الأولى، فالإسلام هو عَوْد إلى القانون الطبيعي، بل عود إلى الإيمان الأول الذي بَشَّر به الأنبياء والأولياء الأقدمون -نوح وإبراهيم- والذي ابتعد به اليهود والنصارى عن غرضه الحقيقي، إن الشريعة الجديدة ألغت القيود الصارمة والمحرمات المختلفة التي فرضتها شريعة موسى على اليهود، ونسخت الرهبانية المسيحية، وأعلنت رغبتها الصادقة في مسايرة الطبيعة البشرية والنزول إلى مستواها، واستجابت إلى جميع حاجات الإنسان".

"الميزات التي تسم الشريعة الإسلامية في كبد حقيقتها، قد نجرؤ على وضعها في أرفع مكان، وتقليدها أجلَّ مديحِ علماء القانون وهو الخليق بها".

"من بين المسائل القانونية التي غنمناها [في أوروبا] من شريعة المسلمين، الأنظمة القضائية الخاصة بالشركة المحدودة (القيراط)، وبعض المصطلحات القانونية الفنية في قانون التجارة، وإننا لو ضربنا صفحًا عن كل ما تَقَدَّم، فلا شَكَّ وأن المستوى الأخلاقي الرفيع الذي يسم الجانب الأكبر من شريعة العرب قد عَمِلَ على تطوير وترقية مفاهيمنا العصرية، وهنا يكمن فضل هذه الشريعة الباقي على مرِّ الدهور".

***

وأخيرا نقول: إن هذا كلام قانوني غربي لم يُسلم كتبه قبل نحو قرن من الزمان! وإن فيه لعبرة لبعض من لا يريدون الشريعة من أناس من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا!

نشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث



[1] للإفادة: راجع مقالي: مسؤولية الإعلام عن تخلف الأمة، منشور بمجلة الوعي الإسلامي، العدد 552 (شعبان 1432 هـ)، على هذا الرابط: http://melhamy.blogspot.com/2011/07/blog-post_04.html

[2] للتوسع: د. عبد الرحمن بدوي: موسوعة المستشرقين ، دار العلم للملايين، الطبعة الثالثة، بيروت، 1993م. ص341 وما بعدها.

[3] مجموعة: تراث الإسلام، إشراف توماس أرنولد، تعريب جرجيس فتح الله، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، بيروت، 1972م. ص409 وما بعدها.